المنبرالحر

ايران و الولايات المتحدة الامريكية.. العلاقات والازمة وأفاق المستقبل / د . رسمية محمد هادي

الملخص -
ان أزمة العلاقات بين الولايات المتحدة الامريكية وايران ، باتت مشكلة دولية كبرى ، تنخرط بها قوى اقليمية ودولية عديدة ، وأوساط واسعة من الرأي العام العالمي ،لما تنطوي عليه من مخاطر تهدد الامن والسلم الدوليين . من هنا جاء البحث ليسلط الضوء على الجذور التاريخية للعلاقة بين البلدين ، والمرتكزات السياسية التي قامت عليها ،والتطورات التي مرت بها ، وأسباب الازمة الحالية التي تمر بها العلاقة بين الطرفين والتي تتجسد بشكل خاص في الازمة النووية الايرانية والمواقف الايرانية من القضايا الاقليمية ويختتم البحث باستشراف أفاق العلاقة بين الطرفين والنتائج التي تتمخض عنها.
تعود بداية العلاقات الامريكية - الايرانية الى منتصف القرن الثامن عشر، بيد ان الأعوام الاخيرة من الحرب العالمية الاولى شهدت مسعى أمريكيا متصاعدا لتقوية وتدعيم النفوذ في ايران مستهدفة تحجيم النفوذ السوفيتي في الشرق الاوسط والحفاظ على تدفق النفط الى الغرب. وكان هذا يعني في الوقت نفسه ظهور قوى دولية جديدة يمكن لبعض أجنحة المعارضة الايرانية الركون اليها ، خاصة قبل أن تنكشف النوايا الامريكية على حقيقتها . فبدأت تلك الاجنحة تعمل من أجل التغيير بجرأة أكبر من السابق لأنها كانت تتوقع المساندة الامريكية الاقتصادية والسياسية لها(1) .
لذا برز مع حلول 1914 تيار ايراني يدعو الى الموازنة بين الدول الكبرى في سياق تنافس القوى على الصعيد الدولي أملا في تحقيق قدر من الاستقلال الداخلي لتسيير شؤون ايران (2). وكان واضحا ان مرحلة ما بين الحربين العالميتين الاولى والثانية سيكون منصبا على ضرورة الحفاظ على ايران ضمن موازنات اللعبة الدولية مع المانيا الهتلرية حيث توج هذا التوجه في عام 1941بأحتلال ايران من قبل الحلفاء تحت هذا الغطاء (3).
ومع وصول مصدق الى السلطة في ايران وقيامه بتأميم صناعة النفط ، لم يكن هناك بد للإدارة الامريكية والبريطانية باتخاذ اجراء راديكالي يضمن مصالحهما حيث تم تدبير انقلاب عسكري أطاح بحكومة مصدق وعودة السلطة الى الشاه وهذا ملمح مهم أدخل البلدين في مرحلة جديدة من العلاقة (4). وعلى الجانب الإيراني، ظل التدخل الأمريكي الذي أطاح بحكومة مصدق عام 1953، أحد المكونات الرئيسية للذاكرة السياسية للنظام الإيراني الجديد، والذي لم يستبعد قيام الولايات المتحدة الأمريكية في أية لحظة بتكرار ذلك الدور نفسه، وقد كان ذلك في الواقع أحد الأسباب المهمة وراء الإجراءات القمعية التي اتخذها النظام في تلك الفترة من أجل إحكام السيطرة على البلاد بما لا يسمح بتكرار وقائع 1953، وهو ما ذكره الرئيس خاتمي نفسه في معرض تقويمه النقدي لأداء الثورة الإيرانية منذ قيامها.
وكان قيام ايران بدور شرطي المنطقة وبدعم من الولايات المتحدة أحد أهم السمات البارزة في العلاقات الامريكية الايرانية خلال الفترة من عام 1962الى 1978، حيث دعمت الولايات المتحدة منهج انماء القوة العسكرية الايرانية ، فضلا عن تقديم الدعم للبرامج الانمائية الايرانية ، كالإصلاح الزراعي ، حيث وصفت الشاه بأنه اصلاحي تقدمي وبالمقابل كان الشاه يعمل على اظهار الولايات المتحدة كداعم للاستقرار الوطني الايراني (5).
لكن هذه السياسة لم تدم طويلا ، فقد أدى سقوط شاه ايران عام 1979، أثر قيام الثورة
الاسلامية الى حدوث تداعيات كبيرة كان من أهمها خروج أحد حلفاء الولايات المتحدة من تحت مظلتها ، في منطقة حساسة تتمركز فيها أهم المصالح الاستراتيجية الامريكية، وأسهم أيضا قيام الثورة الاسلامية في ايران عام1979الى حدوث انعطاف في مسيرة العلاقات بين البلدين بسبب من التوجهات الجديدة للنظام السياسي الايراني .
ومع الفشل في ايجاد مداخل للحوار بين البلدين ، وضعت الولايات المتحدة في أجندتها تغذية نزعات الحرب بين العراق وايران لتقع في صلب الاستراتيجية الامريكية الجديدة . لقد قامت الاستراتيجية الامريكية في الحرب العراقية الايرانية على خلق نوع من التوازن بين الطرفين والحيلولة دون انتصار حاسم فيها توخيا لتحطيم قدرات البلدين وبالتالي تمكين الولايات المتحدة من استعادة نفوذها المفقود مجددا(6) .
