المنبرالحر

السرقة الكبرى في مدينة البصرة : صورة من صور الفساد المالي والاداري.. / جاسم المطير

يظن البعض ان ظاهرة الفساد المالي والإداري هي ظاهرة عابرة في الوقائع الاقتصادية والمالية في ما بعد التاسع من نيسان عام 2003 ، وهي توكيد لواقع سياسي معيّن ساد في مجتمعنا خلال السنوات العشرة الماضية، لكن الواقع الإشكالي الطويل، الذي هيمن على العقل الاقتصادي – الاجتماعي – السياسي في فترات قرن مضى على العراق منذ تأسيس الدولة الحديثة عام 1921 يؤكد أن ظواهر الفساد ،المالي والاداري، هي حقائق عينية ، بنسب متباينة، في الدولة والمجتمع العراقيين منذ ذلك الحين . السبب الرئيسي لهذه الظواهر التي استفحلت بعد 2003 يعود الى ان جذورها كامنة في البنية المالية – الادارية التحتية في الاقتصاد السياسي للنظام الرأسمالي، بل يمكن اعتبارها مزايا ومكاسب ممنوحة للموظفين العاملين في الادارة الرأسمالية، ولبعض السياسيين، ولبعض النواب ، ولبعض القادة العسكريين من الجماعات العاملة في خدمة الفضاء الرأسمالي في المجتمع .
كان اهتمام (ماكس فيبر) بضوء بعض مقولات (كارل ماركس) من أن التطور الرأسمالي في المجتمع وتطور التكنولوجيا ،هو الذي أوجد منصب (المدير) أو (الرئيس) في مؤسسات الدولة .ومن هذا المنصب بالذات نشأت البيروقراطية، التي وضعت ثروة البلدان الرأسمالية ووسائل الانتاج فيها تحت قبضة (المدير) و(رئيس مجلس الادارة) بما في ذلك المدراء الفاسدين والادارات الفاسدة . لذلك أكد ماكس فيبر أن الطبقة القائدة في كل مجتمع رأسمالي تأتي من طبقة الموظفين الكبار والمديرين البيروقراطيين ، الذين لا يكفـّون عن خلق الإشكاليات الادارية وفي مقدمتها إشكالية الفساد المالي والاداري.
في مقالتي هذه أورد مثلاً واحداً عن حالة فساد نتجت في بنية المجتمع المالي بمدينة البصرة في حقبة النظام الملكي قبل سقوطه بثورة 14 تموز عام 1958 . هذا المثال عن الفساد المالي – الاداري حدث في فرع البنك العربي بالبصرة . وصفت في ذلك الوقت بأنها من أكبر السرقات في العالم العربي . سيطرت على طموحي الصحفي آنذاك نزعة صحفية بدفعٍ من الحزب الشيوعي الذي كنت منتميا إليه عضواً نشيطاً لمتابعة تفاصيل ظاهرة (السرقة الكبرى) التي حدثتْ في هذا البنك ،خاصة وقد كنت قد استثمرت خبرتي المحاسبية في هذه المتابعة، إذ كنتُ اعمل محاسبا في ثلاثة مجالات تجارية حيوية كانت طاقاتها التجارية تسعى للربح المادي الرأسمالي ،مما كان يفرض عليّ ممارسة روتينية يومية بلا جدوى. وجدتُ الرغبة عندي مشدودة تماما لتقصي الحقائق حول (السرقة الكبرى) التي حدثت في مدينة البصرة ، الناهضة في تلك الفترة باقتصادها وعمرانها وبحركتها الثورية ، خاصة وان أحد الموظفين آنذاك كان (عبد علي السواد) الذي كان يدير احد الاقسام في البنك المذكور قد زودني بكل المعلومات الناظمة للسرقة الكبرى . كان عبد علي السواد معروفا بكونه شيوعياً يدير في البنك القسم ،الذي تمركزت فيه عناصر (السرقة الكبرى) لكنه الوحيد لم يُمس بأية تهمة رغم دقة الموقع الذي كان يحتله، بل كان أحد العيون اليقظة لحماية مصالح البنك والناس . حين انتهت التحقيقات والمحاكمات انتشرت في البصرة ودوائر الدولة فيها حقيقة واحدة كان يتناقلها الناس بما فيها رواد مقهى التجار هي: أن يد الموظف عبد علي السواد كانت بيضاء وناصعة لأنه شيوعي تعلّم الإخلاص في العمل وصيانة حقوق الناس والمحافظة عليها. تعّلم أخلاقية الإنسان الحقيقي على يد سامي أحمد العامري الذي رشحه لعضوية الحزب الشيوعي ، كما أقترح ترشيحه لوظيفته في البنك العربي يوم كان يشتغل فيه مديراً للحساب الجاري قبل اعتقاله ومحاكمته وارساله سجينا الى سجن بعقوبة .
