المنبرالحر

وماذا عن مستقبل الكاريكاتير السياسي العربي بعد مذبحة " شارلي ايبدو" ؟!/ رضي السماك

فتحت المجزرة التي ارتكبتها مجموعة من الارهابيين المتأسلمين في مقر مجلة " شارلي ايبدو" الباريسية المتخصصة في الرسوم الكاريكاتيرية والتي أودت بحياة عشرة صحفيين وشرطيين اثنين فضلاً عن خمسة قتلى على خلفية الملاحقة الأمنية للارهابيين .. نقول فتحت هذه المجزة مجدداً الباب على مصراعيه للجدل الفكري والسياسي العالمي حول ظاهرة الارهاب وأسباب انتشارها وتركزها في اوساط فئة واسعة من المراهقين والشباب المسلمين ، دون الديانات الاخرى ، والسُبل الناجعة للقضاء عليها أو وضع أدنى حد ممكن لإنتشارها، وذلك في ضوء مرور نحو ثلاثة عقود على فشل كل الجهود العالمية لمحاصرتها . بيد أن ثمة مسألة على درجة من الأهمية غابت عن النقاش العالمي بوجه عام والنقاش العربي والاسلامي بشكل خاص حول الارهاب ذاته ، وتتصل تحديداً بمستوى الوعي العربي والاسلامي المتدني برسالة الكاريكاتير الهادف لدى تناوله مختلف القضايا الاجتماعية عامةً ، وعلى الأخص السياسية منها، وذلك بالنظر لاشكالية الفهم المغلوط أوتدني الوعي لدى شريحة واسعة من العرب والمسلمين لرسالة فن الكاريكاتير عامة والكاريكاتير السياسي بوجه خاص . وبطبيعة الحال لا نقصد هنا فقط رسومات المجلة الباريسية المغدورة التي اُتهمت بنشرها رسوم استفزازية مسيئة للإسلام ، رغم انها دأبت على نشر رسوم تتعلق برموز لمختلف الديانات وليس الاسلام فحسب ، بل ثمة فهم مغلوط التباسي أيضاً لرسومات كاريكاتيرية تُنشر في صحافة البلدان العربية والاسلامية رغم انها لا تنطوي بالضرورة على اساءة لرموز اسلامية ،حتى بالمعايير الاسلامية التي تمتلك درجة من الاستنارة والمرونة ، وانما تتعدد القراءات والنظرات إليها من عدة زوايا . ولا شك بأن المعارك الجدلية والاضطرابات التي عصفت ببلداننا العربية على خلفية نشر رسومات كاريكاتيرية والتي تتعدد القراءات والرؤى حولها أحسبها معروفة في تاريخنا المعاصر للمتابعين السياسيين . بما في ذلك الرسومات التي تتناول الفنانات او جسد المرأة في سياق نقدي ساخر هادف . والشواهد على ذلك من تاريخنا المعاصر اكثر مما تحصى ، ومعلوم إن رسام الكاريكاتير الفلسطيني الكبير ناجي العلي انما اُغتيل من قِبل جهة ساخطة بشدة من رسوماته السياسية اللاذعة وليس لسبب آخر ، كائن من تكون تلك الجهة التي تقف حول الاغتيال . أما الرسامون الكاريكاتيريون الذين تم التشهير بهم وصدرت الفتاوى بتحليل دمهم فحدث ولا حرج.