ورغم قبول ايران بالقرار (598)، الصادر من مجلس الامن ، الا انها ظلت على مسارها في مقاومة الضغوط الغربية . ومع غزو العراق للكويت وتداعيات حرب تحرير الكويت عام 1991بدا واضحا ان سياسة احتواء ايران كانت محور الاستراتيجية الامريكية في عقد التسعينات ، حيث وجهت أربعة اتهامات أساسية لها - دعم الارهاب، السعي للحصول على أسلحة الدمار الشامل ، معارضة عملية السلام في الشرق الاوسط وانتهاك حقوق الانسان .
وتتمثل الإيجابية الرئيسية في بدء تحسين العلاقات الإيرانية الأمريكية، في أن الساحة الأمريكية صارت تحفل بقوى مختلفة لها مصلحة في تحسين العلاقات مع إيران، بعد أن كان اللوبي اليهودي هو وحده المهيمن عند صناعة هذا القرار(7).
وتغيرت الاستراتيجية الامريكية بعد أحداث 11ايلول 2001من حيث الاهداف ووسائل التنفيذ وشكلت طبيعة النظام الدولي الجديد فرصة للولايات المتحدة لاختيار ما يناسبها من استراتيجية تستطيع من خلالها ، ضمانة الهيمنة والتفرد بغية الوصول الى هدفها الذي وضعته ( القرن الحادي والعشرين قرنا أمريكيا بامتياز ). وعلى الرغم من التغيير الكبير الذي أدخلته استراتيجية أوباما على مفهوم الامن القومي الامريكي ، الا أنه لا يمكن القول انها تمثل قطيعة مع عهد بوش لان أثار سياسات عهد بوش لاتزال تلقي بظلالها عليها(8).
من جانب أخر لا تبدو إيران كما كانت قبل 4 أغسطس 2013، تاريخ تسلم الرئيس حسن روحاني مهام منصبه الجديد. فقد تغيرت ملامح المشهد بشكل ملحوظ. من سيطرة مطلقة للمحافظين الأصوليين إلي صعود تدريجي للمعتدلين من المحافظين والإصلاحيين في الداخل، ومن تشدد وراديكالية إلي مرونة وصفقات في الخارج. لكن رغم ذلك، لا يمكن الحديث عن "إيران جديدة"، بل عن "إيران متجددة". فالتغير الذي حدث يكمن في الأدوات، لا في الثوابت. وعلي ضوء ذلك، يمكن القول إن المسألة تتجاوز منصب الرئيس إلي حد ما، وتبقي مرتبطة بوجود اتجاه عام في إيران يدعو إلي تبني مسار جديد في التفاعل مع الخارج، بعد الأزمات والضغوط القوية التي تعرضت لها إيران بسبب السياسات المتشددة التي تبنتها في عهد الرئيس السابق، أحمدي نجاد(9).
مشكلة البحث
تنطلق مشكلة البحث من ان التغير الذي حصل في النظام السياسي الايراني والمتمثل بسقوط نظام الشاه ، قد شكل خسارة استراتيجية لواشنطن . ومنذ ذلك التاريخ بات التوتر والعداء سمة العلاقات الامريكية الايرانية ، وهو توتر حقيقي وجدي ، ويعبر عن تباين كبير في وجهات النظر حول تقدير المصالح والرؤى والطموحات الاستراتيجية والامنية لكل من طهران وواشنطن . لذلك فأن الاستدارة الامريكية نحو ايران في الظرف الحالي لا تعني ان صفحة العداء والخلاف قد طويت بين البلدين، فالمساحات تزداد ضيقا يوما بعد يوم أمام الساسة الايرانيين في ادارتهم للصراع مع الطرف الاول ، وتبدو خيارتهم صعبة جدا في غداة اتفاق لم يكتمل .
أهداف البحث
يهدف هذا البحث الى توضيح مرتكزات العلاقات الامريكية الايرانية كما يوضح أسباب أزمة العلاقات الامريكية -الايرانية والتي يقف في مقدمتها أزمة البرنامج النووي الايراني ومسألة دعم الارهاب ، وتحديد مستقبل العلاقات على ضوء ذلك .
أهمية البحث - تكمن أهمية البحث في خصوصية الشرق الاوسط التي تتلخص في ان الشرق الاوسط من أكثر مناطق العالم توترا ، وان منطقة الشرق الاوسط من أكثر الاقاليم تسلحا في العالم ، كما ان هناك مشكلة نووية في الشرق الاوسط أضافت أبعادا خطرة لمشكلتي الصراع والتسلح الاقليميين فضلا عن ذلك ان المشكلة المثارة في الشرق الاوسط ليست مجرد مشكلة نووية وانما مشكلة أمنية عامة تتطلب ترتيبات اقليمية واسعة النطاق وليس مجرد تدابير وظيفية محددة بعيدا عن الاطار الامني العام بخلاف ما كان عليه الحال في معظم الحالات السابقة . هذا من جانب ومن الجانب الاخر ان المشكلة النووية ذاتها محاطة بمشكلات تسليحية أخرى ترتبط بها وتتداخل معها على نحو يصعب معه تصور امكانية اقامة منطقة خالية من السلاح النووي تبعا لمفهومها التقليدي الذي شهدته المناطق السابقة بأشكال مختلفة .
