المنبرالحر

الهجرة الايزيدية حل واقعي أم خيالي ؟ / زهير كاظم عبود

لم يعرف الايزيديون الهجرة إلا في الزمن القريب ، فقد عرفهم التاريخ متمسكين بالأرض وارتباطهم بالمقدسات الدينية فيها ، لم يفارقوا مناطقهم بالرغم من الهجمات والمجازر الدموية التي طالتهم بسبب التزاماتهم الدينية ، والتي تكررت مرات عديدة من دون ان تحرك ضمائر العالم لمعاناتهم وتضحياتهم المريرة والطويلة ، وبعد كل تلك الفرمانات التي ذبحتهم بحد السيوف أو قتلتهم بقنابل المدافع والرصاص أو خنقتهم داخل الكهوف والمغارات ، فقد كانوا يدوسون على جراحهم ويعودون للحياة في مناطقهم ، وإذا كانت الهجرة تعني الانتقال من أرض الى أخرى ، او انتقال الأَفراد من مكان إِلى آخرَ سعيا وراءَ الرزق كما تقول المعاجم اللغوية ، فأن الأيزيديين لم يهاجروا من مناطقهم قبل هذا الزمن .
الغريب والمرير في الهجرة الايزيدية ، ان كل مهاجر في العالم يختار البلد الذي يستوطن ويقيم فيه برغبته إلا الايزيدي فأن ظروف هجرته تفرض عليه المكان الذي يهاجر اليه ، ويختار الايزيدي هجرته تحت وطأة تحسين الظروف الاقتصادية والإنسانية ، فيهاجر الشباب الذكور أكثر من غيرهم من شرائح المجتمع الايزيدي ، ولعل تردي الزراعة المهنة الأكثر شيوعا والتي يمتهنها الايزيدي في مناطق سكناه ، وانعدام فرص العمل وضعف الأحوال الاقتصادية عموما والتهميش السياسي الذي يلقاه من السلطات التي تعاقبت على حكم العراق ، والنظرة الدونية والمريضة التي ينظرها المجتمع له نتيجة تمسكه بديانته وأعرافه وتقاليده ، وتعرض الطائفة الايزيدية الى عمليات ارهابية غادرة تستهدف حياتهم وأمنهم ، هي من ضمن الأسباب التي تدفعهم الى مغادرة بيوتهم وحقولهم وقراهم ومجتمعهم نحو مجتمع آخر يختلف عنهم كليا .
لقد عرف الايزيديون الهجرة الداخلية من مناطقهم باتجاه مناطق الوسط والجنوب والعاصمة بغداد في اماكن متعددة داخل العراق ، حيث تنامى المجتمع الايزيدي وتوسع في مناطقه مع تفشي ظاهرة البطالة وسوء الاحوال المعيشية للأسر الايزيدية ، وتردي الأوضاع الصحية ، ما دفع شبابهم ورجالهم الى البحث عن فرص عمل تساعدهم في تدبير امور عوائلهم المعيشية ، بالنظر لتوفر ظروف عمل لا يمتهنها سواهم ، ان المسيحيين الذين بدأوا مغادرة العراق والهجرة التدريجية منه الى أوربا ، وتركوا اعمالهم وباعوا منازلهم من اجل الاستقرار في الدول الأوربية .
غير أن العديد من رجال الايزيدية كانوا ينتقلون الى المناطق التي يعملون فيها بمفردهم دون عوائلهم التي يتركونها في قراهم ومناطق سكناهم الأصلية ، على أن يزوروا تلك القرى بين فترة وأخرى ، وتلزمهم في هذا الأمر مشاركتهم في الطقوس والأعياد والمناسبات الدينية التي تقام في تلك المناطق .
ولعل الظروف التي مرت على الايزيدية بعد قيام الجمهورية في العام 1958 وانضمام العديد منهم الى الحركات السياسية ، والتحاق العديد منهم بالفصائل الكوردية المسلحة التي تقاتل السلطة في سبيل حقوقها القومية المشروعة ، والقبض على اعداد كبيرة منهم نتيجة ارتباطهم بالحزب الشيوعي العراقي أو الأحزاب الكردستانية ، وتقديمهم الى المحاكمات ، والحكم عليهم بالسجن وبأحكام شديدة ومختلفة بعد تعرضهم للتعذيب المرير ، أو صدور أوامر بالقبض عليهم أجبرتهم على الهروب من مناطقهم ، وكانت من بين الأسباب التي دفعت بعض منهم الى هجرة قريته أو مدينته مجبرا .
أن الأيزيدي يشعر بغبن فاحش في نظرة المجتمع العراقي السلبي له من خلال ما تم حقن العقل العراقي ضده من الناحية الدينية والاجتماعية ، وما طالها من تشوهات وتخرصات حرضت المجتمع العراقي لتجعله دوما مواطنا من الدرجة الثانية ، وحرمته الكثير من الحقوق ، كل تلك الظروف دفعتهم الى البحث عن مأوى آمن يستقبلهم ويحميهم ويؤمن لهم الكرامة ويمنحهم بعض الحقوق التي كانوا بحاجة ماسة لها ليشعروا بإنسانيتهم التي تعمدت السلطات الحاكمة على الاستخفاف بها أو تهميشها او تشويهها .
ولعلنا ندرك وبصراحة ان النص الدستوري الوارد في متن المادة(14 ) من الدستور الذي ينص على ان العراقيين متساوون امام القانون دون تمييز بسبب الجنس او العرق او الاصل او اللون او الدين او المذهب او المعتقد او الراي او الوضع الاقتصادي او الاجتماعي ، هو نص لا اساس له عمليا ازاء المكونات الدينية غير الاسلامية، وهذه تحتاج الى ثقافة جديدة ونظرة إنسانية حديثة للمجتمع ، حيث يمكن حينها أن يتساوى الجميع فعلا ، بينما الحقيقة إننا نعيش في الوقت الحاضر ضمن مجتمع يؤمن بعدم المساواة بين العراقيين بسبب الدين وخصوصا النظرة السلبية والمشوهة تجاه الديانة الايزيدية .
