المنبرالحر

ثورة العشرين .. إضاءة مُشرفة في تاريخ العراق الحديث / احمد عواد الخزاعي

من حق أي شعب أن يفخر بماضيه المُشرف، ويستحضره متى ما كان في استحضاره ضرورة تاريخية لشحذ الهمم واستنهاض العزائم ، وتاريخ العراق مليء بالشواهد المضيئة التي غيرت مسار التاريخ وصححته في الكثير من مفاصله المهمة والمصيرية ، ومن هذه المحطات المضيئة والتي حاول الكثيرين العمل على طمسها أو سلبها من أصحابها وصناعها الحقيقيين ، هي ثورة العشرين التي قام بها أبناء الوسط والجنوب والتي انطلقت شرارتها في الثلاثين من حزيران عام 1920 ضد الاحتلال البريطاني وساهمت في رسم خارطة سياسية جديدة للعراق في تاريخه الحديث تمثلت بتشكيل حكومة وطنية ، كان الثوار أول المبعدين عنها في مفارقة تاريخية غريبة وشاذة ساهم الانكليز بالدرجة الأساس في تحديد فصولها ورسم معالمها ، كنوع من العقاب والتنكيل لهؤلاء الثائرين الأبطال الذين ضحوا بأرواحهم وممتلكاتهم وواجهوا اعتي وأشرس قوة على الأرض آنذاك من اجل ثوابتهم العقائدية والوطنية ، التي لم تخضع يوما للمساومات او توضع في كفة التنازلات ونيل المكاسب على حسابها ... اختلف المؤرخون في تحديد الأسباب الحقيقية التي وقفت وراء هذه الثورة ، وكان هذا الاختلاف نابعا من الخلفيات الاثنية والمناطقية والمدارس الفكرية التي ينتمي إليها هؤلاء المؤرخين ، وهذا في حد ذاته ولد نوع من الضبابية للقارئ والمطلع على التاريخ ، وهذه ظاهرة نجدها منتشرة بكثرة في ثنايا كتب التاريخ العربي والإسلامي ، حيث خضعت كل الأحداث المهمة والمصيرية للعرب والمسلمين لهذه الإسقاطات الفكرية والعقائدية مما افقدها جزء كبيرا من ملامحها ، وكانت السبب الرئيسي في هذا الاختلاف والتناحر الذي تعيشه الأمة الآن ... أورد الدكتور علي الوردي في كتابه ( لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث الجزء الخامس ) الكثير من الأسباب والتي ابتعدت بعضها عن الجوهر الحقيقي والدافع الذي وقف وراء هذه الثورة مثل ( النظام الإداري الصارم الذي انتهجه الانكليز في إدارة العراق ، وإتباع مبدأ المساواة بالتعامل بين الناس ، حدوث تضخم نقدي وغلاء الأسعار ، فرض عملية جبي الضرائب بالقوة ، قيامهم باختيار شيخ عشيرة واحد من كل منطقة ريفية ومده بالمال والسلاح ليكون مسئول عن فرض النظام هناك ، رعونة بعض الحكام الذين عينهم الانكليز لادارة ألوية العراق واقضيته ) ... أن هذه الأسباب وان تشعبت وكثرت فأنها تدور ضمن حلقة واحدة بإمكاننا أن نلخصها بمفردة واحدة وهي محاولة الانكليز ( تهنيد) العراق .. فقد جاء الانكليز إلى العراق كجزء من حالة التوسع الذي كانت تشهده الإمبراطورية البريطانية التي وصلت الى اوج عظمتها في مطلع القرن العشرين فأصبحت الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس ، وذلك لسعة تمددها وكثرة مستعمراتها في مشارق الأرض ومغاربها ، وكانت من أهم المستعمرات التي تشكل حجر الزاوية في الهيمنة الاستعمارية البريطانية هي شبه القارة الهندية لما تمتلكه من خصوصية في كثرة مواردها وخيراتها ، ووجود شعب فقير ومسالم من السهل على الانكليز قيادته وترويضه ، وبعد دخولهم للعراق تطبيقا لاتفاقية سايكس بيكو سيئة الصيت ، والتي وقعت بين بريطانيا وفرنسا عام 1916 لتقسيم ممتلكات الدولة العثمانية او كما أسموها آنذاك ( الرجل المريض ) ، فكان العراق من حصة بريطانيا التي دخلت إلى العراق وهو عبارة عن قرية كبيرة ينخره الفقر والجهل والتخلف ، نتيجة السياسات الخاطئة للدولة العثمانية التي استعمرته على مدى أربعة قرون .. فشكلت هذه المقاربة بين الهند والعراق من حيث الفقر والتخلف التباسا لدى الحكام الجدد فظنوا ان طبيعة المجتمعين متشابهتين أيضا في عاداتهما وتقاليدهما وعرفهما الاجتماعي ، فتصرفوا مع الزعامات العشائرية في العراق بنفس الأسلوب المهين والمذل الذي تعاملوا فيه مع الهنود ، وهذا يعود لجهلهم الكبير بطبيعة المجتمع العراقي ذو النزعة القبلية والعادات والتقاليد العربية والإسلامية التي تجل وتحترم وتقدم رجل الدين وزعيم القبيلة على الآخرين مما تسبب في حدوث نوع من التذمر والرفض لدى العراقيين ... لكن على الرغم من كون هذه الأسباب قد تكون ساهمت بشكل أو بآخر في إثارة الرأي العام على الانكليز إلا إنها لا تشكل الأسباب الرئيسية لقيام هذه الثورة .. فهناك دوافع وطنية بحتة كانت تقف وراء قيام قبائل الوسط والجنوب بهذه الثورة ، ووقوف المرجعية الدينية الشيعية الى صفها داعمة ومؤازرة لها ، أعطاها بعدا دينيا إضافة إلى بعدها الوطني ... حيث كان للمرجع الشيخ محمد تقي الشيرازي الدور الرئيسي في ثورة العشرين ، فعندما أراد الإنكليز إجبار العراقيين على انتخاب (السير برسي كوكس) المندوب السامي البريطاني ليكون رئيس لحكومة العراق ، اصدر المرزا الشيرازي فتواه الشهيرة .. (ليس لأحد من المسلمين ان ينتخب او يختار غير المسلم للإمارة أو السلطنة على المسلمين ) .. وكذلك فتواه التي أعطت الضوء الأخضر للثوار ببدء الثورة والتي جاء فيها .. (مطالبة الحقوق واجبة على العراقيين ويجب عليهم في ضمن مطالبهم رعاية السلم والأمن ويجوز لهم التوسل بالقوة الدفاعية اذا امتنع الانكليز من تنفيذ مطالبهم ) .. وهنا نلاحظ إن الخطاب لم يكن موجها الى الشيعة من العراقيين فقط بل استخدم الشيخ الشيرازي مفردة ( عراقيين ) بصيغتها العامة ، في دلالة واضحة على البعد الوطني الذي انتهجته هذه الفتوى ، والنظرة الأبوية المسئولة التي تنظر بها المرجعية الشيعية لجميع العراقيين على حد سواء .
رفعت عشيرة الظوالم وهي فرع من بني حجيم راياتها معلنة الحرب على الانكليز في 25 حزيران عام 1920 وفي 30 حزيران من نفس الشهر استدعي الشيخ شعلان ابو الجون زعيم عشيرة الظوالم الى السراي الحكومي لبلدة الرميثة الواقعة في مدينة السماوة ، وقد لبى الشيخ شعلان طلب الاستدعاء صباح اليوم التالي ، وقد ابدي الشيخ كثيرا من الشراسة في مقابلته مع معاون الحاكم السياسي في الرميثة الملازم هيات مما دفع الأخير إلى حجزه وتوقيفه في السراي بقصد إرساله ، وعند هذا التفت الشيخ شعلان إلى أحد مرافقيه الذي جاء معه طالبا منه إخبار ابن عمه الشيخ غثيث الحرجان بأنه في حاجة إلى عشرة ليرات عثمانية وإنها يجب أن ترسل إليه قبل موعد القطار ، ولما وصل الخبر إلى الشيخ غثيث عرف من إن الشيخ شعلان بحاجة إلى عشرة رجال أقوياء من العشيرة بدلا من الليرات العشر ، وبعث الرجال إلى السراي بغية تحرير الشيخ شعلان ، وبعد مهاجمة السراي من قبل الرجال العشرة تم تحرير الشيخ شعلان وعاد إلى مضارب عشيرته سالما ، وكانت هذه الحادثة هي الشرارة الاولى للثورة .. كما تذكر المسس بيل في كتابها ( فصول من تاريخ العراق القريب ).
