المنبرالحر

المثقف العربي وازدواجية المعايير والمواقف ! / جواد وادي*

سبق لنا وتناولنا هذا الموضوع وما يلامسه من زوايا مختلفة وآراء عديدة، وأشبعناه معالجات، لكن يبدو أن المثقف العربي بات جزءاً من الخراب العربي برمته، استوطنت فيه المحن، وتوطن هو في بلاويها وكل متناقضاتها الغريبة والتي اصبحت أحيانا حالات مستعصية على الفهم، حتى بالنسبة للمثقف نفسه، وحين تواجهه عن سبب هذا التشويش في المواقف يعجز عن الإجابة الواضحة ويخلط الحابل بالنابل. ويبدأ يفسر الامر على هواه، فتتركه لقدره وبوصلته العاطلة والمعطوبة.
فعلى سبيل المثال، ونحن نتصدى هنا للمثقف المهووس بالفكر العربي المتطرف الذي ناصر بشدة ودون وازع أخلاقي مواقف شوفينية بالمطلق، وليس للفهم الطبيعي واستيعاب الخطاب السياسي والثقافي الراهن، بعين ومشاعر المراقب المنصف، لسبب بسيط أنه ما فتئ يدافع عن الدكتاتوريات العربية ويصنفها على سليقته، فمنها ما يمنحها صفة المواقف القومية المدافعة عن الحق العربي دونما الدخول في تفاصيلها المريرة، رغم معرفته بكل الملابسات، عن مدى فاشية وقسوة هذه الأنظمة الشمولية، لأنها حسب رأيه وقناعاته تدافع عن الحق العربي المهدور، وأن هذه الأنظمة التي يسخّر كل إمكاناته ويكرس كتاباته في أجناس تعبيرية مختلفة للدفاع عنها باستماتة، طبعا مدفوعة الثمن، وبالتالي تضيع نصف الحقيقة، أو هو ذاته يريد ذلك، لأنه ينظر الى الحالة بنصفها الممتلئ، أما الفارغ فلا يعنيه بشيء. المهم أنه ينطلق من مبدأ خارجي بغيض كما جاء على لسان إمام الحق علي بن أبي طالب (ع) مخاطبا الخوارج، دواعش عهد ذاك، "كلام حق يراد به باطل" حين حاربوه بمبدئهم الظالم والمتجني " ما الحكم إلا لله".
وهكذا هو حال المثقف العربي الذي هو بالتالي امتداد لكل افرازات التاريخ المشوه الذي راح ضحيته ملايين البشر بطرفة عين، لا لسبب إلا لتصفية من يعارض حتى وان استخدمت أقذر الوسائل وأشدها فتكا وبشاعة، رغم أن المعارض قد يتبع أكثر الوسائل سلمية ومحاججة فكرية، لكن هذا ليس مسموحا حسبما يفهمه الضالعون في الخراب، فذهبت عقول وجهابذة فكر ومواقف يشار لها بالبنان، لكون الطغاة عبر مراحل تاريخنا المعمّد بالدم والخراب، لا تناسبهم هذه المواقف، لأنهم يشمون رائحة الخطر التي تهدد كراسيهم، وعليه ينبغي تصفية من يقف بالاتجاه غير المرسوم له.
ما حفزني لتناول هذا الموضوع الذي سبق وأن تناولته بعشرات المقالات المنشورة في منابر ورقية والكترونية على امتداد الوطن العربي المنكوب والمبتلى بالمحن، ما تناهى لسمعي إثر الملتقى الذي شاركت فيه مؤخرا في مدينة القنيطرة المغربية بورقة عمل، والمنظم من طرف جمعيات وفاعلين عاشقين للمسرح والسينما، مشكورين لما قاموا به من حسن ضيافة وباذخ استقبال، أن أحد المحاضرين، ما أن غادرت القاعة متوجها للرباط، وجه انتقادا لمداخلتي التي خلطت السياسة بالمسرح والسينما، وان هناك بوناً بين الاثنين. علما أنني ذهبت إلى أن "المسرح والسينما وبقية الفنون والأجناس الإبداعية، تلعب أدوارا طليعية في خلق قيم جديدة في مجتمعات مبنية على الخراب وتمييع دور الفرد، وعليه ينبغي توسيع دائرة الاهتمام بهذه الأجناس الفكرية والإبداعية في كل المراحل العمرية، في البيت والمدرسة والمجتمع وسواها، وللدولة الدور الأوفر في تحقيق هذه الأهداف المنشودة" اليس ذلك ما نسعى ونهدف له جميعا كمثقفين مناط بنا تحقيق انتاج ثقافي مغاير للراهن المدجّن والموجه والراكد؟!
