المنبرالحر

مشهد أخر في نشوة القتامة وردع الأمل.. مدن العراق المقدسة / فرات المحسن

واحدة من أهم مصادر تمويل مشاريع تطوير مدينة مكة وضواحيها في المملكة العربية السعودية تأتي من المبالغ التي ينفقها الحجيج في موسمي الحج والعمرة وما بينهما من أيام أخر يسمح فيها للزوار بالدخول إلى مكة والطواف بين جنباتها . وعلى ذات المنوال تحصل المدينة المنورة على مصادر أموال طائلة في ذات المواسم. وفي البعض من الوثائق هناك ما يشير إلى إيرادات حققتها السعودية بلغت 62 مليار ريال سعودي أي ما مقداره 16,5 مليار دولار في عام 2012 .وكان عديد الحجاج في ذلك العام من الوافدين وأهل البلد قد بلغ ما مجموعه 12 مليون حاج على مدار العام. وأشارت المصادر في تأشير متوسط الأنفاق للحاج الواحد بما قيمته بين 1900 دولار إلى 4000 دولار . وقالت التقارير للسلطات السعودية بأن ما معدله 3,1 مليون حاج أدوا فريضة الحج في شهر تشرين من عام 2012 من ضمنهم 1,7 مليون أتوا من خارج الملكة.
وفي إحصاء أخر لعام 2014 فأن عدد المسلمين الذين قدموا إلى السعودية موسم الحج في هذا العام قد بلغ 3 ملايين حاج ومع هذا العدد الكبير ارتفعت إيرادات الحج عن المواسم التي سبقته ولتكون إيرادات الموسم مبالغ كبيرة توضع في خزائن المدينة والدولة السعودية.
تبدو مدينة مكة عبر نافذة الطائرة متوهجة بالأنوار وثمة نسق جميل لشوارع تلتف حول ووسط ومحيط المدينة بتنسيق عالي ومبهر .الحرم المكي بشكله المميز وسعته وطراز بنائه الهندسي ومنائره وقبابه يبهر الناظر. وروعي على مدى أعوام ومواسم طويلة على توسعته وبناء مرافق جديدة تستوعب العدد المليوني للحجاج. الخروج للتجوال في المدينة يجبر الزائر على ملاحظة التنوع بين الأماكن القديمة وخاصة الأسواق الشعبية فيها والتي تجاورها البنايات الشاهقة للأسواق الحديثة والفنادق والجوامع بواجهاتها الجميلة. حتى الأماكن القديمة امتدت لها يد العمران ووضعتها على طبيعتها الأولى بعد الصيانة وبقيت أماكن تزار للتبرك والفرجة. ورغم زخم الأعداد المليونية من الحجاج فهناك انسيابية غريبة ونظافة تامة تتمتع بها أزقة وشوارع المدينة وما يحيط بالحرم المكي. وعلى ذات الصورة المريحة تتمتع المدينة المنورة بالجمال ذاته لما أغدق عليها لأجل تطويرها كمعلم ديني وفي ذات الوقت سياحي ومصدر يدر الأموال الطائلة على إدارة المدنية ويقدم آلاف فرص العمل لأبناء المدينتين وباقي مدن المملكة السعودية .
في العراق هناك العديد من المقامات والأضرحة الدينية التي تقارب في وضعها وضع مدينتي مكة والمدينة المنورة في القدسية الدينية والمكانة السياحية. ولكن ولحد الآن لم يطرأ على المعالم العمرانية أو الاقتصادية لهذه المدن أي تغيير ممكن أن يعتد به، وبقيت المشاريع تزحف في التنفيذ مثل سلحفاة ، وشابها الكثير من اللغط والاتهامات بالسمسرة وسرقة الأموال.
يقال والعهدة على البعض من السياسيين ورجال الدين، بأن أيام شهر محرم ومن بينها عشرة عاشوراء ثم أربعينية الأمام الشهيد الحسين بن علي ووفاة النبي محمد والأمام علي ومولدهما وغيرهم من الأئمة، تدخل تلك المدن أعداد مليونية. وفي تلك الأيام وبالذات استشهاد وأربعينية الأمام الحسين دون غيرها، يؤم مدينة كربلاء المقدسة ما يقارب 6 ملايين زائر من جميع أنحاء العراق وخارجه.
ليس مستغربا وجود مثل تلك الأعداد، ولكن الغريب في الأمر تضارب التصريحات حولها من قبل مجلس محافظة كربلاء وجهاز الأمن الوطني والمؤسسة الدينية. ويعزوا هذا التضارب والتفاوت في التقدير، لعدم وجود جهة توثق حقيقة تلك الأعداد، كذلك عشوائية الزيارة وخضوعها لمزاجية مفرطة للأفراد ومثلها الجهات المسؤولة والمشرفة على الزيارة. فجميع مداخل المدينة مفتوحة لقدوم ارتال المشاة دون سيطرة أو إحصاء يذكر، سوى المراقبة والخوف من التهديد الإرهابي.