والذين ارتكبوا مذبحة " شارلي مجزرة " شارلي إيبدو " ما كان ليتورعوا عن ارتكاب مثلها ، أو حتى أفظع ، منها على خلفية رسم كاريكاتيري لزعيم من زعمائهم او من زعماء الجماعات الااسلاموية الارهابية ما داموا يؤمنون بأنه ينطق بالحق ولا يأتيه الباطل من بين ايديه ولا من خلفه ، والأهم من ذلك فإنه حتى الأقل تشدداً ونبذاً للعنف والارهاب لن يتوانوا بدورهم عن اثارة موجة عارمة من الاحتجاجات قد تفضي لأعمال عنف واضطرابات خطيرة انطلاقاً من فهمٍ أحادي مغلوط لرسم كاريكاتيري لم يكن صاحبه ليقصد به الاساءة الى رمز ديني ، بل وتتعدد الرؤى في قراءته وفي فهمه . لذا فلا غرابة إذا ما وجدنا ان الرقابة الذاتية التي يمارسها رسامو الكاريكاتير العرب والمسلمين هي اكبر بكثير من الرقابة الذاتية التي يمارسها كتّاب المقالات في صحف بلدانهم . وفي تقديرنا ان تحكم الكاتب الصحفي في اختيار المفردات للتكيف مع الهامش المُتاح اسهل من التحكم في ايحاءات رسم الكاريكاتير بمجمله لما ينطوي عليه هذا الأخير من تكثيف في المعنى المُراد ايصاله للمتلقي ، وبخاصة إذا ما خلا الرسم من أي تعليق كتابي، ولذا اُعتبر الكاريكاتير اكثر قوةً وتأثيراً في ايصال الرسالة الصحفية المبتغاة ، وإن لكل منهما غرضه الذي لا يستوفيه الآخر أو يحل مكانه
وإذا كانت كل المعاجم والموسوعات تتفق على تعريف رسم الكاريكاتير بأنه " فن المبالغة بالخطوط والريشة، فن النكتة السياسية المرسومة، فن السخرية من خلال تحريف الملامح الطبيعية لشخص او جسم ما بهدف النقد السياسي أو الاجتماعي الجذّاب الباعث على البسمة ، وهو يشير إلى الجرح ويفتحه دون ان يسيل قطرة دم واحدة "
فكيف لنا ان نُطالب رسّام الكاريكاتير ان يظهر في رسوماته زعماءنا السياسيين المحبوبين ،حتى لو كان من بينهم رجال دين ، في كامل هيئتهم المحترمة كما هم في الصور الفوتوغرافية دون أي تحريف أو مبالغة للشخصية كما جاء في تعريف الرسم الكاريكاتيري المتقدم ذكره ؟! فهذا لا يعني سوى مطالبة الرسّام شطب قواعد هذا الفن أو مسخه وإظهاره مجرداً من مذاقه الجذّاب الساخر. والسؤال الآخر الذي يفرض نفسه في هذا الشأن : إذا كان من المسلم به حق رجل الدين في العمل السياسي ، فهل تعطيه وتحصنه عمامته ليكون فوق النقد والمساءلة السياسية سواء فيما يتعلق بالمقال السياسي أو فيما يتعلق بالرسم الكاريكاتيري ، موضع حديثنا ؟ والحال وللإمانة ثمة شريحة ،من المثقفين الاسلاميين ورجال الدين تتفهم متطلبات الرسم الكاريكاتيري في النقد السياسي ليشمل كل العاملين في الحقل السياسي دون استثناء .
وبالتالي فإما ينبغي لنا عدم تدخيل رموز الدين المقدسة لدينا ، من انبياء وائمة وأولياء صالحين ، ناهيك عن رجال الدين المعاصرين ، في انشطتنا السياسية والفكرية إذا كنا نروم المحافظة على وقارهم المصون ، وإما ان نقحمهم في السياسة فنتحدث بإسمهم في جدلنا وايديولوجياتنا وصراعاتنا السياسية ، وعلينا هنا تحمل وزر حق رسامي الكاريكاتير السياسي في تناولهم في الرسومات الكاريكاتيرية النقدية اللاذعة مثلهم مثل كل العاملين في حقل العمل السياسي بلا اسثناء ، مادام رسامو الكاريكاتير لهم حق حرية التعبير الذي لا يعترف بالمناطق المحظورة أو المحرّمة ، على الأقل كما يحدث في فرنسا العلمانية الديمقراطية
ومع ذلك يظل فن رسم الكاريكاتير في عالمنا العربي بحاجة الى توعية أعمق لقواعده واصوله ولأهميته وظيفته النقدية البالغة في حياتنا الصحفية السياسية المعاصرة وبخاصة بالنظر ليس للقيود المشددة عليه من قِبل الأنظمة الاستبدادية العربية فحسب ، بل ولانحساره وتراجعه في صحافتنا العربية بعدما كان الكاريكاتير السياسي العربي من ابرز المدارس الصحفية المتألقة في الصحافة العالمية ثم أخذ في الاضمحلال بالنظر لرحيل أغلب جيل الرواد العرب الكبار الذين لا يُشق لهم غُبار في هذا الفن السياسي الفني الفريد من نوعه .