المنبرالحر

مظاهر الأزمة العراقية وسبل التصدي لها / علي عبد الواحد محمد

في 9/4/2003م حدث الزلزال الكبير وتم احتلال العراق ، الذي نجم عنه سقوط نظام صدام حسين سقوطا مدويا ، فادى ذلك الى تفاقم الأزمات التي كانت قائمة اصلا طوال الحكم البعثي ، حيث تجلت مظاهرها لاحقا بعد الإحتلال على الصعيد الإقتصادي والإجتماعي والسياسي والحقوقي والعسكري ، وعلى صعيد علاقات العراق الدولية، تجلت مظاهرها في المستويات التالية :
1) المستوى الإقتصادي : النظام الدكتاتوري الساقط حمّل الإقتصاد العراقي مشاكل كبيرة متعددة نتيجة مباشرة لسياساته المتهورة وحروبه المتشعبة الداخلية منها ، ضد الشعب الكردي والقوى الوطنية والإسلامية ، وفي حروبه الخارجية ضد ايران ، هذه الحرب التي استمرت 8 سنوات ، وكلفت العراق غاليا في الخسائر البشرية ، وخلفت خزينة تكاد ان تكون خاوية ، متخومة بالديون المستحقة الدفع ، و حرب الكويت التي اكملت على ما خلفته الحرب العراقية الإيرانية ، من كوارث ، وكانت احدى نتائجها المباشرة وضع العراق تحت البند السابع للأمم المتحدة، ولا نستثني الحصار الإقتصادي الجائر الذي كان في جوهره حصارا ضد الشعب العراقي الرافض لسياسات الحكومة وصدام حسين .
2) المستوى الإجتماعي : مع بواكير سقوط النظام البعثي السابق، وعلى الضد من دعوة قوى اليسار العراقي بزعامة الحزب الشيوعي العراقي ، والحركة التحررية القومية للشعب الكردي ، وقوى اخرى الى إقامة نظام اتحادي فدرالي ديمقراطي موحد تتعايش فيه مكونات الشعب العراقي ، من خلال التداول السلمي للسلطة ، ومشاركة الجميع تصاعدت اصوات وجرت ممارسات تدعو الى تفتيت العراق وتقسيمه ما بين المكونات الرئيسية للشعب العراقي ، ما بين العرب السنة والعرب الشيعة والأكراد ، صاحب ذلك تصاعد نبرة عدم الثقة بين المكونات ، ووتيرة القتل اليومي وظاهرة الجثث مجهولة الهوية ، واتساع رقعة الأرهاب وتحول مقاومة المحتل ، الى اعمال حربية ضد المجتمع وعمليته السياسية .
3) المستوى السياسي : بعد ان إحتلت القوات الأمريكية والجيوش المتحالفة معها بلادنا أختفت معالم الدولة العراقية ، وبات البلد بلا اي ممثل للحكومة حتى وان كان شرطيا للمرور ، فتبخرت النخبة السياسية المرعبة للشعب، والجيوش العراقية الجرارة ، وكل ما يمت الى السلطة السياسية بصلة. واوكلت المهمة للقوات المحتلة لإدارة شؤون البلاد، فتم الإنهيار الكبير تحت سمعها وبصرها. إنعكس هذا الإنهيار للدولة ولمكوناتها السياسية ومؤسساتها القمعية ،والمنظومة العسكرية والأمنية ، التي كانت نوعاً من الحماية الشكلية للمواطن العراقي الذي كان يجد في مركز الشرطة وفي الحارس الليلي ، وفي شرطي المرور ، وفي الموظف البسيط ، وفي الجندي، نوع من الحماية رغم الإنفصال والتباعد بين السلطة والمواطن، اقول إنعكس ذلك في التجاء المواطن الى طائفته المذهبية ، والى قوميته والى عشيرته وقبيلته لطلب الحماية ، فليس غريبا ان تصاعدت في الأيام الأولى للإحتلال الدعوات للتشبث بالمرجعية الدينية ، فرفعت شعارات واضحة تقول إن مرجعيتنا هي قائدنا ، وحاول بعض العقلاء من رجال الدين ، الدعوة للتلاحم وعدم الفرقة، والدعوة للصلاة المشتركة بين طائفتي الشيعة والسنة، لتخرج بعدها مظاهرة ضخمة في بغداد يقودها رجل الدين الشيخ احمد الكبيسي وكان شعارها ( اسلام سنة وشيعة هذا الوطن ما نبيعه )
إذن ان الفراغ السياسي ادى للتخندق الطائفي والعشائري رغم محاولة الشيخ احمد الكريمة للوحدة .
