المنبرالحر

قوى اليمين المتطرف في اوربا* / بقلم: فالتر باير** / ترجمة: رشيد غويلب

في انتخابات البرلمان الاوربي خلال ايار 2014 استطاعت احزاب اليمين المتطرف ان تحتل الموقع الأول في ثلاثة بلدان (بريطانيا، الدنمارك، وفرنسا). وازداد عدد النواب القوميين المتطرفين بنسبة 25 بالمائة. وهؤلاء النواب ينتمون الى كتل برلمانية مختلفة، علما ان عددا هاما من نواب اليمين المتطرف والنازيين الجدد لا ينتمون لأية كتلة برلمانية . وحزب "فيدس" الهنغاري، الذي يمتلك الكثير من مواصفات احزاب اليمين المتطرف، وجد مكانه في كتلة حزب الشعب الأوربي" (يمين محافظ) .
ونتيجة لهذه الاختلافات، فإن توصيف "اليميني" مبهم للغاية. ويتسع طيف الاحزاب التي تنطبق عليها هذه التسمية من النازيين الجدد الى الأحزاب اليمينية ، التي تكيف أداءها مع الضرورات الإعلامية.
ان التجربة التاريخية لليسار في المواجهة مع اليمين المتشدد و المتطرف غنية وواسعة النطاق. ومع ذلك، ينبغي لهذه الحقيقة ان لا تقودنا إلى إغفال المعطيات الجديدة المضافة الى ما هو متوفر. وليس هناك كاتب معاصر عرض العلاقة بين تطور اليمين والازمة الرأسمالية، كما فعل كارل بولاني. ففي عمله الرئيس "التحول الكبير" الصادر عام 1944 يشير الى ان الاشتراكية والقومية ينميان في وسط رأسمالية شديدة الأزمة. وكلاهما يمثلان ردا على فشل "المساعي الطوباوية" (1)للمجتمعات والعلاقات الدولية المبنية على اساس الأسواق ذاتية التنظيم.
ما هي الشعبوية؟
غالبا ما يفسر اليوم حصول الاحزاب اليمنية المتطرفة على المزيد من المكاسب الانتخابية بطريقة تبسيطية تعيدها الى احتجاج الفئات الدنيا المصابة بالإحباط.في حين تشير المعطيات المتوفرة في العديد من الدول، الى ان هذه الأحزاب تجد مؤيدين لها في الطبقة الوسطى، وبشكل متزايد في الفئات ذات الدخل المرتفع. وافكاراليمين المتطرف ليست الاديولوجية السائدة حتى الآن ولكنها قريبة من ذلك. أو كما يكتب استاذ العلوم السياسية الهولندي "كاس مودا"، ان ألأمر يتعلق بـ"طبيعة مرضية" اكثر من "مرض طبيعي".
ويحسب على احزاب اليمين المتطرف التي وظفت الشعيوبية للظهور بمظهر محترم: حزب استقلال بريطانيا، الجبهة القومية الفرنسي، وحزب الشعب الدنماركي، رابطة الشمال الايطالي، وديمقراطيو السويد، الفنلنديين الحقيقيين، حزب الحرية الهولندي وحزب الحرية النمساوي. وتوصف هذه الأحزاب اليوم بنموذج الاحزاب الشعبوية. وفي العلوم السياسية يرتبط مفهوم الشعبوية في الأصل بتوصيف الحركات الإستبدادية التي تدعي الاستناد الى الشعب. و سرعان ما تبين أن هذا المصطلح، وعندما يبحث المرء عن تعريف دقيق له، يمكن ايضا ان يوظف كمصطلح نضالي، وفق حاجة هذه الحركة السياسية او تلك، للتعبير عن السياسة المعارضة التي تتبناها.
ولليسار واليسار الليبرالي صعوبات جمة مع المصطلح. وتشير كاتبة العلوم لسياسة البريطانية ماريغريت كانوفان الى " ان الشعار الأبدي للشعوبية هو: ان سلطة الشعب تسرق من قبل السياسيين ومجموعات المصالح الخاصة"، وهو توصيف لا يخالف الحقيقة تماما.
