المنبرالحر

إقليم البصرة.. ولادة مشوهة من رحم المعاناة / د. صبيح جابر

يبدو ان حكام العراق بشكل عام وحكام البصرة بشكل خاص منذ سقوط الفاشية ورحيل (عبد الله المؤمن) وخديعته الايمانية، وهم يتخبطون في كيفية ادارة شؤون دولة ديمقراطية حديثة، حسب الدستور العراقي فاختاروا ان تكون ادارتهم للدولة من خلال حملة ايمانية على غرار حملة (عبد الله المؤمن) ولكنها هذه المرة من طراز جديد وبالطريقة التي تضمن لهم تحقيق مصالحهم الشخصية المتمثلة في الثروة والسلطة والنفوذ في ظل عراق جديد ديمقراطي فدرالي موحد.
من هنا تبدأ المشكلة ومن هنا يبدأ تصادم المصالح بين نقيضين كانت نتيجته هذا الخراب الشامل والانهيار المريع في كل معلم من معالم الدولة منذ التغيير وحتى الآن. فالخراب في البصرة هو ذات الخراب في بغداد والناصرية والرمادي والكوت وديالى ومحافظات العراق الاخرى.
وفي البصرة كانت فضيحة الخراب وفشل الحكام وسرقة الاخضر واليابس هو ما تميزت به البصرة على مدى عقد ونيف من السنين ومن خلال هذا الخراب والفساد حصلت البصرة على المرتبة الاولى من بين محافظات العراق. المشكلة الكبيرة ان الحكام يعرفون الداء ولكنهم يخفون الدواء ويحرقون البخور بدلا منه، فبهؤلاء وبعقولهم الجشعة تتعاظم المشكلة ويسود الخراب والدمار.
واليوم، بعد ان فاز نواب البصرة الذين اقاموا البصرة ولم يقعدوها اثناء الانتخابات وبعدها نجدهم قد فشلوا في تحقيق اي وعد من وعودهم المضللة وحماستهم المزيفة. وبعد ان اعلنت جماهير البصرة فشل حكامها الجدد ثاروا من اجل تغييرهم او تحقيق ما وعدوا به فما كان امام هؤلاء الحكام الجدد الا الهروب وقد كان هروبهم مضطربا مرة الى الامام واخرى الى اليمين او اليسار، فمن مطالبتهم بوزراء من البصرة لتنظيف نهر العشار الجميل الذي تحول الى مكب للنفايات منذ سنين طويلة، الى المطالبة بالمزيد من الاموال. ولما فشلوا في تحقيق اي شيء استنجدوا بالفيدرالية لتشكيل اقليم البصرة وهو اقليم ملتح كما يبدو، بهدف إلهاء الجماهير الغاضبة وابعادها عن مطالبها المشروعة.
السؤال المشروع هو: هل يستطيع من فشل في ادارة محافظة مثل البصرة بأناسها الطيبين الصبورين الكرماء ان يدير اقليما وهو لا يستطيع حماية مرتبات معلمي مدرسة؟ هذا السؤال يثير اسئلة كثيرة اخرى: ما هي هوية هذا الاقليم؟ وما هو نظامه وسياسته؟ ومن سيتولى ادارته؟ وما هي وظيفته واهدافه؟ وبماذا تميز حكامه عن الكثير من الحكام الفاشلين في المحافظات الاخرى؟ وهل ان ادارة الاقليم هي لعبة تجريبية؟ انني اراه اقليما ملتحي الوجه، وببدلة افرنجية. الشكل الاول يهيمن على السلطة والمال والنفوذ والشكل الثاني يلبي متطلبات المرحلة، اي الدولة الحديثة الفدرالية الاتحادية. الاول هو الحقيقي والثابت لانه من دم ولحم الانسان، اما الثاني فهو المزيف والمتحول ويأتي استجابة لتحقيق الغايات والاهداف ويزول بزوالها.