4) المستوى الحقوقي : نتيجة مباشرة للإحتلال فقد العراق ، إمكانية تمثيل نفسه في المحافل الدولية ، فكان الحاكم العسكري يمثله ، وتم وضعه تحت البند السابع للأمم المتحدة ، وتعطى له حصة صغيرة من ريع تصدير نفطه وفرضت عليه تعويضات حروب صدام وضحاياها بشكل خرافي، وتصاعدت فضائح المستفيدين من برنامج النفط مقابل الغذاء ، وساد التخبط بين مكونات الشعب العراقي وقواه السياسية ، فلم يكن من المشاركة للقوى السياسية العراقية ومنهم بعض القوى التي كانت رافضة للإحتلال ، كالحزب الشيوعي العراقي ، في مجلس الحكم المحلي ومن ثم في الحكومات العراقية المتعاقبة الا تأثير طفيف على مجرى الأحداث.
5) المستوى العسكري : تم حل الجيش العراقي ، وتسريح كل الجنود والضباط والمراتب وتركت المعسكرات المنتشرة في طول البلاد وعرضها واصبحت فارغة ، وهجرت الأكاديميات العسكرية بكل صنوفها ، لتصبح محلات سكن للفقراء الذين لا يملكون شبرا واحدا في البلد الغني ! ليواجه ساسة البلد ولتواجه حكوماتها مشكلة العشوائيات بكل ابعادها ، الأخلاقية والإقتصادية والقانونية....الخ ، ولتواجه الحكومات مشكلات الجيش المنحل ومعداته العسكرية التي اصبحت عرضة للنهب، ومشكلات قادته التي تحول معظمهم الى قادة ميدانيين لداعش في هذه الأيام . وليتم الإستعانة ببعض اصحاب الرتب العالية في الجيش الجديد ، ولم تكن هذه الإستعانة موفقة فقد أثيرت الأسئلة حول دور بعضهم في سقوط الموصل بيد داعش !.
6) مستوى علاقات العراق الخارجية : حلت سلطة الإئتلاف الموحد في العراق برئاسة يول بريمر ، واصبح العراق رسميا تحت الإحتلال الأمريكي وحكم سلطته التي استندت في ذلك الى قرار مجلس الأمن الدولي المرقم1483 لسنة 2003 م لتصبح هي البديل عن السلطة العراقية ،هذا الإجراء قوبل بعدم القبول من معظم الدول الا التي شاركت الولايات المتحدة خططها، ولم تعد معظم البعثات الدبلوماسية الى العراق ، وجوبهت مبادرات بعضها بالموقف المعادي من منظمات الإرهاب كما حدث للسفير المصري ، وبالمقابل رفض الإحتلال ، وتصاعد الإرهاب عجلا المحتلين على تكوين شكل من الحكم من القوى العراقية ، التي وجدت صعوبة بالغة في التأثير على الرأي العام في العالم الذي رفض إحتلال العراق .
مما تقدم يمكن القول ان الأزمات القديمة تضاعفت وزاد تأثيرها على بنية الشعب والوطن، ولم تنته لحد الآن ، رغم الإنتخابات ، وادعاء الديمقراطية، فعلى المستوى الإقتصادي بقي المصدر الأساسي للدخل القومي ناتجا عن تصدير النفط الخام ، وما زالت سرقة المال العام والرشوة ، والفساد الإداري، هي السمات الأساسية للدولة ، ودخلنا في دوامة جديدة كشف عنها إحتلال داعش لمساحة كبيرة من الوطن العراقي ، وهي ان المبالغ الكبيرة التي صرفت على بناء الجيش والأمن وعلى التسليح لم تثمر عن نتائج تدفع الخطر عن العراق ، ناهيك عن الخسائر في المعدات العسكرية والأسلحة التي استولت عليها داعش فضلا عن سرقتها للنفط الخام وصوامع الحبوب في المدن المحتلة وخزائن البنوك في هذه المدن ، وعلى المشاريع المائية والسدود وعلى مصفى بيجي وحقول النفط ، وعلى المستوى الإجتماعي تفاقمت حدة الخلافات مع إقليم كردستان من قبل وقوع الإحتلال الداعشي واستمر لما بعده، وطوال السنوات الثمان منذ الإنتخابات الأولى والإنتخابات الثانية ، زادت حدة الخلاف ما بين الحكومة المركزية والمحافظات الغربية ، بدواعي مذهبية ، فشعر ابناء هذه المحافظات بالتهميش الأمر الذي سهل مهمة داعش للإحتلال المشؤوم ، وازداد التجاء
المواطنين الى طوائفهم المذهبية والى عشائرهم ، وحلت بشكل متزايد احكام العشيرة بدلا عن احكام القانون والمحاكم . ولازالت مكونات الشعب العراقي ، ورغم اجواء التقارب والإنفتاح على بعضها البعض التي إنتعشت مع تشكيل الحكومة الحالية ، لازالت تتعامل بحذر مع بعضها البعض ، ويتجلى هذا الحذر في عدد من المظاهر، منها تخوف ابناء المحافظات المحتلة من قبل داعش ، مما يسموه تسلط الحشد الشعبي عليهم ، وبالمقابل تصاعدت اصوات في الجانب الآخر تحذر من تسليح عشائر المحافظات المحتلة للدفاع عن نفسها يقابلها ، افتعال مسببات للخلاف من قبل البعض بدلا من اجواء الثقة . ووضع الموقف الدولي من داعش العراق على ابواب دخول قوات برية امريكية واخرى للدول المتحالفة معها ضد داعش ، وهذا يعني ان نعيش مجددا في موضوعة متعبة اختلفت عليها الآراء والمواقف ، واسهمت الى حد بعيد في معاناة شعبنا ووطننا واعطت ذريعة مقنعة لكل من وقف ضد التغيير والعملية السياسية للإستمرار في موقفه المعادي .