وعندما تلصق الشعبوية بين الوعود وحقيقة الديمقراطية، فانما تعبر عن تناقضات هيكلية عديدة وعميقة في المجتمع الرأسمالي، اي التناقض بين المساواة المزعومة التي تدعيها الديمقراطية، واللامساواة الفعلية التي يعيد النظام الاقتصادي الهرمي انتاجها باستمرار. والشعبوية هي من أعراض صعوبة الحفاظ على المواءمة بين هاتين الحقيقتين لمتعارضتين. و نموها يشكل بادرة لأزمة جدية للديمقراطية. ويسعى "كاس مودا" ايضا الى توضيح. ان الغالبية العظمى من الأحزاب التي توصف بـ"اليمين الشعبوي المتطرف" تجمع في جوهرها الإيديولوجي القومية المؤسسة على العنصرية، التسلط، والشعبوية. والأخيرة، اي الشعبوية، ترى ان المجتمع منقسم، بنهاية المطاف الى جماعتين متجانستين ومتعارضتين "الشعب النقي" و "النخبة الفاسدة" (2)
وهذا يقود إلى ملاحظة تواز مدهش ، سرعان ما يقفز أمام العين عند قراءة مناظرات العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي اشار لقد اعتبر بولاني "نقد النظام الحزبي" وكذلك "التشويه الواسع لسمعة النظام"، ايا كان توصيف النظام الديمقراطي القائم"(3).اعراضا لزحف الفاشية في المجتمع.
ان خطابا سياسيا يشرع في التكون كخطاب شعبوي، يبدا من خارج الخطاب السائد وبمواجهته. ويكون نمط حديثه استفزازيا، وفي بعض الأحيان عدوانيا. ويكسر المحرمات ويقول ما لا يقوله الخطاب السائد بشكل صحيح، وما يبدو مضاداً للخطاب السائد. وفي السياسة الإجتماعية تنكشف الطبيعة المطيعة والمحافظة للشعبوية. فمثلا تريد "الجبهة القومية" ان تفرض على الفرنسيات والفرنسيين برنامج تقشف ، الى اجل غير مسمى، للوصول الى تصفير العجز، ولكن ليس لانقاذ اليورو وأوربا، بل لانقاذ الدولة والأمة. وبهذا تنكشف في الواقع ماهية الشعبوية.
وعندما يكون خطابه متمردا، فالأمر يتعلق بتمرد على ارضية النظام القائم. وهذا ما يغفله منهجيا المشتغلون في حقل العلوم السياسية من الليبراليين، اي ان هذه الشعبوية تمثل تمردا محافظا، مشابها لتمرد للفاشية السابقة المحافظة، ويطرح هذا التمرد برنامجا مضادا لليبرالين، وكذلك لليسار.
من الليبرالية الجديدة الى الشوفينية الاجتماعية
وفي مجال السياسة الإقتصادية، وحتى قبل بضع سنوات أبحرت الأحزاب الشعبية الناجحة في التيار الرئيس لليبرالية الجديدة ووصفت على سبيل المثال، دولة الرفاه بالنظام المنحط، الذي يمهد الطريق للناس الى الوهم "ان باستطاعتهم تحرير انفسهم من اية مسؤولية من خلال دفع الضرائب والالتزامات المالية"(4)، كما عبر عن ذلك الشعبوي النمساوي يورغ حيدر.وشعبوية من هذا النوع ازدهرت على وجه الخصوص في البلدان التي تتميز نظمها السياسية كالنظام في النمسا ، بالتشابك المكثف بين الأحزاب السياسية وجماعات المصالح واقتصاد القطاع العام. ومع نهاية العقد الأول من القرن الجديد، مرت جميع الاحزاب الشعبوية تقريبا بحالة من التحول. وقامت باستبدال الطبيعة الأصلية الليبرالية الجديدة لبرامجها بـ "بخطاب اجتماعي جديد".