قد اضطر للموافقة على طرح السيد المنتقد، اذا كان المثقف العربي يميز أصلا بين بنية الابداع وما يعنيه، ولكنني أعرف انهم ما فتئوا يسخرون جل "ابداعاتهم" لخدمة السياسة والسياسيين ويعرضون "كفاءاتهم" واقلامهم وحتى عقولهم لخدمة أنظمة موغلة في القمع والسادية والقتل البربري لشعوبها، بل وتصدير آلة القتل الى خارج الحدود، لان مغريات السحت الحرام تعمي العيون والبصيرة وتدفع ب"المبدع" في أي جنس أدبي وفكري على التركيز على النصف الذي يهمه وهو مصدر الارتزاق وعرض بضاعته في سوق النخاسة العربي، حتى وان تمت تصفية شعوب وأمم وطوائف ومذاهب وقوميات بكاملها على يد الطغاة من القتلة والمجرمين. أو أن الحمية الفطرية وغير المهذبة تتجه صوب الصراخ بتأييد المواقف حتى وإن كان مصدرها الشيطان.
فمن منا لا يعرف حجم الاجرام المخيف الذي ارتكبته أنظمة فاشية بتصفيات سادية مرعبة، مثل نظام القذافي ونظام صدام حسين ونظام البشير ونظام اليمن وسواها من الأنظمة الفاشية، التي ينبغي على المنصف والبعيد عن أهداف الارتزاق من المثقفين العرب من الراصدين بشكل جيد بشاعة ما قامت وتقوم به هذه الدكتاتوريات القمعية والتصدي لها بحزم ووضعها جميعا في قفة واحدة، كلٌ وحجم الاجرام الذي ارتكبه، أما وأن نصنف هذا النظام عن ذاك ونمنحهم درجات تتوزع بين الدفاع والتبرئة واطلاق صفات البطولة الزائفة عليه، وتوجيه الاتهامات لغيره، ليعود في عرفهم القاصر او فلنقل الموجه بمال البترودولار، أن ما يفعلونه هو عين العقل وما يستوجبه الموقف العربي للدفاع عن الحقوق المهضومة، ومِن من؟ وهنا يتم الفرز الظالم والموتور.
فلنعطي مثالا بسيطا هو ما كان يقدمه "المثقف" العربي من خدمات جليلة في شتى مجالات التأييد والتعبير عن القبول، من توافد وزيارات مجاميع عديدة للعراق، إن كانت أدبية أو فكرية أو مسرحية أو تشكيلية أو نقابية أو منظمات مجتمع مدني ومن أرجاء الوطن العربي من أقصاه إلى أقصاه، هذا يقدم عمل مسرحي، وذاك يوجه قصيدة شعرية للتغني بالقائد، والآخر يقدم له سيفا ذهبيا مرصعا بالجواهر، طبعا ليأخذ أضعافه، (هكذا تكون التجارة وإلا فلا) في حضرة المغفلين والمهووسين من الحكام المخبولين، آخر يقدم أمام القائد الضرورة كلمة اشادة بقيادته الحتمية للأمة "المنتوفة الريش"، وغيرهم الكثير، الكثير، الكثير. وفي نهاية المطاف يرفع الجميع برقيات التأييد والتثمين للمواقف الحكيمة للقيادة الفاصلة في التاريخ العربي الكفيلة بإحداث نقلة نوعية وحاسمة، وقبل ساعات لعله قد أعدم العشرات إن لم يكونوا المئات من الأبرياء، لمجرد أنهم لا يرتضون بقيادته من العراقيين، أو حتى الأبرياء الذين لا ناقة لهم ولا جمل في كل ما يجري، بطريقة حكم قرقوشية تقضي بأن من يكون على يسار القاضي من المتهمين ظلما، نصيبهم الإعدام، أما الذين على يمينه فتشملهم احكام اخرى"، هكذا كانت تتخذ الأحكام?المضحكة المبكية بحق شعب مسالم ومتطلع لاستعادة الكرامة المهدورة.