ومع بدء الهجرة الايزيدية الحديثة الى خارج العراق وأغلبها هجرة عن طريق التهريب أي بطرق غير شرعية أو قانونية، تحمل الايزيدي اموالا طائلة في عملية مجازفة لتهريبه عبر البلدان وصولاً الى بلاد يمكن ان تقبله كلاجئ وتمنحه الإقامة ، وكان الشباب الأيزيدي تواقا للوصول الى بلدان تقبل اللجوء الإنساني والسياسي ، حيث توفر هذه البلدان للمهاجر حقواقاً وضمانات لا تتوفر له مطلقا في بلده ، كما توفر له فرص التعليم المهني والثقافي ، وتؤهله للدخول الى ميدان العمل وتوفر له فرصة تطوير العمل ومساندته ماديا ومعنويا ليعيش على ما يدره عليه عمله ، كما تمنحه القروض المادية لإكمال دراسته او الدخول في مشاريع عملية ، وترعاه صحيا ، وتشركه في الانتخابات ، وتعامله كأي مواطن من أهل تلك البلاد من دون ان تنظر الى ديانته او قوميته ، كما تسمح له بأن يجلب عائلته وتلم شملهم ضمن ضوابط وقوانين تنظم هذه الحالات ، وتوفر له فرصة الحصول على جنسية البلد المقيم فيه وتمنحه جواز سفر يمكنه من الانتقال الى بلدان عديدة والسفر بيسر من دون معوقات .
ونقول أن الأيزيدية ديانة مغلقة منحصرة بأهلها ، وتستمد قوتها وديمومتها من مجتمعها وطقوسها وأعرافها ولا يمكنها الاعتماد على الزيارات السنوية أو الظرفية لمكانها المقدس ، كما أن الهجرة الكبيرة الملحوظة على الشباب الأيزيدي تضعف التواجد المستقبلي لكل من يؤمن بتلك الديانة ، وتفكك ارتباطهم بحكم وجودهم خارج وطنهم والتصاقهم بظروف عملهم وارتباطاتهم وظروف عوائلهم في الخارج ، كما أن نظام الطبقات الديني المطبق في المجتمع الايزيدي ، وما يفرضه من موجبات على الفرد يصبح أكثر صعوبة وتعقيداً في التطبيق منه في الدول الأوربية على هذا الفرد ، لعدم وجود تلك الطبقة التي تسمح له بالاختيار للزواج والارتباط وإنشاء العائلة بيسر ، واكثر من يعاني هذه القضية البنات المؤهلات للزواج ، على أن لا ننسى ما لتأثير زواج الشباب الأيزيدي رجالا أو نساء من الأجانب انسجاما مع المجتمع او لسهولة تكوين العلاقات الانسانية بين الجنسين وهو أمر ميسور وسهل في الدول الأوربية ، بالنظر لعدم وجود حواجز الطبقات والمهور والمبالغ المالية التي تقيد الأيزيدي عند رغبته بالزواج ، أو إقامة العلاقة مع إنسان ينتمي لديانة أخرى ، الا انه يخرج الأيزيدي من ديانته في كل الأحوال .
أن هجرة الشباب الايزيدي سوف تترك فراغا كبيرا في مجتمعه ، وستنعكس سلبا على تنامي المجتمع وتكوين الأسر والزواج بين الشباب ، بالنظر لسحب الزوجة أو الزوج الى خارج العراق انسجاما مع قانون" لم الشمل" الذي يتيح للمواطن سحب أسرته الى البلد المقيم فيه ، كما أنها تسهم في اضعاف التواجد الايزيدي في مكانه ، بالإضافة الى فقدان الايزيدية الى طاقات كبيرة من مبدعين ومثقفين ودعاة إصلاح نجد أن مجتمعهم اليوم بحاجة ماسة لهم .
من المؤكد أن المجتمع الايزيدي سيعاني الخلل والضعف بفقدان شريحة مهمة من شرائح المجتمع ، كما سيضعف هذا بدوره جزءا من هوية الايزيديين ، ونسيان الأعراف والتقاليد الانسانية التي يتمسك بها الايزيدي متميزا بها عن غيره في بقية المجتمعات ، وبالتالي ضعف الهوية الايزيدية.
أن الايزيدية وأن كانت من الديانات المغلقة الا انها بالتالي ديانة إنسانية ومسالمة وداعية الى السلام والمحبة والخير ، ولذا يترتب أيضا محاولة إعادة دراسة علاقة الفرد بهذه المؤسسة وتفعيلها وتوحيد رؤاها لتوحيد كلمة الأيزيديين التي تعاني الفرقة والتشتت والتباعد والاختلاف ، فنقول ان المجلس الروحاني بحاجة الى انتفاضة بحجم المأساة التي تحيط بخاصرة المجتمع الأيزيدي ، وأن يتحرر من شكليته وهيكليته لصالح علاقة الفرد بالدين ، وبحاجة الى دراسات صريحة وصادقة وجريئة بنفس الوقت ، وبحاجة لحوارات هادفة تدخل في عمق معاناة الايزيدي ، فسيكون ذلك سببا من الأسباب التي تحد من الهجرة كواقع يفرض نفسه على الحياة الايزيدية ، وسيستمر لفترة غير قصيرة من الزمن مستقبلا.