المنبرالحر

ثقافات جديدة في عراق ما بعد ال2003 / د.محمود القبطان

تفتخر الامم بتعدد ثقافاتها من حيث تعدد القوميات والاديان والطوائف وحيث تعيش بسلام وأمان فيما بينها. والثقافة قد تكون ملازمة لما تقدمه تلك الامم من فن راق، لغة جميلة، تأريخ عريق، احترام ثقافات الامم والملل الاخرى. والثقافة قد تكون ايجابية كما في اعلاه وقد تكون سلبية كما يحدث في كثير من بقاع العالم حيث تنتشر الحروب وامراؤها، وانبعاث شعور الكراهية والحقد الاعمى للآخر، فتهلك شعوب وامم بسبب ذلك، تدمر اجيال حيث تربى على الثأر الدفين والخاسر الأكبر هي الشعوب نفسها. و"ثقافة" جديدة انتشرت في العراق وهي محاولة إلغاء الآخر من باب قوة أو قوات مسلحة غير نظامية تباشر بالقتل والخطف والتنكيل وحرق تراث الامم وفرض اخلاقيات بعيدة كل البعد عن الاديان والمعتقدات.
من أين أتت هذه "الثقافات" على العراق؟
ليس غريبا ان نقول إن النظام الصدامي البغيض بعد أن اشعل الحروب المتتالية على جيران العراق قد أسس لهذه الزيجات من هذه "الثقافات" التي اراد منها اولا تثبيت نظامه العفن وثانيا زرع روح الخوف والقهر لعموم الشعب وثالثا استرجاع روح الثأر ونظام العشائر البائس في حل النزاعات بين القبائل والناس عموما حيث يحل النظام العشائري محل القانون ومن ذلك نشأت وترعرعت "قوى" جديدة تقوم بنظام خاص بها فوق القانون لتكون بديلا له في حل النزاعات بين افراد الشعب. ثم استمرت هذه النزعات العشائرية لتحل محل القانون في ظل غياب كامل للسلطات ما بعد 2003 لتكون هي القانون ما دامت مستثمرة من قبل الاحزاب التي تقود الدولة أو بقايا الدولة. فانتشرت روح الثأر والقتل بشكل مريب لم يسبق له مثيل في تأريخ العراق، الخطف وابتزاز اهل المخطوفين وفي احسن الاحوال يسلم المخطوف بعد دفع الفدية إن لم يقتل، انتشار عصابات خاصة في معظمها تستغل وجودها في مليشيات معروفة وقد مسكت القوات الامنية ببعض منها مما احرج قيادات تلك الميلشيات لتتبرأ منها ، ولن ابالغ ان قلت ان تلك العصابات عملت بعلم من قياداتها في كثير من الاحيان. في ندوة على قناة الحرة ظهر شيخ من شيوخ امارة ربيعة يدعى علي ربيعة مع خبير امني وهما من البصرة. الشيخ يحمل في يديه اربعة خواتم مع سوار مرصع بالأحجار في معصم يديه اليمنى وساعة في اليسرى مع ملابس عربية كلها باللون البني بالإضافة الى عقال فريد من نوعه بشكله وحجمه قال على العشيرة ان تحسم الخلافات ولو بأرقام كبيرة قد تبلغ مليار دينار للفصل الواحد لان العشيرة هي الاساس. أما السيد الامني فقال على الدولة ان تحسم موقفها من التجاوزات العشائرية في القتال ،وكانت الندوة حول الاشتباكات المسلحة بين بعض العشائر في شمال القرنة في البصرة وهناك آفة اخرى هي ان افراد القوات الامنية تابعة الى عشائر ولذلك لا تتدخل بشكل حاسم وليس هناك من يأتي لجمع الاسلحة وايقاف القتال.
أما الحالة التي تبتلى بها العراق هي ظاهرة الفساد التي كان وما زال أبطالها من الرؤوس المعروفة في قيادات احزاب معروفة التي تدير امور الدولة. فغطت بعض القيادات على فساد افراد منها ومسكت العصى من الوسط في حالات اخرى من الفساد لكتل اخرى وبدأت المراهنة على" اسكت عني ..اسكت عنك" ولذلك اصبح دخل بعض المتنفذين مليارات من الدولارات خلال بضعة اعوام، حيث المناقصات والاستثمارات و"الاعمار" والتعينات كلها ترحل الى الاقارب والاهل والاصدقاء ولمن يدفع أكثر لصاحب القرار، وليس غريبا أن يعتبر العراق في سلم ثاني دولة في العالم من حيث الفساد بعد الصومال. شراء العقار الذي اصبح هواية الحيتان الكبيرة اشعل سوق العقار حيث لن يستطيع اصحاب الرواتب المتوسطة من شراء شقة أو دار بأسعار مقبولة.