مصطلحات البحث
يتضمن البحث العديد من المصطلحات منها --
أ- الإمامة- أنّ « الإمامة » نيابة عن النبي صلى ‌الله‌ عليه ‌و آله‌ وسلم وخلافة عنه في كلّ ما لأجله بعث ، فهي من توابع « النبوة » وفروعها ، فكلّ دليل قام على وجوب بعث النبي وإرسال الرسول فهو دال على وجوب نصب الإمام النائب عنه والقائم مقامه في وظائفه.
ب- ولاية الفقيه
هي ولاية وحاكمية الفقيه الجامع للشرائط في عصر غيبة الإمام الحجة (المهدي المنتظر) حيث ينوب الولي الفقيه عن الإمام المنتظر في قيادة الأمة وإقامة حكم الله على الأرض.
ج- نظرية أم القرى
لب الموضوع في نظرية "أم القرى" أنه إذا أصبحت دولة من بين البلاد الإسلامية أم القرى، دار الإسلام على نحو تعد فيه هزيمتها أو انتصارها هزيمة أو انتصارا للإسلام كله، فإن الحفاظ عليها يأخذ أولوية على أي أمر أخر، حتى إنه في حال الضرورة يمكن تعطيل الأحكام الأولية. ومما لا شك فيه أن الحفاظ هنا يقصد به المعنى الكامل للكلمة، إذ لا يقتصر على الحفاظ على حيز الدولة
د - تصدير الثورة
ظهر مصطلح تصدير الثورة في إيران عقب نجاح الثورة الإيرانية الإسلامية بقيادة الخميني في قلب النظام الملكي بإدارة محمد رضا بهلوي لتصبح إيران دولة دينية ويقوم هذا المصطلح على العمل من أجل قيام ثورات مشابهة للثورة الإسلامية في إيران في جميع الدول ذات النظم الاستبدادية والعلمانية .
ه - المناطق الخالية من الاسلحة النووية
يعتبر من المفاهيم التي خضعت للتحليل بشكل جيد . وأصبح من المتعارف عليه أن هذه المناطق - حسب تعريف دليل المصطلحات الشائعة الاستعمال المتصلة بالأسلحة ونزع السلاح الصادر عن الامم المتحدة - هي مناطق محظور فيها ، بموجب اتفاق بين دول المنطقة ، انتاج أو وضع الاسلحة النووية .
فرضية البحث
يسعى هذا البحث الى اثبات فرضية مفادها ان ايران تمثل تحديا حقيقيا مهما ازاء الولايات المتحدة واضحى خطرا على المصالح الامريكية في المناطق الاقليمية المجاورة لإيران ولذلك لابد من صياغة الية ( بحسب الرؤية الامريكية) ، يمكن من خلالها احتواء التهديد الايراني الذي ارتبط بالمدرك العدائي الذي تحمله الولايات المتحدة لإيران .
منهج البحث
اعتمدت الباحثة في تناولها لموضوع البحث على المنهج العلمي الجدلي من خلال متابعة المشكلة من جذورها ومراحل تطورها والعوامل التي اثرت بها وساهمت في خلقها ثم الخروج باستنتاجات متواضعة قد تسهم في وضع خاتمة متوقعة لموضوع البحث.
هيكلية البحث
تمت هيكلية البحث على أساس محاور محددة وهي ما يلي--
المحور الاول - مرتكزات السياسة الايرانية للعلاقة مع الولايات المتحدة الامريكية .
المحور الثاني - أسباب أزمة العلاقات الامريكية - الايرانية
المحور الثالث - مستقبل الازمة النووية الايرانية
المحور الاول - مرتكزات السياسة الخارجية الايرانية للعلاقة مع الولايات المتحدة
ينطلق صانع القرار السياسي الايراني في اتخاذ قراراته واصدار تصريحاته فيما يتعلق بالسياسة الخارجية ، ويمكن أن نستشف أهم المرتكزات التي تلعب دورها في صنع القرار السياسي في ايران في الاتي ..
أ- المرتكز الايديولوجي - يتمركز حول المذهب الشيعي الذي اتخذت ايران من فكره نظام ولاية الفقيه لذلك فهي ليست مجرد نظام سياسي ، بل ثقافة دينية تنبع من الاجتهادات التي قدمها علماء الدين ، حتى ان ولاية الفقيه استمدت قوتها من فكرة المحافظة على المذهب ذاته، والابقاء على مقوماته . أي أن هذه الايديولوجية تحقق مصلحة دينية يؤمن بها الشعب الايراني ، وتدعم تراثه الثقافي والحضاري . فكانت الامامة الاعتبارية هي أساس النظرية ، وكان للجمهورية الاسلامية في ايران اضافات تتناسب مع طبيعة المكان والزمان ، والظروف للحكومة الدينية . وأصبح للقيادة الدينية ، صلاحيات الجمع بين القيادة الدينية والقيادة السياسية ، وحق الحكم . بحيث يتحرك النظام السياسي باتجاه السياسات الخارجية وفق رؤية المرشد الاعلى للثورة الاسلامية ، وفقا للدستور الايراني (10) . وتأتي بقية مؤسسات النظام لتلعب دورها أيضا في صنع تلك السياسة ، لكن تبقى محكومة بأطر مؤسسات النظام الايراني التي تدور جميعها حول المركز ، والمتمثل في المرشد الذي يضطلع بصلاحية رسم