المنبرالحر

ما جدوى حكومة الأغلبية أو النظام الرئاسي في الظروف الراهنة ؟ / مصطفى محمد غريب

حكومة الأغلبية البرلمانية المتبعة في العديد من بلدان العالم عبارة عن نوع من الأنظمة المهمة في العمل السياسي في ظروف سياسية طبيعية وحل للإشكالات التي تصاحب قيادة الحكومة المكلفة للدولة وفق الديمقراطية وحق الأغلبية البرلمانية في تشكيل الحكومة وهذا لا يعني تجاوز دور الأقلية وحقها في العمل داخل البرلمان وخارجه ووفق المنهج السياسي العام لترسيخ النهج السلمي لتبادل السلطة وفق المعايير التي تأسست عليها العملية السياسية، في هذه البلدان " ولدينا معرفة غنية "هي الدول الأوربية الغربية ثم لحقتها دول أوربا الشرقية تقريباً والبعض من دول أسيا اليابان والهند وبلدان مثل استراليا وكندا وغيرهم، ودلت هذه التجربة على الفائدة من الديمقراطية النسبية المتاحة في مجالات عدة لا تختصر على الانتخابات البرلمانية أو البلدية فحسب بل في مجال حرية الصحافية وحرية الرأي والتنظيم وعمل منظمات المجتمع المدني مما شجع الكثير من البلدان على تبني هذا النهج والتخلص من الحكم المركزي المفرط الذي طالما أدى إلى التسلط والدكتاتورية.
في العراق طرحت فكرة حكومة الأغلبية البرلمانية منذ سنين رداً على نهج المحاصصة الطائفية والحزبية والقومية الضيقة هذا النهج الذي عطل التطور في البلاد وقادها إلى مزالق الانشطار والحرب وتدهور الأوضاع الأمنية والمعيشية وتعميق الهوة بين الحرامية سراق قوت الشعب باستغلال المنصب والقانون وبين الفئات الكادحة والفقيرة من عمال وفلاحين ومثقفين وموظفين وغيرهم، إلا أن فكرة الحكومة الأغلبية التي تبناها رئيس حزب الدعوة نوري المالكي وبالتحديد قبل انتخابات 2010 التشريعية تختلف بهدف الهيمنة والتسلط، فمنذ البداية لم تحظى بالقبول وناهضتها بعض الكتل السياسية حتى ضمن التحالف الوطني وأصرت هذه القوى على المضي في تشكيل حكومة المحاصصة التوافقية باعتباره عِرف ساد تقريباً منذ تشكيل أول حكومة عراقية بعدما حل مجلس الحكم بقيادة الأمريكي بريمر الذي أُسس نهج المحاصصة ، وبعد تصاعد النهج الطائفي في الفترة الثانية من رئاسة نوري المالكي لمجلس الوزراء وتردي الأوضاع بشكل عام بدأت الجماهير تخرج للشارع ونتذكر جيداً كيف قمعت بالحديد والنار والاعتقالات والتعذيب والاغتيال مما جعل العديد من القوى السياسية تقف بالضد من نهجه وتسلكه الطائفي مخافة من تدهور الوضع أكثر ( وهو ما حدث فعلاً ) ، كما أن فكرة الأغلبية سرعان ما اصطدمت بالواقع المرير الذي كان وما زال قائم في البلاد، فالأزمات متلاحقة والتفجيرات والمفخخات والاغتيالات تتصاعد يوماً لا بل ساعة بعد ساعة، والاحتقان الجماهيري على أشده بسبب سوء الخدمات وبخاصة الكهرباء، أما قضية الفساد والفاسدين من المسؤولين أصبح " علمٌ فوقه نار" وراحتْ الاعتصامات والمظاهرات تعم كل أصقاع البلاد، وتأججت الخلافات مع الإقليم من جهة ومن جهة ثانية مع الفرقاء الإخوة الأعداء في المحاصصة التوافقية، وبرزت للسطح قضايا رفض المرجعية الدينية الشيعية لتولي نوري المالكي رئاسة مجلس الوزراء وفي وسط هذا الصخب والاضطرابات سلمت الموصل على " طبقٍ من ذهب للإرهاب " واجتاح التنظيم الداعشي صلاح الدين ومناطق في ديالى وكركوك وحتى أطراف العاصمة بعدما وجد حواضن مستعدة بسبب