خلاصة القول . الأزمة التي ورد تعريف لها في اليوكيبيديا على إنها نقطة تحول في اوضاع غير مستقرة يمكن ان تقود الى نتائج غير مرغوب فيها ، إذا كانت الأطراف المعنية غير مستعدة او غير قادرة على إحتوائها او درء مخاطرها....1
قد استمرت في ضربها للعراق منذ بدايات الحكم البعثي الى يومنا هذا ، وإذا كنا قد شهدنا تنوعا في تجليها كل تلك السنوات المرة ، على شكل حروب داخلية وخارجية، شاهدنا ايضا تجليات الأزمة الحالية ، حيث توجت بسقوط اجزاء كبيرة من وطننا بيد الإرهابيين الداعشيين وحلفائهم المعادين للعملية السياسية ، وإن عملية التصدي لهذه الأزمة لا يتم بالأمنيات فقط ولا بالأعمال العسكرية لوحدها ، فالمسألة تستدعي مجموعة من الإجراءات العملية الواقعية ، اجراءات سياسية وإجتماعية وإقتصادية وحقوقية متلازمة مع بعضها البعض لخروجنا من عنق الزجاجة وتخطي المأزق كما يقول العارفون . إجراءات تعالج اسباب الأزمة من جذورها في نفس الوقت الذي تعالج فيه مظاهرها التي استفحلت ، وزرعت اليأس في قلوب المواطنين .
إن اسباب ظهور الأزمات بشكلها الكلاسيكي متعددة ، منها ما هو ذاتي ، وهو ما يتعلق بالأداء البشري والإدارة ، ومنها ما هو موضوعي وهي الأسباب التي تقع خارج نطاق ، سلوك البشر وطرق الأدارة كالكوارث والهزات الخارجية العنيفة ، وفي حالتنا العراقية تمثل في احتلال امريكا وحلفائها للعراق عام 2003 م ، والإرهاب وإحتلال داعش لجزء كبير من الوطن وتدخل القوى الخارجية وتأثيراتها في شؤوننا . وارى إن كل ما تم تناوله في هذه الأوراق يوضح طبيعة العلاقة بين القوى المشتركة في العملية السياسية وعملية المحاصصة التي سادت في تكوين الدولة العراقية ، وعدم ثقة هذه القوى فيما بينها ، ومحاولتها تجاوز بعضها البعض والإنفراد بالقرارات ، والتجاوز على إستقلالية المؤسسات التي يفترض ان تكون مستقلة ، وتغليب المصالح الفئوية والحزبية على المصلحة العليا للشعب العراقي ، وإستخدام المال العام للإثراء على حساب تقديم الخدمات للمواطنين ،وعدم صمود الترقيعات البلدية امام الكوارث الطبيعية ، ونقص الكهرباء والماء الصالح للإستعمالات البشرية ، وقلة تجهيزات غاز الوقود وغيرها وغيرها من الخدمات المطلوبة ، ناهبك عن العلاقة المفقودة ما بين المواطن ودوائر الدولة المتعددة والتي تحولت الى ادوات لنهب الناس عبر الرشاوي والوسطاء .
إن سبل معالجة الأزمة تتطلب الموقف الشجاع من كل القوى للتغيير ، في اسلوب الحكم ، وتغليب مصلحة الوطن على المحاصصة ، والمطلوب اعادة النظر في نظام الإدارة ، وفي تعامل الناس مع بعضهم البعض ، المطلوب استقلالية السلطات الثلاث عن بعضها ، ووضع الشخص المناسب في المكان المناسب واطلاق طاقات الجماهير وعدم التفرقة بين العراقيين على اساس الدين او المذهب او القومية ، وتفعيل الدعوة الى المصالحة الوطنية وطي صفحات الماضي بقبحها والبدء من جديد لبناء العراق الجديد ، ومعالجة الآثار المترتبة عن الإرهاب وعن سلوك داعش العدواني، وإن ذلك يتم عبر تعزيز الديمقراطية والإحترام المتبادل بين القوى والأحزاب العراقية ، وذلك من خلال المعالجة الصحيحة لكل الأسباب ووضع الحلول المناسبة الناجعة وعقد المؤتمر الوطني الذي يعالج الأزمة من الجذور ومحاسبة السارقين ، والمتجاوزين على الثقة التي يمنحها الشعب لهم وفق القوانين العراقية ، وليس ضمن الفوضى .