ولم يوسع الشعبويون برامجهم ببساطة لتضم مطالب سياسية اجتماعية، ولكنهم قاموا ببناء مواقف تهدف الى الإطاحة بالفهم القائم للسياسة الإجتماعية، والتي كان يهيمن عليها بشكل رئيسي اليسار. فعلى سبيل المثال تريد "الجبهة القومية" الفرنسية تجديد النظام الصحي الفرنسي من خلال اعطاء افضلية في العلاج للفرنسيين على غيرهم من السكان. ويعد بعض العاملين في مجال العلوم السياسية مزج " المواقف الاجتماعية السياسية المصنفة على اليسار مع حجج يمينية" مؤشر على "تجاوز لتوجه واضح من اليمين الى اليسار" (5) ، بواسطة الخطاب الشعبوي. لكن برنامج "الجبهة القومية" لا يتذبذب اطلاقا بين اليمين واليسار. ان الفصول الرئيسة لبرنامج الجبهة لعام 2014 ينص على "سلطة الدولة "، "مستقبل ألأمة" "البناء المجتمعي الجديد" و "التأسيس الجديد للجمهورية". ان التسلسل المذكور هو البرنامج نفسه. فالمجتمع لا يشكل نقطة ألانطلاق كما في عصر التنوير لتكوين الأمة ، والدولة هي نتاج الأخيرة، بل على العكس من ذلك: هنا الدولة تسبق الأمة وكذلك المجتمع وهي ألأصل.
ان "الرفاه الشوفيني" لا يهدف فقط الى تقسيم جديد للجتمعات، ولكنه خطة لإعادة تشكيل الجسم السياسي ، الذي ينبغي فرضه من ألأعلى الى أسفل. والشعبويون يريدون عدم اقتسام السلطة مع أحد، وحتى ايضا ليس مع الشعب. وهدفهم تمثيله بطريقة جديدة. ان نوع الذي ينبغي اعتماده لتمثيل الشعب، هو العلاقة المباشرة والحصرية بين المنقادين والقائد الكارزما. " ان نظام القائد ( المستبد) يجري تسويقه باعتباره شكل الدولة القريب من الشعب، لأنه القائد المزعوم وهو الوحيد القادر على فرض ارادة الشعب" (6) . وحتى وان لم يجر التعبير بهذه الطريقة: ففي نهاية الفكرة ان شكل الدولة المناسب ليس الديمقراطية، بل الدكتاتورية، التي يمكن فيها الحكم بموجب مبدأ، " الذي يقف ضد القائد، يقف ضد الشعب"(7) .
هل يستطيع اليمين الشعبوي في اوربا الوصول الى السلطة؟
لقد تجمعت احزاب اليوم الشعبوية في جميع انحاء اوربا تحت راية القومية والمقاومة والتكامل الأوربي.
هل يمكن أن تستولي الأحزاب اليمينية المتطرفة في البلدان الأقوى في أوروبا على السلطة؟ لقد حصلت "الجبهة القومية" الفرنسية على اعلى الاصوات في انتخابات البرلمان ألأوربي 2014 .ونظرا للأزمة التي تلف المجتمع الفرنسي، والصعوبات التي يعانيها اليسار، فأن حظوظ زعيمة الجبهة ماري ليبون في الأنتخابات الرئاسية في عام 2017 ليست سيئة. ومع ذلك، فإن نجاحها يتوقف على عوامل اجتماعية وسياسية اساسية، مرتبطة بأزمة الخطاب الاديولوجي السائد، والتي تشكل بدورها جزءاً من الازمة الاجتماعية العامة (8 ).
وفي هذا الوضع الحرج جدا، وكما يكتب استاذ العلوم السياسية الأرجنتيني ارنستو لاكلو، "ان طبقة اوكتلة طبقية في سعيها الى تحقيق هيمنتها" تقرر "دعوة الشعب ضد الاديولوجية السائدة بأسرها" (9). وهكذا يقدم عرضا شعبويا يهدف الى تعبئة الشعب لفرض شكل حكومة جديدة يناسب الظروف القائمة. وهناك الكثير من المؤشرات تدل على أن أوروبا تتحرك بسرعة متزايدة أزمة اجتماعية وسياسية.
