المنبرالحر

ساكت راضي / قاسم السنجري

يُقال أن رجلاً يُدعى "ساكت راضي" يعيش في هذه الحياة بلا موقف؛ ولم يسجل في حياته أي اعتراض حتى في أموره الشخصية. وحتى حينما أراد والده أن يزوجّه إحدى قريباته غير الجميلات، لم يعترض أو يرفض لسبب قد يبدو وجيها عند أي شاب يقبل على اختيار زوجة له والذي يشترط أن تكون على قدر مقبول من الجمال. إلا أن ساكتاً كان ساكتاً على الدوام، لا يتعب نفسه في إيجاد صيغة مناسبة لدفع الأذى عنه. فحتى في زمن نظام المقبور صدام لم يستطع التخلص من التجنيد في قواطع الجيش الشعبي، بالرغم من كونه غير مسلحٍ لإصابة في قدمه في إحدى المعارك الأولى في الحرب العراقية - الإيرانية، فذهب صاغرا يجرُّ ساقه المعاقة على مضض.
وحتى حين عَمِلَ حارساً مؤقتا في فترة التسعينيات إلى العام ٢٠٠٣، لم ينبس ببنت شفة أمام "الحواسم" الذين اقتحموا المخزن الذي بعهدته وقاموا بعملية الفرهود، وأبى أن يشاركهم في الاستحواذ على بعض ما احتواه المخزن من مواد كهربائية، وانسحب بصمت كعادته.
وتمضي السنوات بساكت إلى العام ٢٠٠٧ حيث أيام التهجير والعنف الطائفي ليجد نفسه وقد فقد أحد ابنائه مغدوراً، وبلا بيت يؤويه بسبب تهجيره، بالرغم من أنه لم يجاهر بطائفته، ولم يشهد له مسجدا الحي الذي يقطن فيه انه دخل إلى أحدهما ولو عابر سبيل.
كان ساكتاً على الدوام، حتى حين قُطع عنه راتب الرعاية الاجتماعية بسببل أخطاء في ملفه، ليكون من ضحايا التقشف الذي أجرته الوزارات العراقية ومنها وزارة العمل والشؤون الاجتماعية. ويبقى ساكت راضياً بما تأتي له الأقدار.
ساكت مصداق لآلاف من العراقيين الذين يشابهون ساكت في سكوته ورضاه، ليس لأن الوضع العام يدفع إلى الرضا، ولكن لأنهم لا يملكون أدوات الاعتراض اللازمة. فالعراقيون الذين عاشوا في العام ٢٠٠٦ بميزانية تقدر بـ٥٠ تريليون تقريبا، دون أن يعانوا أي تقشف وكانت الأبواب مفتوحة لتوظيف الكثيرين في وظائف عسكرية ومدنية، وكذلك في العام ٢٠٠٧ بميزانية ٥١ تريليون دينار، أي بزيادة عن ميزانية العام الذي سبقها بـتريليون دينار، دون أن يلاحظ المواطن العراقي اي مظاهر للتقشف أو يشكو من قلة الموارد، ألا وهي مبيعات النفط المورد الوحيد لميزانية الدولة العراقية.
وتقفز الميزانية في العام ٢٠٠٨ لتصل إلى ٦٠ تريليون دينار، لتعتبر في حينها من اضخم الميزانيات في تاريخ العراق وقيل أنها تهدف الى تنشيط الاقتصاد وإطلاق حركة الاعمار وتحفيز الاستثمار. إلا ان الاقتصاد لم ينشط والاستثمار لم يحفز، حيث عادت الموزانة في العام ٢٠٠٩ إلى ٥٠ تريليون دينار، أي اقل من العام الذي سبقها بـ١٠ تريليونات دينار، ولم يتم الحديث عن تقشف أو عجز في الميزانية. لتقفز في العام ٢٠١٠ إلى اكثر من ٨٤ تريليون دينار، وفي العام ٢٠١١ إلى أكثر من ٩٦ تريليون دينار، وفي العام ٢٠١٣ إلى اكثر من ١٣٨ تريليون دينار وهي السنة التي وصفها رئيس الوزراء السابق بأنها سنة البناء والاعمار دون ان يحدث اي بناء أو إعمار. لتليها سنة ٢٠١٤ حيث غابت الموازنة عن المشهد لنصل في العام ٢٠١٥ إلى ميزانية تحمل عجزا يتجاوز الاربعين تريليونا.
كل هذه الارقام والمواطن العراقي يقف ساكتا راضيا. قالوا سنتقشف، سكت ورضي. قالوا ادخار إجباري، ولم يتحدث أحد. لكن أيضاً لم يتحدث أحد عن مصير الأموال التي احتوتها الميزانيات السابقة دون أن يكون لها أثر على أرض الواقع.