أما اختفاء دور السينما والتي أصبحت مخازن لبعض التجار مع بقاء مسرح واحد أو اثنان في افضل الحالات ومقيد في العرض من حيث النص فهذا يدل على تدني ثقافة المجتمع والتي تقاس بحبه للفن والتراث والادب لابل انتشار الامية منذ عقود وما زالت هي دليل آخر على تخلف المجتمع في كثير من النواحي الاجتماعية والثقافية والاقتصادية.
أما ثقافة الميليشيات التي انتشرت في العراق كالسرطان، وكما قال احد النواب ان كل الكتل والاحزاب لها ميليشيات خاصة بها، الا ما ندر وحدد من ليس لهم هذه القوات الغير النظامية. بعض النزاعات العشائرية تحل عبر هذه الميليشيات حيث السلاح وقوة القرار بيدها تحل اي نوع لاسيما عند الفصل العشائري الابتزازي.
أما ثقافة تزوير الشهادات والانتخابات فقد اصبحت ظاهرة لا غبار عليها. فقد انتشرت الشهادات المزورة في العراق بشكل لم يسبق له مثيل من قبل، وليس هناك رادع قوي لإيقاف هذه المهزلة. فلا قانون يسن، بالرغم عدم قانونية مثل هذه الافعال، لكن القضاء عاجز تماما من الحد من هذه الظاهرة الخطيرة، وفي احسن الاحوال تكون العقوبات شكلية حسب طلب الشخص الاعلى هنا أو هناك. أما في الانتخابات فهناك شراء الذمم وتزوير واضح لها من خلال عدم الثقة في الفرص والعد للأصوات وصرف الملاين من الدولارات للدعاية وصولا الى توزيع الاراضي والاسلحة والمال واستخدام القنوات الرسمية لذلك.
ولو تكلمنا عن ظاهرة تدمير البيئة فالحديث قد يطول لكن وبإشارة قصيرة حول هذا فنقول في المقدمة هناك قلة لابل انعدام وعي صحي –بيئوي عام في العراق من اعلى الهرم وصولا الى ادنى الدرجات من العمال في الشوارع. بالإضافة الى خلو القنوات الفضائية التي لا تعد ولا تحصى في عراق اليوم، خلوها من الندوات التثقيفية في هذا المجال وانما جل اهتمامها الدروس الدينية مع نشر ثقافة الروح الطائفية بين صفوف الشعب. وكذا القول حول ثقافة المرور واعتقد بالرغم من البرنامج المروري الاسبوعي فهناك شراء اجازات السوق بثلاث اوراق"300 "دولار دون المرور بفحص الشخص ان كان يعرف سياقة السيارة أم لا. وهذا يتم عبر شركات خاصة تدير عملية هذه الابتزاز الجديد بالتعاون مع افراد من شرطة المرور. ناهيك عن عدم معرفة شرطة المرور بقوانين المرور ما عدا ان ترفع اليد بإشارة السماح او التوقف عن السير وما عدا ذلك الانشغال بالتلفون الخلوي في اكثر الاوقات.
ما الحل لمعضلة هذه الثقافات الجديد الدخيلة ؟
ليس هناك من شك في الحل هو وجوب وجود قوة القانون الذي يحل معظم هذه المشاكل التي يبتلى بها أي شعب ومنها العراقي.
أن لم يستأصل الفساد المالي والاداري المستشري في صفوف ساسة الدولة سوف لن يكون هناك من حل. وحتى تحل ثقافة الجميل والمقبول والمتنور في كل نواحي الحياة الواجب ان تكون روح التسامح هي السائدة والقانون هو الفصل في الخلافات. استرجاع الاموال العراقية المنهوبة وجلب الفاسدين من سراق المال العام من الخارج وبقوة القانون الدولي لمحاسبتهم وبقوة وليس بسجن رمزي وكأن شيئا لم يكن. وهناك امر مهم هو حل الخلافات السياسية بين القوى العراقية عن طريق الحوار وعدم اللجوء الى التهديد بالانفصال او بتشكيل الاقاليم هنا أو هناك. سن القوانين المهمة والتي ترتب الحياة والسياسة والاقتصاد والمجتمع عموما ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب. وهنا تتحمل القوى الواعية والمتنورة والوطنية الحقة واجب رفع الصوت امام هذه التجاوزات وفضح الفساد المالي والاداري والفاسدين وتنوير الشعب بما هو آت لكن هذا لن يتم من خلال اشتراك في ندوة أو تصريح وانما عبر التظاهر السلمي والمتكرر ،وليس الموسمي، لإجبار صاحب القرار على تطبيق القانون دون استثناء .25 شباط قادم وهي مناسبة كبيرة تكون للبدء بهذه المبادرات واستذكارا لما كان عليه في 2011 حيث ضربت تلك التظاهرات السلمية بقوة في عدة محافظات مما ادى الى قتل وجرح العديد منهم عند المطالبة بالعمل وفضح الفاسدين لان من كان يدير السلطة كان مرعوبا من تحرك شعبي قد يطيح به، وهذا ديدن من يبتعد عن شعبه فيذهب الى استخدام القوة، وقد اغتيل الاعلامي هادي المهدي في بيته بعد قتله بالكاتم بسبب اشتراكه بعد بضعة ايام في تلك التظاهرة السلمية. واعتقد ان 25 شباط يجب ان يكون استذكارا لمن سقطوا من اجل الوطن وحريته ومن اجل الاستمرار في فضح الفاسدين ومن اجل التغيير الحقيقي في ادارة الدولة.