كل هذه الجوقات تعرف جيدا ما كان يقع في العراق من بطش فاق التصور، ومع ذلك كانوا وما زالوا "وهنا تكمن الكارثة" يدافعون عنه وعن قائده المخذول، وحين نعاتبهم يقولون: "أننا نقف مع العراقيين" والعراقيون يُنحرون يوميا على يد الجلاد وزبانيته القتلة في أقبية الأمن ودهاليزه المخيفة.
فهل من ازدواجية مواقف ومعايير وفهم أخطر وأقبح وانجس من هذه؟
نأتي الى المضحك المبكي، إذ ما أن نواجههم بما كانوا وما زالوا يفعلون ويدافعون ويدبجون من مديح بلغ حد التقزز المداف بالخزي والعار، ودماء الضحايا لم تجف بعد. بدون وجه حق، بل والايغال في إيذاء مشاعر ذوي الضحايا.
يدعون أن ما يحصل اليوم في العراق من فوضى وطائفية وتناحر مذهبي هي أكثر فظاعة من زمن صدام؟ بمعنى أنهم يترحمون على ذلك الجرذ بكل سوءاته وفظائعه، هنا يأتي تطبيق ما أسلفنا قوله عن الإمام العادل علي (ع)، "هذا كلام حق يراد به باطل"، وهم يدافعون عن قاتل ومجرم وسفاح، بطريقة مقارنة لا تشرف حتى المخبولين.
ليعلم الجميع بأننا ندين وبشدة ونرفض أسلوب الحكم الراهن المرتبط بالمحاصصة والمذهبية والمناطقية، وندعو لتطبيق الديمقراطية بكل موضوعية وتجرد، وليس بأحادية الفهم والمنطق الناقص الذي لا يخلو من الأهداف المستترة والمواقف المشبوهة، إذا ما أردنا الخروج من عنق الزجاجة، واحداث النقلة النوعية للعراق. بمعنى أننا مثلما ندين ونمقت نظام طاغية العراق، نرفض بشدة أسلوب إدارة الحكم حاليا والذي تسبب بكوارث وخراب وافلاس للبلاد والعباد.
أن ما يجري في العراق هو امتداد طبيعي وواضح لكل منصف وعاقل، والمراقب السوي ذهنيا، لنظام صدام ومغامراته وحروبه الرعناء وتعرض البلد لكل هذا الخراب، لأنه هو من أدخل وشجّع ودعّم المتطرفين حين قدموا للعراق من أصقاع الوطن العربي، كدروع بشرية، ليتحولوا إلى مفخخات وأحزمة ناسفة وسواها من صيغ القتل الأبله لكل العراقيين بكل طوائفهم ومللهم.
لماذا يطرحون هذا السؤال الملغوم، بأن حكم صدام كان "أرحم"، ولماذا لم يتبنوا ذات التوصيف عن نظام الأسد والقذافي وسواهما، بل كانوا يدينون هذين القاتلين وغيرهما بقوة، وتحديدا في فترة وجود طاغية العراق، لكنهم يلتزمون الصمت جراء فظائع البعث الصدامي وجرائمه، بل ويصفقوا ويهللوا له، ليأتوا اليوم على الترحم عليه وتبقى اللعنة على من سواه، في حين أن هذه البلدان مثل، سوريا واليمن وليبيا والعراق، كلها تتعرض لذات النكبات والخراب الآن.
وأخيرا يأتي كائن من يكون ليقول إن الابداع وتحديدا المسرح والسينما لا ينبغي أن يقترب من السياسة، يا سلام!
وماذا كنتم تفعلون حين كرسّتم جل مسرحياتكم وافلامكم ونصوصكم وجوارحكم المشكوك بنقائها للمديح وتعظيم الطاغية، ألستم أنتم من كان يخلط "الفن والابداع" بالسياسة؟
يا لوقاحتكم أيها المثقفون العرب من هذا النموذج وهذه الطينة التي تصدينا ونتصدى لها. وحاشى للأنقياء والراصدين الحقيقين لحركة التاريخ بكل ملابساته وغموضه ونكباته. هؤلاء هم المثقفون الحقيقيون الذين ما هادنوا ولا ساوموا ولا سخّروا اقلامهم لعرضها في سوق النخاسة العربي الرذيل.
دعونا أخيرا ننهي هذا التصدي بالمثل الحكيم القائل:
"إن كنت لا تستحي فأفعل ما شئت"
"ولله في خلقه شؤون"
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب وشاعر ومترجم عراقي مقيم في المغرب.