المنبرالحر

كوّة الامل / عبدالمطلب عبدالواحد

يعاني بلدنا ـ العراق ـ من أزمات بنيوية عميقة على صعيد الاقتصاد والسياسة والمجتمع، ويتجسد ذلك في التعثرات والاختلالات التي تعاني منها العملية السياسية، ويدفع ثمنها المواطن العراقي المحروم من الحد الادنى للعيش الكريم في اوضاع انسانية يتوفر فيها الامن والخدمات وابسط اشكال الضمانات الاجتماعية.
ويقع في عمق هذه الازمات، التشظي الاجتماعي الناتج عن سياسة المحاصصة الطائفية والقومية، وحجم الفساد الهائل المنتشر في جسد الدولة، وربما تعداه الى النسيج الاجتماعي ذاته. وتحاول الفئات السياسية المتنفذة بكافة تلاوينها استثمار الازمات لمنافعها الفئوية والحزبية على حساب مصالح الشعب والوطن، وبذلك تعمل من حيث تدري او لا تدري على تهديم مقومات الدولة والمجتمع.
ومع الابتعاد عن التعميم المطلق، يكفي لاي مراقب محايد، إلقاء نظرة على المناكفات السياسية بين أطراف العملية السياسية، ليدرك مدى انحسار مشاعر المواطنة لدى القائد السياسي وتمسكه الصارم بالطائفة والعشيرة والعرق والقومية، وهي انتماءات تمتلك حضوراً اجتماعياً وواقعياً غذته السلطات الدكتاتورية، وتكرّس فعلياً في الحياة السياسية لمرحلة ما بعد 2003 حتى الآن.
وقد تجسّد عملياً في محاولات بناء نظام ديمقراطي توافقي يقوم على الولاءات الدينية والطائفية والعرقية في بلد متعدد الاعراق والطوائف، يعتمد اقتصاده بشكل رئيسي على مورد وحيد فقط هو النفط الخام.
ومن هنا بالضبط يتحدد جوهر الازمة، إذ اننا ندّعي، أو نريد أن نعمل على بناء دولة ديمقراطية بقوى وشخوص سياسية في واجهة المشهد، لا تؤمن اصلاً بفكرة الدولة، كما لا تؤمن بفكرة الوطن. فكيف لها ان تؤمن بالديمقراطية، وكيف يمكن تأسيس عملية سياسية ديمقراطية بلا ثقافة ديمقراطية، وبدون الشروع بالاصلاح الاداري والاقتصادي والمالي والقانوني، ووضع الأُسس اللازمة لعملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ؟؟؟.
وقد كان من المؤمل ان تُحدِث الانتخابات البرلمانية الاخيرة في 2014 ، تغييراً بمستوى الحاجة الشعبية الماسة للتغيير، غير ان نتائج الصندوق لم تكن بمستوى الطموح المعوّل عليها. ورغم ذلك فان تغييراً ما قد حدث، وهو بلا شك تغيير إيجابي رغم محدوديته، وقد إنعكس ذلك في تشكيل حكومة جديدة، حظيت قبولاً داخلياً وعربياً، واقليمياً ودولياً لافتاً.
وقد عكست التوجهات الايجابية للحكومة الجديدة واجراءاتها مناخاً من التفاؤل الحذر لدى مختلف الاطراف السياسية والاوساط الشعبية، كما اشار الى ذلك التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي في ت2 /2014، من : "ان هناك فرصة للاستفادة من دروس وعوامل الفشل السابق. وقد فتح كل ذلك كوة أمل في إمكان ايجاد حلول للمشكلات ومخارج للازمات. لكن الحكم في النهاية يعتمد على الأفعال، وعلى الاسراع في تحويل التوجهات والبرامج المعلنة والوعود التي تم اطلاقها، إلى اجراءات عملية وحقائق على الارض. كما ان هناك مهمات آنية غير قابلة للتأجيل على صعيد المصالحة الوطنية، وتجاوز الجفاء في العلاقة بين الحكومة الاتحادية وحكومة الاقليم، والتخلص من رموز الفساد المعروفة والمدانة قانونا".
وبدون الخوض في التفاصيل، لابد من التأكيد على ان إتساع كوة الامل يعتمد في المقام الاول على إنهاء نظام المحاصصة الطائفية، واعتماد مبدأ المواطنة والكفاءة في بناء الدولة وفي اعادة اعمار البلد، كما في قيادة كافة المؤسسات السياسية والادارية والامنية والعسكرية، والتخلي كلياً عن التمسك بالولاءات الفرعية بذريعة الاستحقاق الانتخابي.
