المنبرالحر

الشيوعي بلوى! / عبد الكريم العبيدي

الوطن عزيز. عشقه لا يدانيه عشق، قبالة عزَّته يرخص كل شيء، "تُستَعذَبُ أرضهُ التي لَا هَوَىَ بِهَا، وَلاَ مَاؤُهَا عَـذبٌ، وَلَكِنهَا وَطَــنُ". يعرف هذا أبناؤه البررة، فلا يحيدون عن عشقهم لحظة، وينكر هذا أعداؤه، فينخرونه بسيِّئات أفعالهم، هذا هو ميزان الوطن، كفة عزته يرفعها المخلصون، وكفة خرابه من حصة السيئين، وبين الرافع والمخرِّب، تظهر صور شتى، تختزل العشق والخراب.
صورة الاختزال هذه ظهرت داخل دائرة رسمية، بين موظفة محتشمة، مؤْتَمنة على المال العام، وبين موظف صار بذمته ما لا يستحق من هذا المال، وبات عليه أن يعيده لخزينة الدولة.
هو موظف متقاعد، أُعيد للخدمة، وظهر بعد التدقيق، أن مجموع المتراكم من المال الزائد الذي استلمه يزيد على أربعة ملايين دينار، فتقرر إعادتها.
صعد الموظف عدة سلالم فأنهكه التعب، دائرة حكومية تستقبل مئات المراجعين يوميا بلا مصعد كهربائي- في الحقيقة المصعد موجود ولكنه عاطلٌ منذ سقوط النظام السابق!
راجع الموظف الدائرة، وقف قبالة موظفة. طالعت الكتب الرسمية والسجلات، ثم رفعت رأسها، حدقت في وجهه، ابتسمت، فتهلل وجهه فرحا، أومأت له أن يتبعها فتبعها، وقفت في زاوية في أقصى الممر، فوقف الموظف، قالت له: إذن مطلوب أن تدفع أربعة ملايين و"كسر.. معلينه بالكسر"، اطمئن، لن أجعلك تدفع هذا المبلغ، "ليش احنه منحس بمعاناة الموظف؟، الوقت صعب، ولازم الواحد يتعاون مع أخيه العراقي، لازم نتكاتف".
شكرها الموظف، وشعر بمسرة كبيرة.
التفتت الموظفة يمنة ويسرة، ثم همست له:
- ستدفع فقط مبلغ بسيط، 500 ألف دينار لا غير، وتتدلل.
- كيف؟، ولمن؟
-" لا تسأل، ورِّق وانت ساكت، وآني راح ألهمدهه الك، اطمئن، يجيك الصافي".
- ابنتي، مطلوب مني دفع أربعة ملايين دينار...
-"قلنا معليك، 500 ألف دينار و... بس
أدرك الموظف كل شيء، برز له ميزان الوطن، همس لنفسه: "هذا هو ميزان الوطن، كفة عزته يرفعها المخلصون، وكفة خرابه...، قال للموظفة:
- ابنتي، ولكن الأربعة ملايين التي سأدفعها ستذهب إلى خزينة الدولة، بينما الـ "500" ألف دينار ستذهب إلى حقيبتك!
اندهشت الموظفة، صُعقت، رددت بذهول:
-"ايه؟، وهسه شنو الأفضل؟، هدية ازغيرونه، هالكبراتهه أحسن، لو تخسر أربعة ملايين وكسر" - ولم تضف"معلينه بالكسر"!
حدق الموظف في وجهها، عاد وارتسم بين عينيه ميزان الوطن وكفتيه، قال:
- اخترتُ أن أدفع الأربعة ملايين دينار، لأنها ستذهب إلى خزينة الدولة، هذه فلوس الشعب.
- "انت صدگ دتحچي؟".
- ايه، هذا إهدار للمال العام وتلاعب فيه، وهو تحويل الموارد من مصلحة الشعب إلى مصلحــــة شخص، هذا انتهاك للقوانين، وانحراف وإخلال بشرف الوظيفة ومهنيتها، وهو مخالفة صريحة، وجريمة مخلة بالحياء و....
صعقت الموظفة المحتشمة في ثيابها وحجابها، سرت بجسدها رجفة، دنت رأسها منه وسألته: - أگلك، أنت شيوعي، صح؟
- أتشرف بحمل مبادئ وقيم الحزب الشيوعي، أنا وزوجتي وأبنائي وبناتي.
-:"همه گالوهه، لتسوي زين، شر ميجيك، صدگ الشيوعي بلوى. روح خلي اتفيدك الشيوعية، ادفع أربع ملايين وكسر"- رددت "الكسر" هذه المرة!
ابتسم الموظف، قال بهدوء:
-:" أفادتني الشيوعية، علمتني الإخلاص والنزاهة وحب الوطن والشعب، ولكنها لم تعلمني "التلهمد" مثلك، روحي "لهمديهه مع غيري، هذا زمن التِلِهْمِد".
ثم ردد بفخر:
وَلِي وَطَنٌ آَلَـيتُ أَلا أَبِيعهُ...