السياسات العامة للدولة ومنها السياسة الخارجية . ورغم اقرار ايران للعديد من المبادئ التي تنظم العلاقات الدولية، من قبيل الامتناع عن أي نوع من أنواع التدخل في الشئون الداخلية للأمم الاخرى ، والعلاقات السلمية المتبادلة مع الدول المسالمة ، وسلامة الاراضي الوطنية والاستقلال السياسي ، والاقتصادي والاجتماعي والثقافي . غير ان السياسة الخارجية الايرانية تستند الى مبادئ أخرى تناقض المبادئ سابقة الذكر ، بالرغم من ان النظام الايراني يؤكد عدم وجود مثل هذه التناقضات، استنادا الى تأويلاته وقراءته الخاصة في هذا الشأن . فأحجام النظام عن التدخل في الشئون الداخلية للأمم الاخرى تقابله مبادئ من قبيل دعم النضال المشروع للمستضعفين ضد المستكبرين . وكذلك توظيف مفاهيم من قبيل نظرية أم القرى والمهدوية، وتصدير الثورة ، والحكومة الاسلامية. وتعكس تلك المفاهيم بوضوح تلك الازدواجية التي تدفع بالحرس الثوري ، وفيلق القدس للاندفاع خارج الحدود الايرانية ، استنادا الى العديد من تصريحات الخميني ، ومن ضمن هذه التصريحات قوله ( لتحقيق الاهداف الاسلامية الكبرى ، فأن الثورة الايرانية للشعب الايراني تمر بخمس مراحل - الثورة الاسلامية ، ثم النظام الاسلامي ، ثم الحكومة الاسلامية ، ثم الدولة الاسلامية ، وأخيرا الحضارة الاسلامية العالمية ، ونحن الآن في المرحلة الثالثة )( 11) . لم تنتف هذه الازدواجية بوفاة الخميني ، ومن بين الشواهد التي تؤكد ذلك ، هو دور فيلق القدس التابع للحرس الثوري الايراني عبر المنطقة . وليس أقل تجليات هذا الدور دلالات الزيارات المستمرة لقائده قاسم سليماني الى العراق في الفترة الاخيرة .
ب- مرتكز القومية الفارسية والاعتزاز بها - يعد الموروث الثقافي والتاريخي من أهم مقومات الشخصية القومية الايرانية ، وتعد القومية الفارسية والاعتزاز بها مرتكزا مهما ليس لصانع القرار السياسي في ايران فحسب وانما يمتد ليطال حتى القوى المعارضة للنظام سعيا لكسب تأييد الشعب الايراني حيث يلعب المقوم المجتمعي دوره في صنع السياسة الخارجية الايرانية . ويعد قدم المجتمع الايراني أحد أهم المرتكزات المجتمعية للشعب الايراني . وينعكس مباشرة على الهوية الوطنية الايرانية ، التي تدفع بدورها باتجاه الاستقلالية ، كما ينعكس على السياسة الخارجية الايرانية .
ج- مرتكز المصلحة - برغم كل الخطاب القيمي والاخلاقي الذي يتبناه النظام الايراني ، وما يرفعه من شعارات في هذا الصدد . تبقى المصلحة هي العامل الرئيسي الحاكم لعملية
صنع القرار ، واتخاذه في اطار هذا النظام . وغاية ما يكون من أثر لهذه القيم ولتلك الشعارات التي يتضمنها الخطاب السياسي للنظام الايراني ، حين تتعارض مع مصلحة النظام أو الدولة ، هو سعي النظام لممارسة التأويل بهدف سوق المبررات الكفيلة بتحقيق المصلحة ، وشرعنتها قيميا واخلاقيا ، بما يحول دون أن تصطدم مباشرة بالمرتكزات الاخرى . فاذا كانت مصلحة النظام الايراني تقتضي الحوار مع أمريكا ، فان هذا النظام - كما يقول محمد جواد لاريجاني ، رئيس لجنة حقوق الانسان في السلطة القضائية ، على الاستعداد للحوار معها حتى في قعر جهنم(12) .
د-مرتكز الموقع الجغرافي - تعد ايران ثاني دولة من حيث البلدان المجاورة التي تحدها بعد روسيا ( العراق ، تركيا ، أرمينيا ، واذربيجان وتركمانستان ، وافغانستان ، وباكستان ) ، بالإضافة الى حدودها مع البلدان المطلة على بحر قزوين . ومع البلدان العربية على الساحل الجنوبي للخليج ذي الاهمية الاستراتيجية ، بحيث أصبح بمقدور ايران التدخل والتأثير في أمن الخليج ، وفي امدادات النفط العالمية التي تنقلها السفن من مضيق هرمز. هذا الموقع جعلها بمنزلة ممر طبيعي للتجارة العالمية بين الشرق الاقصى وحوض البحر المتوسط ، لذلك أطلق عليها مفتاح الشرق . ولذا باتت موضع اهتمام القوى الدولية وعلى رأسها الولايات المتحدة الامريكية (13).
المحور الثاني - أسباب أزمة العلاقات الامريكية - الايرانية
هناك عاملان جوهريان يقفان وراء توتر العلاقات الامريكية - الايرانية يتجسدان في الخلاف حول البرنامج النووي الايراني من ناحية والدور الاقليمي لإيران ومتلازمة الارهاب من ناحية ثانية .