ان الاقليم الطبيعي الولادة يفرضه واقع التطور وواقع الظروف الموضوعية والتاريخية التي يعيشها التشكيل او التشكيلات الاجتماعية والجغرافية والاقتصادية والثقافية في منطقة ما، ولا يأتي خلاف ذلك او انه يأتي كما يتوهمون تخلصا من الفشل والخراب الذي تعيشه البصرة، اذ ان اقليما هذه ملابساته وظروف نشأته لا يأتي ميتا فقط، وانما سيزيد من معاناة الناس اكثر، وسيكون ملاذا آمنا لحملة السلاح ولكل الخارجين عن القانون والمفسدين والفاسدين والسارقين لقوت الشعب البصري، ولثروة العراق عموماً.
ان المتصدين اليوم لتشكيل اقليم البصرة يتصورون ان عقولهم وافكارهم ودعواتهم وتوجيهاتهم الخاطئة هي التي اكتشفت اليوم جزيرة البصرة المجهولة بما فيها من كنوز وخيرات وانهم يعملون بكل ما أوتوا من فضائيات واعلام وصلات واتصالات لتقسيم هذه الكنوز في ما بينهم في اطار دويلة مزعومة اسمها اقليم البصرة يسوقونها باسم القانون ويسرقون ما تبقى من خراب البصرة.
يبدو ان الاحداث القريبة التي يمر بها العراق والعالم لم تترك اثرا في عقول هؤلاء ولا عبرة، فبالامس طالب نظراؤهم في السسياسة والمحاصصة وادارة شؤون العراق، طالبوا بعد ان فشلوا ايضا في ادارة محافظاتهم باقامة اقليم يضم مناطقهم وعملوا جاهدين على اقامته وشرعوا في قطع صلاتهم بالمركز وقاموا ببعض الاعمال الادارية الخاصة بهم. وبالفعل اقاموا اقليما ولكنه اقليم غريب، إذ سرعان ما تسرب من بين اوساطهم ومن خارج حدود اقليمهم مجموعات مسلحة اتخذت من الاجرام مهنة لها، ليعلنوا مساء 9 حزيران 2014، دولة لهم خرجت من عمق التاريخ، اسسوها (دولة الخلافة الاسلامية في العراق والشام – داعش) واكتسحوا اكثر من ثلث مساحة العراق بعد ان طردوا هؤلاء السياسيين السذج، وكانت النتيجة معروفة للجميع.
لماذا اذن لايفهم ولا يتعظ دعاة الاقليم في البصرة من مخاطر ممارسة هكذا نزوات انانية قاتلة لا تخلف الا الخراب والدمار، فهل انتبه هؤلاء السياسيون لما يجري بين اوساطهم وما يدور حولهم؟ وهل انهم واثقون بانفسهم وبقدراتهم على ادارة الاقليم الموعود، دون ان يحل بهم ما حل بنظرائهم وبالعراق من كوارث ومآس؟
المشكلة عند سياسيي السلطة اليوم، انهم لا يقرون ولا يعترفون بالماضي وسيرورة التاريخ باستثناء بعض الحالات، التي تخدم ديمومة مصالحهم وترسخ جذور سلطتهم. انهم يتناسون ان البصرة هي من وضعت النقاط على حروف العرب في لغتهم المكتوبة، والبصرة والكوفة كانتا الساقين الشامختين اللتين وقف عليهما النحو العربي وعلم الكلام. واذا كانت البصرة قد تعرضت للظلم والاضطهاد وقمع السلطات الرسمية عبر التاريخ، فان ذاكرتها لا تزال حية متقدة متوهجة بتوهج عقول ابنائها.
نذكركم ايها السادة بأن انتفاضة آذار البطلة التي عمت العراق عام 1991 كانت قد انطلقت من ساحة سعد بالبصرة ولم يكن ثوارها يتحركون بايديولوجية دولة الخلافة ولا بأيديولوجية سلطة البعث القمعية، انها ثورة شعبية ضد الظلم والطغيان، ضد المتسلطين السارقين لقوت الناس وحياتهم وحياة شبابهم الضائعة في حروب عادة ما يشعلها الطغاة وكانت البصرة هي الممر باتجاه الموت او العودة منه.
واليوم وبعد ان فشل حكامها الجدد ثاروا عليهم واشعلوا شرارة التظاهرات التي عمت العراق، وكانت تظاهرات البصرة هي اولى التظاهرات التي قدمت شهداء على هذا الطريق.