سياسة نوري المالكي ،وانتهى الأمر بنوري المالكي إلى الإبعاد عن رئاسة مجلس الوزراء ليدخل من الشباك ويكون النائب الأول لرئيس الجمهورية في صفقة توافقية رائحتها أزكمت الأنوف بدلاً عن محاسبته حول تسليم الموصل ونتائجه الوخيمة وانتظار على الأقل نتائج اللجنة التحقيقية البرلمانية التي مازالت طي الكتمان بالرغم من تأكيد رئيس اللجنة حاكم الزاملي ( عشرون ألف مرة !) بان اللجنة أكملت تحقيقها وسوف يقرأ التقرير في جلسات خاصة لمجلس البرلمان ويحال إلى القضاء وقال الزاملي بالضبط "اللجنة بصدد وضع التوصيات والنتائج والشخصيات التي تسببت بسقوط الموصل التي أتضح لنا من هي الشخصيات ".هذا الوعد كرر كثيراً وبدورنا نسأله يا سيد حاكم الزاملي ـــــ متى يحل ذاك اليوم السعيد وتخبرونا عن المسؤول والمسؤولين المسببين في تسليم الموصل وما ترتب عنها من خراب وضحايا حتى يتم تحويلهم للقضاء وتطبيق العدالة بحقهم مهما كانت مناصبهم ومواقعهم السياسية والحزبية ؟!.
ومع كل ذلك وبغض النظر عن الضريبة الدموية الباهظة التي دفعها الشعب العراقي استلم رئاسة مجلس الوزراء حيدر العبادي القيادي في حزب الدعوة الذي يترأسه نوري المالكي، إي الدائرة السابقة على حالها وانتعشت الآمال ليكون حيدر العبادي الأفضل والأحسن ويمضي لمعالجة مخلفات نوري المالكي في السياسة والاقتصاد والعلاقات.. ولكن في أية ظروف؟ ظروف بقت في الصحن الضيق من المحاصصة الطائفية وتدخلات البعض من رجال الدين المقتنعين بهذه المحاصصة والتلويح بشبح الطرف الثاني باعتباره بعبعاً يخيف وهو ينتظر الفرصة ليستولي على الحكم!! أو ظروف نوري المالكي ومنصبه الجديد وما يملكه من سطوة ومن مال يستطيع بهما التهديد والتحريف وتفعيل ما يهدف إليه حتى " تبويش " حيدر العبادي!
إذن في هذه الحالة لم يطرأ التغيير الكبير المنشود، فالأوضاع بقت مثلما كانت إذا لم تكن أسوأ بمرات، واستمرت الحرب والضحايا والوضع الأمني والخدمات والفقر والبطالة والسيطرة على الانبار المفاجأة... الخ، كل شيء أثار السخط والغضب وأدى في الوقت الراهن إلى هذه المظاهرات والاحتجاجات حيث نزل إلى الشوارع بما فيها العاصمة عشرات آلاف من المحتجين الغاضبين الذين يطالبون بالإصلاح ومحاسبة المقصرين والفاسدين ومعالجة الوضع الفاسد بمسؤولية وطنية غير طائفية، بجانب ذلك ظهرت على السطح هذه المرة محاولات لاستغلالها من قبل البعض ومن بعض رجال الدين بحجة التخوف من حرفها عن مسارها الطبيعي أو التحذير مثلما اشرنا من الآخر وكأنه قادم غريب من الفضاء!!..
في هذه الظروف الملتهبة والخطرة عاد مجددا ائتلاف دولة القانون بقيادة نوري المالكي لطرح موضوعة تشكيل حكومة الأغلبية بهدف تمرير فكرة التخلص من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي تحت طائلة من الحجج بعضها صحيح في مظهرها خبيث في جوهرها مثلما أشار محمد الصهيود عضو ائتلاف دولة القانون ونشرته شفق نيوز بتاريخ الأربعاء / 5 / آب / 2015 " إن سبب تردي الأوضاع في العراق في كل المجالات الاقتصادية والسياسية والعسكرية هي المحاصصة الطائفية والتوافقات السياسية التي تقدم إدارات غير كفوءة تقود البلاد نحو الهاوية" ( قول حق يراد به باطل ) إلا أن السيد محمد الصيهود ذكر نصف الحقيقية فقط ولم يذكر الحقيقة كاملة، ولم يشخص وهو يعرف بكل تأكيد العلة..