بعد الانتفاضة الآذارية ضد الدكتاتور صدام حسين ولما أبدته البيوت والأزقة بين حرمي ضريحي الإمامين الحسين والعباس من مقاومة شديدة للهجوم الذي قاده المقبور حسين كامل ضد ثوار المدينة، أصدر صدام أوامره بإزالة الدور والأزقة بين الضريحين وشيد بدلها ساحة جميلة واسعة ومسقفات تحمي الناس من المطر والحر أثناء الزيارات، فكانت رب ضارة عند البعض نافعة للمدينة وأهلها. ولم يجد صدام في حينه من يعترض على ما فعله بسبب سطوته وجبروته ففعل حينها ما يوافق هذا الصمت وقدم تعويضات غير مجزية لمالكي الدور. ولكن اليوم ولغرض التوسع في باحتي مقامي وضريحي الإمامين، فأن مجلس حكم المدينة يجد أمامه معوقات كبيرة أولها التخصيصات المالية الحكومية الشحيحة ومطالبات أصحاب الدور والمحلات بمبالغ كبيرة، لا بل امتناعهم عن الموافقة على مثل هذا التغيير. أيضا عشوائية التعامل من قبل السلطة المحلية مع طبيعة الزيارة، وهذا يفصح عن إهمالها لجانب مهم وهو الموارد المالية التي تدرها هذه الزيارات على المدينة ومنها واردات المؤسسة الدينية المشرفة على المقامين وقيمة الضرائب الموجب فرضها على بعض الأعمال. ويأتي هذا بسبب الفصل بين الإيرادات التي تحصل عليها المؤسسة الدينية وتنفقها دون رقابة وبعيدا كل البعد عن متطلبات المقامات الدينية والبنى التحتية للمدينة، وبين ما تحصل عليه خزينة المحافظة والتي أشتكى مسؤوليها من العجز في الميزانية لهذا العام. كذلك عدم وجود أطر قانونية محاسبية تسمح بضبط تلك الأموال وجبايتها ووضع أبواب أيراد وصرف لها لتستغل في تطوير بنية وهياكل الضريحين ومثلها المنشآت والأحياء في باقي مدينة كربلاء. ذات الأمر يحدث لمدينة النجف والكاظمية وسامراء ومحيط مرقدي الإمام عبد القادر الكيلاني والإمام الأعظم وباقي المقامات الدينية والأضرحة حيث يعدم وجود لجان مختصة لوضع أسس وضوابط للانتفاع من الموارد المالية الضخمة التي تدرها تلك الأضرحة. ولم يعن للمؤسستين الدينية والحكومية استغلال الواردات لبناء وتحقيق مشاريع تجارية تدر أرباحا يمكن أن تستغل لأعمار وتطوير البنى التحتية لهذه المدن.
الزائر لمدينتي كربلاء والنجف ومثلهما الكاظمية وسامراء والأعظمية يقف حائر أمام الفوضى العارمة التي تكتنف أحياء جميع هذه المدن. فالمشهد الأول الذي يجلب النظر تلك الخيوط العنكبوتية التي تتسلق الجدران وتتشابك فوق أسطح البنايات والشوارع .أسلاك تمتد على طول وعرض المدينة لا تعرف عائديتها هل هي أسلاك هاتف أم كهرباء وطنية كانت أم مولدات أهلية.كذلك يتعجب المرء ويصاب بالفزع لكثرة البيوت الآيلة للسقوط. ولا يوجد أي معلم في هذه المدن دون أن يشوه ويخرب باللافتات الممتدة بين البنايات وأغلبها قديم ممزق ومثلها الرايات بمختلف الألوان وكأننا في لجة ردح عشائرية.أما الملصقات الدالة على شخص أو عشيرة أو موكب فحدث ولا حرج، فهناك فوضى عارمة لا تخضع لتراتبية وضوابط لآلاف قطع الدلالة لمحل أو طبيب أو محامي أو صائغ أو مضمد أو محل حلويات ومطعم ومصلح أدوات والبايسكلجي والمطهرجي وحتى قراء وقارئات الطالع. كذلك فأن ظاهرة البسطات على عشوائيتها تمثل أقبح منظر يجتاح المدن طولا وعرضا بعشوائية وبعثرة وتنوع منفر ولم تترك مكانا دون أن تفترشه . ويحدث أتعس من هذا الخراب والتخريب، أيام عاشوراء ومواكب العزاء التي تستبيح المدينة وشوارعها دون تنسيق وعناية أو تنظيم لتكون مصدرا لقبح المكان وتشوهه وسببا في التلوث والنفايات، ومدعاة لاستنزاف جهود وأموال بلدية المدينة، حيث تصرف الحكومات المحلية دون مشاركة المؤسسة الدينية، أموال طائلة لدعم تلك المواكب والبسطات. فالمواكب تنتفع من هبات الحكومة وتترك لبلدية المدينة آلاف الأطنان من الأوساخ . ولا يقتصر الإهمال والخراب تلك الجوانب فقط، بقدر ما تجد عند التنقل بين أحياء المدن الدينية ما يفزع ويجرح الروح والعين من خرائب وأزقة موحلة ودروب تبعث على التأسي والفزع وروائح تبعث على الغثيان. ومثل تلك المناظر القبيحة تظهر وكأن هناك إصرار من قبل بعض السياسيين ورجال المؤسسة الدينية الذين ابتلت بهم تلك المدن، على تركها بهذه الصورة المقرفة كدالة على مظلوميتها، وتلك لعمري واحدة من الافتراءات التي سببت وتسبب كل ذلك الخراب المفزع.
ودائما ما يقدم هؤلاء نشيد الإنشاد الدائم والعالي النبرة، بأن مدن العراق الدينية تضاهي بقدسيتها الحواضر الدينية في باقي دول العالم مثل الفاتيكان ومكة المكرمة والمدينة المنورة ومدينة مشهد الإيرانية . ولكن فيما يخص البنى التحتية والمنشآت والنظافة فمدننا الدينية ورغم غناها، تتفوق في بؤسها وخرابها وقذارة أحيائها وعشوائية حياتها على جميع ما تتمتع به تلك الحواضر من نعم وخيرات ونظافة، وهبها وهيأها لها وشيدها حكامها ورجال دينها وأناسها من العقلاء الأسوياء الحكماء، وقبل هذا وذاك الأصحاء النظيفون عقلا وضميرا وجسدا.