أولا- أزمة البرنامج النووي الايراني
بدأت الازمة النووية الايرانية جديا في صيف العام 2002عندما كشف مجلس المقاومة في ايران عن وجود منشاة لتخصيب اليورانيوم في ناتنز . ولتجنب ارسال ملف ايران الى مجلس الامن وافقت ايران على التفاوض حول برنامجها النووي مع ثلاث دول من الاتحاد الاوربي - فرنسا والمانيا وبريطانيا .ومع اقتراب تولي الرئيس المنتخب أحمدي نجاد مهام منصبه في 2005 اشتعلت المشكلة النووية الايرانية بعد أن كانت في حالة هدوء نسبي انتظارا للخطوات التالية . كانت ايران تنتظر من الترويكا الاوربية فرنسا والمانيا وبريطانيا مقترحاتهم التفصيلية التي وعدوا بتقديمها وموقفهم الواضح من المشكلة ورؤيتهم لحدود القدرات النووية الايرانية في المستقبل . وعلى الجانب الاخر كانت الترويكا الاوربية تستهلك الزمن حتى يستقر الرئيس الايراني الجديد فوق مقعد الرئاسة في محاولة للاستفادة القصوى من التعهد الايراني بتجميد الانشطة النووية المثيرة للجدل حتى الوصول الى اتفاق كامل بين الجانبين .
سارت السياسة الايرانية في دائرة مغلقة من نوفمبر 2004الى يونيو 2010محكومة بمجال مغناطيسي دولي لا يسمح لها بالحركة الا في طريق واحد نهايته الحتمية هي مجلس الامن .وتمثل هذه الدائرة الحلزونية المسار المعتمد للخارجين على النظام الدولي في المجال النووي .ونتيجة لتجاهل ايران للمطالب الدولية أصدر مجلس الامن في يوليو 2006 القرار 1696 مطالبا ايران بتعليق أنشطة اليورانيوم مع فرض حظر دولي على نقل التكنولوجيا النووية وتكنولوجيا الصواريخ الى ايران . لم تلتزم ايران بالقرار فصدر لاحقا القرار 1737 ثم القرار 1835 . وفي يونيو 2010 أصدر مجلس الامن قراره رقم 1929 متضمنا حزمة عقوبات جديدة ضد ايران بتأييد من 12 عضو في مواجهة صوتين ضد القرار البرازيل وتركيا وصوت واحد متغيب - لبنان . ويهدف مشروع العقوبات ضد ايران الى تحقيق هدفين جوهريين ، الاول اشعار ايران بعزلتها الدولية وان القوى الكبرى تعارض طموحاتها النووية العسكرية والثاني توفير الارضية القانونية اللازمة للدول والمنظمات مثل الاتحاد الاوربي لكي تأخذ خطوات عقابية اضافية أحادية تجاه ايران . في المقابل تركزت الاستراتيجية الايرانية مع الغرب والوكالة الدولية للطاقة الذرية على كسب الوقت في وقت كانت الولايات المتحدة فيه والدول الغربية متورطة في العراق وافغانستان . بحيث قطعت ايران مسيرة من النجاحات المتصاعدة باتت تشكل أرضية صلبة مضافة الى قدراتها الاخرى على الاصعدة المختلفة ، خاصة العسكرية التقليدية وغير التقليدية والتكنولوجية - الفضائية وهو ما بات يشكل أهم عوامل ترجيح كفتها التفاوضية مع الغرب حول برنامجها النووي (14).
ويمكن الاشارة الى جملة أسباب توضح التوجه السياسي الايراني نحو امتلاك السلاح النووي ، يقول الكولونيل جيمي دال ديفيس الضابط في الجيش الامريكي ، انه بقطع النظر عن جميع التبريرات حول سعي ايران لامتلاك السلاح النووي ، الا انه بالنظر الى البيئة الجيواستراتيجية في منطقة غرب اسيا وجنوبها ، نجد ان ايران تجاورها دولتان تمتلك السلاح النووي ، وهما الهند وباكستان اللذان تربطهما علاقة استراتيجية مع الولايات المتحدة . فضلا عن وجود اسرائيل العدو المباشر لإيران في الشرق الاوسط والوجود العسكري الامريكي في كل من افغانستان والعراق ، هذه البيئة المعادية التي تجد ايران نفسها فيها ، دفعتها للحصول على ميزات القوة والتفوق والتي تجسدت بالسلاح النووي(15) .
في حين يرى بعض المفكرين والباحثين ان دوافع الامتلاك النووي الايراني تتمثل بالدوافع السياسية والعسكرية والاقتصادية والعلمية ، والدوافع السياسية تنقسم الى دوافع داخلية ودوافع خارجية ، فقد مارس المحافظون في ايران دورا كبيرا في دفع ايران لامتلاك السلاح النووي ، فضلا عن الايمان الثابت بأهمية هذا السلاح وضرورة امتلاكه ، ولذلك فقد عبرت السياسة الايرانية بالتوجه النووي عن رغبة تيار المحافظين (16)
فضلا عن ذلك فأن الوضع الداخلي في ايران ، ولاسيما بعد فوز احمدي نجاد بالانتخابات الرئاسية عام 2009، والاضطرابات الداخلية جعلت من التمسك بالبرنامج النووي ضرورة كبيرة لكونه النقطة المحورية في الخلاف مع الولايات المتحدة ، ومن ثم فان المضي في هذا البرنامج سيؤدي الى توحيد الصفوف الداخلية ، وشد الانتباه للشعب الايراني نحو الخارج والخطر الذي تفرضه الولايات المتحدة أو اسرائيل على ايران بسبب برنامجها النووي (17) . واقتصاديا تبرر ايران سعيها لإقامة المحطات النووية لكونها عنصرا من عناصر الطاقة البديلة والاستفادة منها في انتاج الطاقة الكهربائية ، فضلا عن ان التطور العلمي والتكنولوجي يدفع من أجل الاستفادة من انجازات العلم وان البرنامج النووي الايراني هو انجاز علمي ذو فوائد متعددة وهو لأغراض سلمية .هذه الدوافع التي تطرحها ايران لا يمكن للولايات المتحدة أن تقبل بها ، فهي تدرك ان البرنامج النووي الايراني معد لأغراض عسكرية سواء كانت هجومية أم للردع ، وان تأثيرات امتلاك ايران للسلاح النووي لا تنعكس اقليميا فحسب بل تؤثر عالميا. وتستند الاتهامات الامريكية لإيران بوجود أبعاد عسكرية وراء برنامجها النووي الى عدة معطيات منها ...
