المنبرالحر

إسطورة قداسة التاريخ / د. علي الخالدي

كل الحكومات في العالم تحدد يوما أو أيام في تقويمها السنوي يستذكر فيه الشعب حدثا مفرحا أوحزينا من تاريخه، ويكون هذا اليوم أمرا مفروضا، يٌحتفل به سنويا رسميا وشعبيا، كأسلوب لتعريف أﻷجيال الجديدة بشيء من أبداعات و نكبات أجدادهم، وأخذ العبر منها والبناء عليها بما يخدم مصالح مستقبلها اللاحق وبما ينسجم مع التطور الحضاري في العالم . و هذا عرف سائر في العديد من الدول إلا البعض منها ، وضمن هذا البعض العراق، حيث غُيبت الحكومات المتعاقبة المناسبات الوطنية والتراثية من تقويمه السنوي.
بعد ثورة تموز المجيدةعام 1958، ساهمت حكومة ثورة الفقراء الجماهير الشعبية اﻷحتفال بالمناسبات الوطنية والتراثية علناً ، كوثبة كانون عام 1948 ضد معاهدة بورتسموث الجائرة وإنتفاضة تشرين 1952 ، وﻷول مرة وآخر مرة تشاطر الجماهير وحكومة الثورة فرحة الطبقة العاملة العراقية بعيد العمال العالمي فتنظم المسيرات وتقيم اﻹحتفالات في اﻷول من آيار ، ثم توالت اﻷحتفالات بالمناسبات الوطنية في عهدها ، بما في ذلك اﻷحتفال بذكرى إندلاعها وإقامة الجمهورية ، وبعد اﻹنقلاب الفاشي عام 1963الغيت كل المناسبات الوطنية والتراثية ، وابتكرت مناسبات أقتصر اﻹحتفال بها بالضد من رغبة مكونات شعبنا ، وهكذا أستمر غياب المناسبات الوطنية ليومنا هذا ، لا بل قامت بعض الحكومات المتعاقبة الى قلب حقائق تلك اﻷحداث ، لتكون متماهية مع منطلقاتها الفكرية والمذهبية ، فلم يبق أمام الجماهير الشعبية إلأ اللجوء ﻷستذكارها، و الإحتفال بها سراً في الداخل وعلناً في الخارج ، ﻹدراكها أن اﻷحتفال بهذه المناسبات الوطنية يدعم الوحدة الوطنية ويطور الوعي المعرفي ويزرع ثقافة الروح الوطنية بين اﻷجيال المتعاقبة.
لقد قام البعث وخاصة في الفترة الصدامية ، بألغاء وتشويه المناسبات الوطنية والتراثية وتجييرها لشخصه بسوق الناس بالشاحنات لساحات اﻷحتفال ، والعقاب ينتظر من لم يساهم بها ،ﻹظهار شعبيته المزعومة ، بالرغم من كون إيقاع هذه المسيرات يشكل إستفزازا في نفوسهم ، كإبرازه للحروب العدوانية القديمة والحديثة ، التي وثقها بمناهج التدريس في المدارس ، بصيغ تنمي ثقافة الغطرسة وروح التفوق وشحن الكراهية والحقد لدى أبناء مكونات مجتمعنا العراقي ، كأحداث تاريخية مقدسة غير مسموح البحث فيها ومناقشتها ، من أجل إبعادها عن ما يتناسب وروح العصر وإتساع ثقافة اﻷجيال العلمية والفلكية. من باب كون الحاضر لا يعشق الماضي ولا يقدسه ، ومن أجل إبعاده عن اسس الوعي الفهمي لحركة الحاضر ، ومع هذا تواصل بعض اﻷحزاب إتباع منحى حزب البعث الفاشي في المغالاة باحياء التراث كاﻷخوان وداعش وإخواتهما من أصحاب الفكر التكفيري الذين يعملون باﻷرهاب والتسلط على نشر فكرة أسطورة تقديس تاريخ مراسيم أحداث تاريخية ، وإعادة إنتاج نمط جديد ﻷحياء التراث ، كما كان سائدا قبل قرون وفرضه على الناس
فحزب البعث الصدامي الذي إمتاز بأزدواجية نهجه يقول في نظامه الداخلي ... أنه يرى أن الحركات اﻷسلامية والشخصيات والمؤسسات التي تدعو الى تطبيق شرع الله والدول التي تحكم باﻷسلام ، يجب التخلص منها من أجل بناء المستقبل العربي ، بينما قام في الحقبة الصدامية بحملته اﻹيمانية ، وتطبيقا لهذا المفهوم خدع الشعوب اﻷسلامية والعربية على حد سواء بالتغني بالقضية الفلسطينية وجعلها الحلقة المركزية في تحركاته على كافة اﻷصعدة ، في وقت كان يصطاد قادتها ويسعى الى تفتيت وحدة حركاتها الوطنية ففشل في كليهما ، وفلس فكريا وأخلاقيا ، ﻷنه درس التاريخ من منطلق ترجسي قومي عنصري وطائفي ، يتماهى مع هذا النهج فكر التكفيريين من سلالة طالبان الذي يدعو الى تطبيق أحكام الشريعة اﻷسلامية ، بالعودة الى حكم الخلافة ﻹدارة شؤون المناطق التي غزتها بالقسر واﻷرهاب ، معتبرا ملكية كل شخص لا يقدم الولاء له غنائم مستباحة بما فيها النساء ، حيث يتم منح الخمس للمسؤولين ، بينما يتم تقسيم البقية الباقية من الغنائم على اﻹرهابيين الذين شاركوا في عملية الغزو ، ويباع آلقسم الباقي ( النساء في سوق النخاسة ) ، هذه اﻷعراف الغزوية مستوحاه من طبيعة قوانين الغزو التي كانت قائمة قبل اﻹسلام ، وﻷجل ذلك هدوا كل أثر وشواهد تراثية تشير لعظمة حضارة وادي الرافدين ، والغوا كل ما هو وطني يثير اعتزاز اﻷجيال المتعاقبة
إن ما يحز في النفوس أنه حتى بعد سقوط الصنم وغزو داعش بقيت مناسباتنا الوطنية والتراثية الحلوة والمرة التي مرت بها شعوب وادي الرافدين وخصوصا ثورة تموز المجيدة مغيبة من رزنامة التاريخ ، بينما يؤكد على المبالغة بإحتفالات تثير ضغائن بين مكونات المجتمع ، وعلى حساب أيام العمل . أفلا يحق لشعبنا بكافة مكوناته ان تكون في مفكرته ايام حلوة ذات صبغة وطنية عامة ، يؤكد من خلالها اعتزازه بها.