ومن هذا المنطلق يقع على عاتق الحكومة والبرلمان ــ على الاقل ــ الالتزام بتنفيذ وثيقة الاتفاق السياسي بتوقيتاتها المحددة والتركيز على تبني موضوعة الوحدة الوطنية في الممارسة السياسية على ارض الواقع، والكف عن الاختباء وراء ضجيج المهرجانات الشكلية، والعمل على تنفيذ برنامج الحكومة المعلن، على الرغم من لا واقعية توجهاته الاقتصادية، الرامية الى ابعاد دور الدولة كلياً عن ادارة الاقتصاد الوطني، في هذه المرحلة الحساسة بالتحديد. كما يقع على الحكومة ايضاً، تجنب تحميل المواطنين عبء الازمة الاقتصادية، والسياسة التقشفية الناتجة عن انخفاض سعر النفط العالمي. والعمل على توفير كل ما يؤمن الدفاع عن السيادة الوطنية، وتحقيق النهوض الوطني في معركة المواجهة مع داعش والارهاب وكل مظاهر العنف في وطننا. وهي معركة لا يمكن ان يتحقق النصر فيها بالجهد العسكري فقط، على الرغم من اهميته القصوى.
كما يقع على عاتق الحكومة عملاً جاداً وحازماً، هو التصدي للفساد، الذي يشكل أشرس وأبشع الاخطار التي لا تهدد مستقبل العملية السياسية وافاقها الديمقراطية فقط، بل تهدد مستقبل ومصير العراق كدولة ووطن.
ولذا فان التمسك بكوة الامل، والعمل على إتساعها، يجد تعبيره في الكفاح الجماهيري المطلبي، الذي يخوضه عمال التمويل الذاتي حاليا، والمزارعون والفلاحون...، والعمل على مواصلة هذا الكفاح من قبل سائر الكادحين والكسبة والنساء والطلبة والشباب، والصناعيين والبرجوازية الوطنية والمثقفين ومنظمات المجتمع المدني والنقابات والاحزاب الوطنية والديمقراطية واصحاب التوجه الديمقراطي في اوساط الاحزاب والمنظمات القومية والدينية، داخل مجلس النواب وخارجه، وكل الذين يعزعليهم بناء عراق وطني ديمقراطي اتحادي.
ان مافيات الفساد المتجذرة في جهاز الدولة، والمتدثرة بأردية التدين السياسي، التي ابتلعت آلاف المليارات من ثروتنا الوطنية، سوف لن تستسلم بسهولة، وسوف تقاتل بشراسة من اجل خلط الاوراق وابقاء الوضع على ما هو عليه، للاستمرار في هيمنتها ولتعظيم ارباحها. ولكن التصدي لها، يظل ممكنا بمدى إدراكنا لضرورة العيش المشترك على ساحة الوطن، وبالوعي الوطني الديمقراطي والعمل الوطني المشترك، لتحقيق المطالب الانية الملحة، والتي في المقدمة منها، تدوير عجلة الاقتصاد المنتج والمصالحة الوطنية الحقيقية، التي تشكل اساساً لتماسك المجتمع والدولة. وبديهياً فان الدولة الديمقراطية لا تستمد شرعيتها من الاليات الانتخابية فحسب، وانما في قدرتها على بسط سيادتها الوطنية وفق القانون التعاقدي على كافة الطوائف والتجمعات والمؤسسات والافراد، وفقاً لمبدأ المواطنة، والمواطنة فقط ، دون اي اعتبار آخر.
المفكر داريوش شايغان في كتابه "النفس المبتورة" ، يكتب: " لكي يكون هناك ديمقراطية، لابد اولاً من ان يكون هناك علمنة للعقول والمؤسسات، وان يكون الفرد كفرد ذاتاً مستقلة قانونا، وليس نفساً مغفلة ذائبة في الكتلة الهلامية للامة."، ويضيف: " ان الاصولية تخفّض العقل الى مستوى الردود الانفعالية والغضبية، وكل سقوط للعقل يحمل في ذاته بذور العجز والوهن." (1)
وعوداً على بدء، فان امكانية تأسيس وترسيخ الديمقراطية في الحياة السياسية الاجتماعية في عراقنا، ستكون بالضرورة عملية تاريخية طويلة الامد، ومشروطة ، بتوفر مقوماتها المادية والاجتماعية.
(1) داريوش شايغان - "النفس المبتورة" - الطبعة الاولى الصادرة باللغة العربية عن دار الساقي 1991، الطبعة الالكترونية ص 44