أ- ان الاهداف الاقتصادية التي تذكرها ايران لهذا البرنامج لا تبدو منطقية على الاطلاق من وجهة النظر الامريكية ، استنادا الى ان المفاعلات النووية سوف تكلف ايران مليارات الدولارات بالعملة الصعبة ، رغم انها ليست ذات فائدة كبيرة من الناحية الاقتصادية بالنسبة لدولة مثل ايران تمتلك مخزونا ضخما من النفط والغاز الطبيعي . فتكلفة انتاج الكهرباء عن طريق النفط والغاز الطبيعي لا تتعدى 18-20بالمئة من تكلفة انتاجها بالطاقة النووية ، علاوة على ان ايران ركزت انشاء مفاعلاتها النووية في منطقة واحدة بجنوب
البلاد بعيدا عن المدن الايرانية والمنشآت الصناعية في شمال البلاد وهو ما يقلل من امكانية الاستفادة من هذه المفاعلات في توليد الطاقة لخدمة الاحتياجات الاستهلاكية للمدن والمصانع الايرانية .
ب- ان الشكوك الامريكية حول البرنامج النووي الايراني ترتكز الى أدلة لا سبيل لإنكارها - من وجهة النظر الامريكية ، وهذه الادلة تشير الى ان ايران قد أقامت منشآت سرية في ايران من أجل الحصول على التكنولوجيا اللازمة لإنتاج مواد قابلة للانشطار لصنع الاسلحة النووية .
ج- ان ايران اقامت منشأتين بالغتي الخطورة الاولى خاصة بتخصيب اليورانيوم من أجل انتاج يورانيوم على درجة عالية من التخصيب في موقعين ، الاول قرب مدينة اراك الواقعة غرب طهران ، والثانية قرب مدينة ناتنز الواقعة وسط البلاد . وتتهم الولايات المتحدة ايران بأن هذين الموقعين يهدفان الى تصنيع الاسلحة النووية وانتاج الماء الثقيل (18). والجدير بالذكر يحيط بالأزمة النووية الايرانية عدد من المصالح الاستراتيجية ومنها أمن الحلفاء الغربيين، استقرار منطقة الخليج، ومستقبل الحرب على الارهاب. وبصورة عامة ،تتعلق المصالح الاستراتيجية الطويلة الامد، بمستقبل الانتشار النووي والعبرة التي يمكن استخلاصها من البرنامج الايراني..
وبقدر ما يتعلق الامر بالمصالح الجيوسياسية المباشرة فيمكن القول ان دولة ايرانية مزودة بأسلحة نووية ستكون تلقائيا في موقف مهدد لتركيا، والمملكة العربية السعودية ، واسرائيل ،حتى وان لم تكن ايران تملك أسلحة نووية قابلة للاستخدام بشكل فوري. وهناك موقف صريح ممانع لنشاطها النووي، حيث جرى نقاش في اسرائيل لمدة طويلة حول البرنامج النووي الايراني . ويناقش البعض قائلين انه يشكل تهديدا كبيرا - فايران لا تعترف بإسرائيل وقد رعت العديد من الهجمات ضد اسرائيل منذ العام 1979، ولاسيما من خلال حزب الله . ويعتبر هذا المعسكر أنه في حال امتلاك ايران أسلحة نووية ، فهي ستشجع مثلا على منح سوريا ضمانة نووية .وبعيدا عن المصالح الاستراتيجية المباشرة ، يحمل المأزق النووي الايراني في طياته مشاكل أساسية جوهرية. فأيران هي أولا اختبار معياري للسؤال التالي ..هل يمكن ثني دولة ماهي على عتبة صنع سلاح نووي عن امتلاك هذا السلاح ؟. لقد نجحت في الماضي مساع لثني دول أخرى (كوريا الجنوبية وتايوان،مثلا)، ولكنها كانت حليفة للولايات المتحدة ويمكنها الاستفادة من ضمان أمني ايجابي، وعليه تبقى مسألة التأكيد من امكانية ثني بلد يشعر بالعزلة كأيران عن امتلاك سلاح نووي بعد أن استثمر الكثير في برنامجه النووي في الوقت الذي لا ترغب الدول الغربية بتأمين ضمانة أمنية ايجابية له.
وتتمثل مشكلة ثانية بطريقة تفسير معاهدة الحد من انتشار الاسلحة .فقد تبنت ايران تفسيرا موسعا للمعاهدة من خلال الادعاء بأنها تمنح كل الفرقاء حقا غير قابل للتحويل يمكنهم من خلاله تطوير الدورة الكاملة للوقود النووي، بما فيه امكانات تخصيب اليورانيوم .وتطرح علامات استفهام حول هذا التفسير .ولكن من الصعوبة بمكان التسليم الأن بأن المدى الكامل للتحويلات التي أجرتها شبكة العالم الباكستاني عبد القادر خان معروفة .وقد أدت الايحاءات التي تناولت هذه التحويلات الى اقتراحات تقدمت بها الوكالة الدولية للطاقة الذرية ،والولايات المتحدة والحكومات الاوروبية ، للحد من مخاطر التعاطي مع هذا الوضع.
