المنبرالحر

ثورة تموز14 ونصب الحرية / يعقوب الخفاجي

في هذه الايام ونحن نستذكر ثورة الرابع عشر من تموز، انما نستذكر تلك الانجازات العظيمة التي حققتها تلك الثورة على الاصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية كافة. ولم تكن هذه الثورة مغامرة عسكرية قام بها مجموعة من العسكر لاطماع شخصية او فئوية كما يحاول ان يصفها اعداؤها، بل كانت تعبيراً حقيقياً عن آمال وتطلعات شعبنا وتوقه للحرية والكرامة والاستقلال التام.
ولا نجافي الحقيقة اذا قلنا ان انجازات ثورة تموز رغم عمرها القصير قد وضعها في طليعة ثورات التحرر الوطني في آسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية. لقد فجرت الثورة طاقات الجماهير فظهر الابداع والمبدعون في ميادين الثقافة والادب ومختلف الفنون من تشكيل ومسرح وموسيقى..الخ.
ومن هنا لا بد ان نقف عند ايقونة الراحل جواد سليم ونقصد بها (نصب الحرية) ففي هذا الصرح الخالد عبر عن تلاحم الشعب والجيش بأروع تعبير، فكان اميناً وصادقاً في عمله الملحمي هذا. حينما سطر نضالات شعبنا وتضحياته في سبيل وطن حر وشعب سعيد. ان من يريد ان يقرأ تاريخ العراق السياسي ما عليه سوى ان يقف امام هذا النصب (البانوراما) ليكتشف المعدن الاصيل للشعب ووقوفه ضد الاستبداد والجوع والهيمنة الاجنبية. لقد كلف هذا العمل المتفرد صاحبه حياته لما بذله من جهد وصبر وتعب، إذ فارق الحياة قبل ان تكتمل عيناه بما جادت قريحته المبدعة. لقد اراد الفنان جواد سليم لنصبه ان يكون على شكل لوحات تعبيرية كل منها لها دلالاتها ومضامينها فيبدأ بالجواد ومحاولة القوى الرجعية والاستعمارية لتركيعه الا انه يأبى ذلك ويظل رأسه مرفوعاً الى الاعلى والجواد هنا يرمز الى الشعب ومقاومته كل اساليب القهر والاذلال، وتستمر حالة التحدي لدى الشعب من خلال تظاهراته وانتفاضاته. اما اللوحة التي تمثل الطفل فهي اشارة الى ميلاد الحركة الوطنية المتمثلة باحزابها السياسية المناهضة لتوجهات السلطة الحاكمة وانعزالها عن الجماهير. وتشتد المنازلة ويتساقط الشهداء في وثبة كانون 1948 واعدام قيادة الحزب الشيوعي العراقي عام 1949 وانتفاضة 1952 وشهداء قضاء الحي عام 1956 وغيرها. من خلال هذا الحراك الشرس يستحضر الفنان الراحل دور المرأة وهي تحتضن ابنها الشهيد ومن حولها النسوة وهن يشاركنها حزنها ولوعتها. ولم يكن الجيش بمعزل عما يحدث على الساحة السياسية اذ كان في قلب العاصفة من خلال اتصالاته بجبهة الاتحاد الوطني الممثلة لجماهير الشعب آنذاك ويحسم الموقف لصالح الشعب ويعلن النظام الجمهوري، وقد وفق الراحل في تصوير تلاحم الشعب مع الجيش بأروع صورة حينما جعل الجندي ينطلق من بين الجماهير لتحطيم قضبان سجن العراق الكبير بإتجاه الضفة الاخرى وبزوغ فجر جديد في حياة الشعب متمثلاً بقرص الشمس الذي يمثل النور والحياة الجديدة.. ويمضي صاحب النصب في الهامه المبدع حينما صور الحرية على هيئة امرأة تخلق في الفضاء اذ المعروف عن المرأة تمثل الخصب والحب والنماء، وحينما سئل الفنان لماذا تركتها (أي الحرية) من دون ارجل؟ اجاب بانه ارادها ان تخلق جماليا لا تدنسها امراض وادران الارض. ومن منطلق انتمائه واعتزازه بالوطن فقد جاءت لوحاته الاخرى محملة بالاماني والامال وان يرى العراق الجمهوري وقد قطع اشواطا من التقدم والرقي في مجالات الصناعة والزراعة والفكر والثقافة...
وبدونا ونحن نستعرض هذه المأثرة (نصب الحرية) نقول نعم لقد قطعت ثورة تموز اشواطا بعيدة فقانون الاصلاح الزراعي رقم (30 ) وقانون النفط رقم (80) الذي وضع يد الدولة على 99,5بالمئة من الاراضي تحت سيطرتها، وقانون الاحوال المدنية رقم (88) الذي انصف بموجبه المرأة وبناء الدور وتوزيعها على الفقراء وذوي الدخل المحدود وظهور منظمات المجتمع المدني الى العلن كنقابات العمال والجمعيات الفلاحية والتعاونية والشبابية والنسوية والطلابية، والخروج من المنطقة الاسترلينية وحلف بغداد، والانفتاح على المعسكر الاشتراكي واتباع سياسة عدم الانحياز والكثير من المنجزات التي لا يسع المجال لذكرها، ان هذه الخطوات الثورية الجريئة قد اغاضت ليس فقط القوى الرجعية التي تضررت مصالحها ولا دول الجوار المحيطة بالعراق ولا الدوائر الاستعمارية بل اغاضت حتى العناصر البعثية والقومية التي ساهمت بالثورة تحت شعارات (الوحدة الفورية) وبدفع من عبد الناصر والذين عاصروا تلك الحقبة يتذكرون محاولة البعثيين اغتيال قائد الثورة الوطني الزعيم عبد الكريم قاسم مثلما يتذكرون حركة الشواف الانفصالية ومدها برشاشات بورسعيد ومحطة اذاعة... لقد بلغ عدد المؤامرات التي حيكت للاجهاض على ثورة تموز اكثر من ثلاثين مؤامرة.. وفي 8 شباط الاسود من عام 1963 ينجح الفاشست باسقاط الحكم الوطني وتستولي على السلطة قطعان مسعورة متعطشة للدماء فأشعلت الحرائق في مدن وازقة العراق وانتهكت اعراض وممتلكات وامتلأت المعتقلات والسجون وحتى الاندية الرياضية بخيرة ابناء هذا الوطن قطعان من اراذل الناس حولت الوطن الى حمامات دم فكان القتل او السجن على الشبهة، وسيظل بيانهم رقم (13) وصمة عار تلاحقهم الى قبورهم. ونحن اذ نستذكر ثورة الرابع عشر من تموز الخالدة، لا يسعنا الا ان ننحني اجلالا امام شهداء هذه الثورة وفي مقدمتهم الشهيد الزعيم عبد الكريم قاسم وصحبه الميامين وقادة ومناضلي الحزب الشيوعي وعلى رأسهم سلام عادل وحسن سريع ورفاقه الاشاوس وكل الذين سقطوا دفاعا عن الثورة.. وستظل ذكراهم نجوما تضيء سماء الوطن ومحفورة في قلوب العراقيين على مر الزمن.