في أقصى الزاوية الشرقية الجنوبية من محلتنا ( محلة العشار) كانت تشمخ بناية جميلة . معمار ذو جاذبية . مَعـْلم بارز من معالم التطور العمراني في المدينة الطيبة . في الأعلى تصبح عاطفة المشاهد هي الغالبة عندما يجيء صوت دقات الساعة الشامخة ( ساعة سورين ) ، الصورة المصغرة لأكبر ساعة في العالم سمعنا عنها ، هي (ساعة بك بن) في العاصمة البريطانية. أتحدث هنا عن بناية البنك العربي المطلة على نهر العشار . كان البنك كأي واحد في هذا العالم يمارس كل وقائع المال والصكوك والقروض واعتمادات الاستيراد والتصدير. عمليات يومية ميكانيكية متواصلة . دائن . مدين . صرف وقبض . أفعال عادلة تمر أوراقها عبر البنك . أفعال في غاية السوء تمر أوراقها أيضا ً ، بنفس المستويات والسلالم . أرقام متواصلة ، متصاعدة الأرصدة ومتنازلة حسب الظروف . أسماء تجار كبار وأسماء تجار صغار . باختصار فأن البنك العربي هو واحد من الأسواق المالية يتنفس عمليات التحويل والدفع والقبض .
كان البنك عربيا ً . هو وحده العربي – عدا الرافدين الذي يحاط ببنوك عالمية مثل البنك البريطاني في الشرق الأوسط ، البنك الشرقي ، البنك العثماني وغيرها . كانت خبرة البنك العربي قد قامت على جهود طيبة لشباب طيب من المدينة الطيبة .
أخضع البنك في البصرة لأفكار أول مدير هو أبراهيم محمد البسام . يبحث في النظام الصارم أكثر مما يبحث في التسيب الوظيفي . يبحث في الضبط اليومي الدقيق . يبحث في النظافة بكل أشكال معانيها ، بما فيها (نظافة اليد) . يؤيد موقف الموظف الصائب . يزن بدقة مواقف زبائن البنك . يقيد الأخطاء ويطوقها حال وقوعها . يغيّر علم الحساب والمحاسبة اذا لم يكن طيّعا ً في تسهيل العمليات المصرفية . بذلك صار هذا البنك من أحسن البنوك البصرية تحت قيادة الوحدة الوظيفية الموجهة التي أوجدها هذا المدير الذي سبق له أن عمل دبلوماسيا ً يمثل العراق في القدس .
جاء بعده المدير الثاني هو بشير الجراح . من الموصل . عقل كيّس . دقة في العمل . قبل أن يبتكر له نظاما ً خاصا ً في العمل ، وقبل أن يوثق علاقاته مع الموظفين والزبائن صدر أمر نقله الى بغداد كمدير عام للبنك العربي فرع العراق .
جاء البديل . فاضل رشيد . من بغداد . عسكري سابق . من الضباط الصغار المشاركين في حركة رشيد عالي الكيلاني . فصل من الجيش بعد فشل الحركة . ثم جرى تعيينه في البنك العربي بوساطة طالب مشتاق المدير الإقليمي للبنك العربي في العراق .