أما المشكلة الثالثة فتتمثل بمستقبل نظام الحد من انتشار الاسلحة نفسه . ولكن اذا كانت ايران ستبلغ حد تطوير أسلحة نووية مع امكانية التثبت من هذا الامر ،لانسحبت من معاهدة الحد من انتشار الاسلحة . وماتعاني منه المعاهدة هو اضطرارها لمواجهة انسحاب كوريا الشمالية ،وهو الاول من نوعه ،عام 2003.ومن المنطقي الاعتقاد بأن انسحابا ثانيا قد يكون ضربة قاضية للنظام مع ما قد ينتج عن ذلك من عواقب محتملة ليس على ديناميات الانتشار في الشرق الاوسط فحسب ،بل أيضا في مناطق أخرى من العالم (19) .
ولابد من القول ان الاتفاق النووي الايراني مع مجموعة 5زائد 1في جنيف في شهر نوفمبر 2013 قد مثل تحولا محوريا في منطقة الشرق الاوسط فبعد سنوات من نذر
الحرب التي تم التلويح بها لمواجهة المشروع النووي الايراني جاء اتفاق جنيف ليعكس اتجاهات القوى الكبرى المتنفذة في المنطقة لصياغة تحالفات جديدة لاتزال قيد التشكل في المنطقة ، لاسيما في ضوء التحولات الانفتاحية للرئيس الايراني حسن روحاني تجاه الغرب وقدرة طهران على التأثير في معادلة توازنات القوى في صراعات عديدة في المنطقة .
فالواضح كانت هناك دوافع عديدة للاتفاق لكلا الاطراف وبقدر ما يتعلق الامر بإيران فرغم ان السبب الاساسي لسعيها الى توقيع اتفاق مع الغرب هو العقوبات الدولية المفروضة عليها التي تسببت في أزمة اقتصادية حادة فان ثمة أهدافا أخرى سعت اليها طهران ربما لا تقل أهمية أولها ان النظام الايراني سعى الى حماية نفسه من مخاطر محتملة قد تؤدي الى اضعافه بشكل كبير وربما سقوطه في نهاية المطاف . ففضلا عن ان الاتفاق جنب ايران المغامرة بالدخول في حرب لا تريدها فانه ربما يحول دون استفحال الازمة الاقتصادية بكل ما فرضته من تداعيات على الداخل الايراني دون الوصول الى حلول فعالة لمواجهتها بشكل كان كفيلا في حالة استمراره - بتأجيج احتجاجات ضد النظام الايراني الذي رغم أنه نجح في احتواء الازمة السياسية التي شهدتها ايران عقب الانتخابات الرئاسية التي أجريت في عام 2009 فأنه لم يتمكن من القضاء عليها تماما . لكن ثمة أهدافا أخرى ربما سعى النظام الايراني الى تحقيقها أهمها انتزاع اعتراف غربي بدور ايران الاقليمي في المنطقة لاسيما في الملفات الاقليمية الاكثر أهمية (20). ولم يكن التوصل الى اتفاق نووي هدفا ايرانيا فقط بل كان هدفا أمريكيا أيضا . فقد بذلت واشنطن منذ فترة ليست قصيرة جهودا حثيثة من أجل الوصول الى توافق مع ايران حول النووي أولا وحول القضايا الاقليمية ذات الاهتمام المشترك ثانيا فعلى الجانب الامريكي كانت هناك حزمة من عوامل الدفع ذات الطبيعة السياسية والاقتصادية والثقافية جعلت ادارة أوباما تقوم باقتحام الطريق رغم صعوباته وتعقيداته الاقليمية والدولية . وتبرز في هذا السياق الازمة المالية التي واجهت ادارة أوباما منذ مجيئها الى السلطة عام 2008وهي أزمة عميقة وهناك الوعد الأوبامي بتخليص الولايات المتحدة من الحروب الخارجية.
زد على ذلك ان ثمة مؤشرات عديدة تشير الى ان ادارة الرئيس الامريكي باراك أوباما تسعى الى الانسحاب من مناطق الازمات في المنطقة والتحول التدريجي في الثقل الدولي من الشرق الاوسط الى شرق وجنوب شرق اسيا حيث تتهيأ دولة مثل الصين وان كان ذلك يتم بهدوء ودون استفزاز الى لعب دور مهم على الساحة الدولية خلال الفترة القادمة بشكل ربما لا يتوافق مع المصالح الامريكية . وعلى ضوء ذلك بدأت الولايات المتحدة في السعي الى تجسير فجوة الخلافات مع ايران بحسبانها القوة الاقليمية التي تستطيع مساعدتها في تأمين انسحابها من مناطق الازمات (21) . ويضيف الباحث مالك عوني سببا أخر يتلخص في محاولة الولايات المتحدة احتواء الدور الروسي في المنطقة من خلال تقليص دور روسيا في أي اتفاق نووي مع ايران . كما يمكن أن تتيح تسوية الملف السوري المحتدم ، بالتوافق مع ايران ، مزيدا من تقليص الدور الروسي في المنطقة (22).