ويذكر الدكتور علي الوردي في لمحاته الجزء الخامس .. في الحادي عشر من تموز عام 1920 اجتمعت عشائر الفرات الاوسط في مضيف الشيخ عبد الواحد حاج سكر ، وقرروا البدء باعلان الثورة ، وفي اليوم التالي اعلن قيام الثورة ورفعت راياتها وتم حصار ابو صخير ومهاجمة السفينة البريطانية (فاير فلاي ) في نهر الفرات .. وفي السابع عشر من نفس الشهر تم عقد مؤتمر في الكوفة لعقد هدنة لمدة اربعة ايام بين الثوار والانكليز لحين تحقيق مطالب الثوار التي قدمت الى الجانب البريطاني من قبل الشيخين عبد الكريم الجزائري وجواد الجواهري والتي بينت البعد الوطني لهذه الثورة ومن هذه المطالب .. ( اقامة حكومة وطنية مستقلة ، العفو العام على جميع العراقيين ، اطلاق سراح المعتقلين ومن ضمنهم نجل المرجع الشيخ محمد تقي الشيرازي ).. الا ان الهدنة لم تدم وانهارت بعد ثلاثة ايام ، ليتسع نطاق الثورة ويشمل مدن الفرات الاوسط والجنوب واجزاء من ديالى وكركوك ولواء الدليم حتى وصلت الى بغداد ... الا ان هذه الثورة الخالدة سرعان ما اجهضت بعد شهور قليلة على بدئها وقد ذكر المؤرخون مجموعة من الاسباب التي ادت الى فشلها منها ..(قلة موارد الثورة ، النقص الحاد في السلاح والعتاد ، التفوق العسكري الانكليزي ، وجود سلاح الجو الذي قلب موازين القوى في المعارك ، جهل معظم الثوار باساليب الحرب الحديثة والنظامية ، خيانة بعض الاقطاعيين والبرجوازيات للثوار وتخليهم عن القتال مما ضيق نطاق مساحة الثورة على الفرات الاوسط فقط ، افتقار الثورة للقيادة المركزية العامة لادارتها ) كل هذه الاسباب وغيرها ساهمت في فشل هذه الثورة عسكريا وانتهائها من حيث ابتدأت ، فقد رفضت قبائل السماوة القاء السلاح وبقيت تقاتل حتى العشرين من تشرين الثاني من عام 1920 عندها طلبت قوات الاحتلال البريطاني التفاوض معها وتم الاتفاق على عدة نقاط هي ..( ان يكون للعراق حكومة وطنية عربية ، أن تسلم القبائل ألفان وأربعمائة بندقية للحكومة ، ان لا يطالب الانكليز عشائر السماوة بأي شيء خسروه أثناء الثورة ، أن تتعهد القبائل بتوطيد الأمن والسلم في مناطقهم ) .
وعلى الرغم من فشل الثورة عسكريا الا انها حققت نجاحا في بعدها السياسي وساهمت في رسم ملامح العراق الحديث ، الذي اقصي من واجهته السياسية ابناء الوسط والجنوب ، رجال هذه الثورة ووقودها ، فبعد مؤتمر القاهرة الذي عقد عام 1920 لبحث تداعيات ثورة العشرين والاستغناء عن مفهوم (تهنيد) العراق والذي حضره وزير المستعمرات البريطاني ونستون تشرشل ، اصدر المندوب السامي البريطاني بيرسي كوكس اوامره بتشكيل حكومة وطنية عراقية انتقالية برئاسة نقيب اشراف بغداد عبد الرحمن النقيب ، وتشكيل المجلس التأسيسي الذي اخذ على عاتقه عدة مهام منها اختيار ملك للعراق ، وتشكيل المؤسسات والوزارات للدولة العراقية الجديدة .. وفي الثالث والعشرون من اب عام 1921 نصب فيصل الاول ملكا على العراق بعد استفتاء صوري حاز فيه على ستة وتسعون بالمائة من الاصوات ... لتبدأ صفحة جديدة من تاريخ العراق الحديث وسمت بالاقصاء والتهميش للاغلبية الشيعية فيه ، حيث قام الانكليز بالتأسيس لمعادلة شاذة ومغلوطة جرت على العراق واهله الويلات والانقلابات والحروب والتي لازالت تداعياتها حاضرة لغاية الان .. لكن بالرغم من ذلك كله ستبقى ثورة العشرين علامة مشرقة وخالدة في تاريخ العراق ، وحقيقة تفرض نفسها على الجميع بان ابناء الوسط والجنوب الذي نعتوا بعد ذلك ( بالشروكية ) هم من اسسوا بدمائهم وتضحياتهم صرح العراق الحديث .