كان فاضل رشيد على العكس من سلفيه . متعمق في عصير الملذات الجسدية والمسكرة . وجد في البصرة سبيله السهل الى كل المتع الجسدية . بكــّر في ارتياد الملاهي الليلية واستقر سلوكه على الاستمتاع بلذائذ الليل كي يتخلص من كل آلامه الموروثة عن تأريخ سابق . كانت هذه الصفات هي من اكتشاف مبكر لعدد من موظفي البنك . ألتفوا حوله . دفعوه الى الطريق الذي أراد الدخول فيه . طريق اللذائذ الليلية . صانوا أسراره . أخذوا ، تدريجيا ً ، تقريبه من النساء وتقريب النساء اليه . صار تعدد السهرات تفوّقا ً ملموسا ً في رجولة هذا الرجل ، خاصة وأن جميع نفقات السهرات مدفوعة سلفا ً من جيوب الموظفين المحيطين به أو من قبل بعض التجار من زبائن البنك . كان الموظفون يتصرفون بمنتهى الحياء نهارا ً اثناء وجودهم في البنك . كما كانوا يتصرفون بمنتهى الفحشاء في الليل . هذا ما كان يثير خيال المدير ويبعث الرغبة القوية في مطاردة وقت الغانيات والراقصات كي يملأ " معدته " الى أقصى ما تطيق .
صار الشواء في البنك ناضجا ً أذا ً . فقد تمكن جاسم القاروني . يوسف صالح . عباس حسن من إنضاج الشواء الى الحد الذي أصبح كل واحد من هؤلاء الثلاثة مديرا ً في قسم من أقسام البنك . بدأت الخطة الموضوعة تجتاز المصاعب الروتينية وتحتل موقعا ً بعد آخر صعودا ً نحو وضع البنك كله تحت أيديهم تمهيدا ً لتحقيق الكسب الكبير بحماية مدير البنك نفسه وبرعايته أيضا ً . انتهى اداء العمل وتجمعت جميع خطوط القيد والصرف ، والأرصدة ، والتحويل ، بأيديهم .
ماذا بعد .. ؟ لابد للأداء أن يكتمل بين داخل البنك وخارجه ، بين العمليات الداخلية والعمليات الخارجية . لا بد أن تضبط خطوط العملية كاملة . أسفر البحث عن الاتفاق مع بعض زبائن البنك لتحقيق الرغبات المشتركة ، في الأثراء فورا ً على حساب سرقة البنك، وسرقة أرصدة الزبائن، غير مبالين لا بالقانون الأخلاقي ولا بالقانون الوضعي . هذا هو الزبون الأول عيسى عبد الصمد العطية لديه رغبة شديدة في تعدد أعماله وأتساعها كي تتزايد ثروته بضربة واحدة سريعة ليتحول من وكيل سيارات بالعمولة الى مالك سيارات ومعارض وتمت الصفقة الثانية مع ألياس دورنة صاحب مكتبة الجميع الذي كان يحس بفراغات رصيده الضعيف ، باحثا ً عن فرصة سريعة لسد هذه الفراغات لكنه سحب نفسه من العملية بعد أن وعى شرّها .
كان الثالث (كبان هاشم الرمضان ) تاجر شاي محدود الإمكانية ، يشعر بأن حياته تتطلب الإسراع في التحول الى مستورد كبير للشاي . أما الرابع فهو التاجر جاسم الموسوي الذي كان محله التجاري متخلفا ً بالنسبة الى أقرانه من تجار المواد الكهربائية . هذا هو شعوره .
تجمع هذا الجمع للإحاطة بالمدير . كانوا لا يسأمون رؤية استعراضات السيقان العارية في الملاهي ، بل كانت الصفقات تعقد تحت تلك السيقان . كان المدير هو الضيف المحتفى به ، الذي لا يعلم بما يجري سوى أن الجميع يدفعونه دفعا ً للانغماس في مغامرات نسائية غير محدودة ومدفوعة الأجر مقدما ً . أصبح كل شيء مألوفا ً أمامه . تمزقت عند ذلك كل قدراته في ضبط البنك وأمواله .
بدا التلاعب بالأرصدة . أضافة أرصدة غير متحركة الى أرصدة متفق عليها هي أرصدة الأربعة من التجار المذكورين .. قيود داخلية تزوّر وتحوّل الى أرصدة الأربعة . والأربعة يسحبونها في اليوم التالي . حانات الليل وملاهيه تغطي العملية التي جرت في الصباح . يوما ً بعد يوم يخّدر الموظفون الثلاثة كل موظفي البنك تقريباً . لا أحد يتقرب الى الثلاثة . ليس من حق أي موظف أن يسأل أو يتابع . مستحضرات ومعالجات حسابية يجريها الثلاثة الكبار في البنك . أستمرت العملية لأكثر من شهر . تجمعت المبالغ الكبرى – أكثر من 250 الف دينار – لدى التجار الأربعة وهو موعد اقلاع القيادة الداخلية قريبا ً بعد اتخاذ القرار لتحقيق الوصول الى الرقم 500 ألف دينار، الذي حدد الوصول اليه خلال اسبوعين .