القومية في أوروبا
الجماعية الاستبدادية والهيمنة القومية تملآن اليوم فجوة خلفتها في سياق الأزمة تشويهات الشخصية الليبرالية الجديدة والتكامل الأوربي. ولكن السؤال، هل ان اليمين المتطرف الشعبوي، وفي ظل اوضاع متفاقمة، قادر على خلق افق للاستقرار السياسي (كالذي خلقه هتلر للصناعة الألمانية الكبيرة)؟
وهل تستطيع قوميتهم ان تصبح اكثر من افيون للشعب، ومحاكاة للتكامل الاجتماعي من خلال الجماعة القومية في مواجهة الأعداء في الخارج والداخل؟ و إذا اصبح اليمين الشعبوي المتطرف هو خيار الحكومة في العديد من الدول المؤثرة، فهل تستطيع القومية التي يمثلها وضع خطة ايضا لإعادة تشكيل العلاقات بين الدول في اوربا؟
ومع تصاعد الأزمة الأوربية تصبح سيناريوهات مختلفة ممكنة. أحدها يبنى على اساس: ان طريق الدول الأوربية يفضي مرة اخرى الى اتجاهات مختلفة. وسيتحقق ذلك في جانب منه، اذا استطاع الخيار القومي ان يفرض نفسه في داخل الطبقة المهيمنة في البلد المعين، وتحجيم دور المنافسين السياسيين من خلال توظيف الشعبوية. ويمكن ان يؤدي ذلك الى تجزئة الاتحاد الأوربي الى اكثر من كتلة، وسيتشكل احدها حول المركز الاوربي الاقتصادي والسياسي - المانيا الموحدة- وسيمارس بهذا الشكل اوذاك هيمنة حميدة على ألأجزاء المتبقية من القارة. من جهة أخرى يمكن ان يصل في بلدان متعددة في جنوب اوربا حزب الى السلطة من نوع سيريزا (حزب اليسار اليوناني)، الذي يرفض الخضوع لسياسة التقشف المفروضة من مؤسسات الأتحاد الأوربي.وفي هذه الحالة او تلك ، سيكون من الصعب التنبؤ بنتائج ازمة مؤسسات الاتحاد الأوربي المحتملة. اوربا تقف على مفترق طرق، والقرارات التي ستتخذها بعض الدول وعلى صعيد الاتحاد الأوربي، ستحدد اتجاهه لفترة طويلة. والصراع لن يخاض في حافات الطيف السياسي، بل من اجل الأغلبية وفي مركز المجتمع.
*- محاضرة القيت في جامعة يورك بمدينة تورنتو في 17 شباط 2015
**- السكرتير السابق للحزب الشيوعي النمساوي ومنسق شبكة "تحول" التابعة لحزب اليسار الأوربي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر
[1] Polanyi, Karl: „The Great Transformation: The Political and Economic Origins of Our Time“, Beacon Press: Boston, 2002 (1944), S. 31.
[2] Mudde, Cas: „The Far Right and the European Elections“, in: Current History Magazine 03/2014,http://works.bepress.com/cas_mudde/75.
[3] Polanyi, Karl: „The Great Transformation“, a.a.O. S. 314.
[4] Haider, Jörg: „Die Freiheit, die ich meine – Das Ende des Proporzstaates. Plädoyer für die Dritte Republik“, Frankfurt/Main, Berlin 1993, S. 153.
[5] Frölich-Steffen, Susanne: „Populismus im Osten und im Westen“, in: Bos / Segert: „Osteuropäische Demokratien als Trendsetter?“, a.a.O. S. 315.
[6] Scharsach, Hans-Henning: „Rückwärts nach rechts – Europas Populisten“, Wien 2002, S. 212 f.
[7] Ebd. S.213.
[8] Laclau, Ernesto: „Politik und Ideologie im Marxismus“, a.a.O. S. 153.
[9] Ebd. S. 153.