ــــ من هو المسؤول عن هذا التردي وما آلت عليه البلاد من مشاكل وأزمات متواصلة؟ وبهدف آخر معلوم وهو تفعيل فكرة تحويل الوضع السياسي البرلماني إلى النظام الرئاسي الفردي بما تسنى قبله من الهيمنة والسيطرة والتحكم بمصير البلاد، ونتذكر جيداً كيف كان الصراع على أشده مع إبراهيم الجعفري رئيس حزب الدعوة حتى تنحى لرفيقه في حزب الدعوة نوري المالكي ثم انشق زعلاناً في البداية وأسس كتلة الإصلاح،، وكيف كان الصراع وتشبث المالكي " وبلتي واللتيه " حتى انزاح ليتولى بدلاً عنه رفيقه حيدر العبادي، وإذا تصورنا كيف ستفضي الأمور لو استطاع أحدهم أن يكون رئيساً للجمهورية مدى العمر مع عملية التوريث في نظام رئاسي فهي الكارثة تكررت، وبالتأكيد سنصل إلى قرارات رئاسية بإعلان الحرب على كل معارضة واتهامها بالإرهاب مثلما جرى وفق المادة ( 4 ) إرهاب وحل البرلمان وإلغاء الأحزاب وإعلان حالة الطوارئ وإصدار جملة من المراسيم الرئاسية التي تؤدي إلى تعطيل العملية السياسية وعند ذلك اقرأ على البلاد ألف سلام .
ويتحفنا محمد الصهيود بتحفته العظيمة " أن الحل الوحيد لخروج البلاد من هذه الأزمة هو تشكيل حكومة أغلبية أو الذهاب إلى النظام الرئاسي لخلاص البلاد والحفاظ على مستقبل الأجيال القادمة"... ( لا ندري كيف سيحافظ على مستقبل الأجيال وبأية طريقة !)، هذا التوجه الجديد في الخطاب السياسي لم يختصر على ائتلاف دولة القانون فحسب بل هناك بعض الأصوات بدأت في الآونة الأخيرة ترتفع وبخاصة بعد الفشل الذريع لبعض الأقطاب في التحالف الوطني من تحقيق المطالب المشروعة للجماهير المكتوية بنار الإرهاب وسوء الخدمات والقضايا المعيشية وارتفاع الأسعار واشتداد الخلافات بين القوى التي تهيمن على السلطة حتى أن الأكثرية من الشعب فقدت بهم الثقة وباتت مؤمنة بالتغيير الجذري وأن هؤلاء المتسلطين هم السبب في تدهور وتأزم الأوضاع السياسية وصراعهم غير المبدئي سبَبَ الأزمات والنكسات والحرب في ثلث البلاد..
ولهذا يجد الكثير من المتابعين ليس الحل في حكومة الأغلبية الذي يطرح لخداع الشعب لأنه يعني استمرار هيمنتهم وتسلطهم والإبقاء على السلطة بيدهم والالتفاف على مبدأ انتقال السلطة سلمياً، إنما الحل الجذري يكمن ما دامت الظروف مأتية والجماهير مساندة في إنهاء المحاصصة التوافقية الفاشلة وقيام حكومة وطنية مستقلة تنحصر مهماتها بتفعيل عمل البرلمان ومحاسبة المتغيبين والطارئين، ملاحقة الفساد والفاسدين قانونياً والضرب على أيديهم بقوة وإذا أمكن إجراء انتخابات برلمانية مبكرة بعد التخلص من داعش الإرهاب والمليشيات المسلحة الطائفية، وبسبب الغليان الشعبي اتخذ حيدر العبادي البعض من القرارات الايجابية والشجاعة منها فتح " ملفات الفساد تطبيقاً لقاعدة (من أين لك هذا) وترشيق الوزارات وإلغاء المحاصصة الطائفية " في جميع مناصب الدولة وإلغاء مناصب نواب رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء وغيرها.. عسى أن تكون القرارات قيد التنفيذ وليس بهدف امتصاص الغضب والاحتقان الشعبي .. وإلا ستبقى الأوضاع لا بل ستسوء إلى الأسوأ ثم الأسوأ وقد تكون النتائج وخيمة لا يمكن استبيانها ومعرفة حدودها ومضارها على البلاد.