لكن الصدفة جاءت . وللصدفة في الأعمال الحسابية جاذبية خاصة أو قل أن لها رنيناً خاصاًً أقوى من رنين ساعة سورين التي تدق فوق البنك العربي كل ساعة معلنة خطر زوال ساعة واحدة من عمر كل السامعين .
بنظام تلقائي طبيعي سحب أحد التجار صكا ً من رصيده . رُفض الصك لعدم وجود رصيد . كان التاجر يرتكز على دقة سجله الحسابي فأصر على وجود رصيد لديه .وأن البنك ، بنظره الأكيد، هو المخطئ . وصل الأمر الى المدير الذي أجّل النظر في الموضوع الى اليوم التالي.
تحت سحر إغراءات اللذة الليلية للمدراء الثلاثة سُوّي الأمر في اليوم التالي بإضافة المبلغ المأخوذ من رصيد التاجر الذي تم اكتشاف سرقته .
سرى النبأ بين الموظفين في البنك فاستيقظوا على غرائب وعجائب . كما أستيقظ التجار من زبائن البنك الذين كانوا متجمهرين على أبواب البنك للتأكد من أرصدتهم . دقت ساعة سورين الثامنة صباحا ً ولم يحضر الموظفون الثلاثة . دقت التاسعة وكانوا غائبين أيضا ً ،فازداد ضغط التجار . لا أحد يستطيع ان يتصرف في هذه المتاهة . كان المدير في موقف أخلاقي صعب . طارت كل اللذائذ وغدا يومه منغمسا ً في السواد . ثم انكشفت العملية بالكامل وبالتفاصيل .
حين وصلت لجنة التفتيش من بغداد كانت عصابة السبعة قد انتقلت ، سرّاً، بالهروب من البصرة الى مدينة خرم شهر في جنوب أيران . البعض منهم هرب إلى الكويت . الموظفون تركوا وظائفهم والتجار تركوا تجارتهم . وجميهم بلا مال . ولا حساب . لا قيم ولا أخلاق ولا نساء ولا مسكرات . ضاع منهم المال الحرام .. تسكعوا في شوارع ايران والكويت وعادوا فقراء الى البصرة ، مثلما أعيد بعضهم بواسطة الإنتربول . سجن منهم البعض ، ونال البعض الآخر جزاءً أقل . ظل البنك العربي في البصرة مطعونا ً في كرامته بعد أكبر سرقة شهدتها البصرة .
تعثرت كل الصحف في كتابة شيء عن هذه الفضيحة وتفاصيلها . حاولتُ أقناع رئيس تحرير جريدة (الخبر ) في نشر معلوماتي الخاصة والدقيقة التي حصلت عليها من صديقي (عبد علي السواد) الذي كان يعمل في نفس البنك والذي كان يزودني بها أولا ً بأول حتى أصبحت الوحيد الذي يملك تفاصيلها .
رفضت جريدة الخبر البصرية التي كنت اعمل فيها مصححاًً نشر التحقيق الصحفي الذي كتبته ورفضت جريدة الزمان البغدادية التي كنت اكاتبها . ثم نامت المعلومات في أدراج مكتبي على أمل أن احوّلها الى قصة قصيرة أو الى رواية في قادم الزمان، لكنني لم أفلح رغم مرور أكثر من 60 عاما على حادثة (السرقة الكبرى) .
افلحتُ اليوم في تذكر بعض جوانبها في هذه المقالة في زمان صعدتْ فيها ارقام السرقات الكبرى من آلاف أو مئات الألاف من الدنانير في بلادنا الى ملايين ومليارات الدولارات من خزائن المال العام ومن بعض اموال البنوك.
يظل هذا الزمان أيضاً زمان الانسجام والوحدة بين الفساد والفاسدين طالما ظل الرأسماليون الجدد على رأس مؤسسات الدولة يتعامون عن هيمنة النزعة المالية المتوحشة وشيوع قيم ومفاهيم ( المقاولين) المتمركزين في اقتصاديات البلاد وتصورات (التجار) المتمركزين في قمم مجتمع الاستهلاك يغمضون عيونهم عن تراجع القيم الانسانية الحقيقية .