تلخيصا يمكن القول تلاقت حزمتا العوامل الدافعة الايرانية والامريكية لتصلا بالطرفين الى صفقة تستهدف تقليل حدة الصراع وتخفض امكانية الصدام. في هذا الاطار يمكن فهم المحاولات الجادة من الجانبين لبناء زخم ايجابي حول الصفقة من خلال الترويج لها سياسيا فضلا عن خوض معركة اعلامية ودبلوماسية لتهدئة المعترضين.
فالاتفاق النووي كان بمثابة اختراق يدق جرس الانذار في العالم العربي عامة لما تمثله ايران من تهديد مباشر للأنظمة في المنطقة - خاصة دول الخليج . بما يفرضه من انهاء للعزلة الغربية لإيران - الامر الذي يجعلها قادرة على ممارسة دور مهيمن في المنطقة يهدد الامن القومي لدول الخليج ويزيد من نفوذ ايران في المنطقة . بما يربك السياسات الخليجية فيها ويؤثر في شبكة تحالفاتها مع الدول العربية . من جانب اخر ان نجاح الاتفاق سوف يؤدي الى تراجع أسعار النفط والغاز نتيجة انفتاح ايران على السوق العالمي. الامر الذي يعد ضربة لدول الخليج قد يستتبعها تراجع قدرة الخليج على دعم مصر - بتعبير أخر ان الاتفاق النهائي سيكون اخلالا بمعادلة التوازن الراهنة في منطقة الخليج العربي ( 23).
واشنطن بدت متفهمة للمخاوف الاسرائيلية التي تجد صدى واسعا لدى الكونغرس وجماعات الضغط اليهودية في واشنطن وبعض الدول الاوربية ومن ثم عملت خلال الفترة التالية على توقيع الاتفاق على توجيه رسائل طمأنة لإسرائيل بأن أمنها يحظى بالأولوية لديها . المهم من كل ذلك هو ان الاستياء الاسرائيلي من تجاهل واشنطن لمخاوفها قبل توقيع الاتفاق فضلا عن تصاعد حدة التوتر في العلاقة بين رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الخارجية الامريكي - كل ذلك يفرض تأثيرات متباينة في ملف التسوية مع الفلسطينيين الذين يفتقرون الى الدعم العربي الذي يساعدهم على مقاومة الضغوط التي يتعرضون لها . وفي كل الاحوال لازال الموضوع مرتبطا بشكل أو بأخر بتقييم الادارة الامريكية لتطورات البرنامج النووي الايراني عبر أدواتها المختلفة ومن ثم اجراء عملية تقدير للموقف القائم بهدف التوصل الى خيارات التعامل مع الازمة المستمرة حول البرنامج .
ثانيا - الدور الاقليمي لإيران ومتلازمة الارهاب
يقول الباحث مالك عوني ( يكشف التتبع التاريخي لسلوك الدولة في الفضاء الحضاري الايراني تجاه محيطها الاقليمي عن غلبة سمتين رئيسيتين أولاهما - تصور التفوق الحضاري والقومي ، ثانيتهما - النزوع الى التمدد الامبراطوري)(24). ثم يحدد أبرز الاثار العميقة وبعيدة المدى الناتجة عن هاتين السمتين على العلاقات العربية -الايرانية الحديثة فيما يلي --
- بروز حالة عامة من التشكك والعداء بين الانظمة الحاكمة في الدول العربية و نظيرتها في ايران ، سواء أكانت ملكية في ظل حكم البهلوية ،أم دينية في ظل حكم الولي الفقيه عقب الثورة الاسلامية عام 1979. مثلما تجلى في الحرب العراقية الايرانية في ثمانينيات القرن العشرين .
- استغلال الانظمة الايرانية المختلفة عناصر الهشاشة والضعف في بناء الدول العربية الحديثة أو انكشافها الامني أمام التحديات الخارجية لتؤسس مرتكزات لنفوذها وتأثيرها ، سواء في التفاعلات السياسية الداخلية لتلك الدول أو في مجمل التفاعلات الاقليمية .
- تحول النظام الاقليمي العربي الى ساحة تنافس بين تطلعات الهيمنة الايرانية والقوى الدولية صاحبة المصلحة في المنطقة والمناوئة لبروز أي قوة مهيمنة على سياساته.
واجمالا ، فقد أضحى البناء الامني الاقليمي ،والتوازنات العسكرية في اطاره ، رهنا بالحضور العسكري والامني للقوى الغربية ذات المصلحة الاستراتيجية في المنطقة ، خاصة الولايات المتحدة ، وبريطانيا ، وفرنسا .
- أضحت الدول العربية ، التي تعاني هشاشة اثنية بنيوية ، واخفاقا في تأسيس تكامل وطني في ظل دولة ما بعد الاستقلال ، بؤرا رخوة تشهد صراعات فعلية أو كامنة بين ايران والقوى الاقليمية والدولية المناوئة لمساعي الهيمنة الايرانية(25) .
لذلك يمكن القول ان الخط العام للعلاقات الامريكية الايرانية منذ عام 1979، أي منذ نجاح الثورة في ايران في الاطاحة بالشاه واقامة الجمهورية الاسلامية ، هو انها علاقات عدائية تقوم على اتهام كل منهما للأخرى برعاية قوى الشر والارهاب .
والأمر اللافت في تطور علاقة ايران بالحرب على الارهاب هو ان أول هدف للحرب الامريكية على الارهاب من قبل التنظيمات المنتمية لما بات يسمى في الادبيات السياسية العالمية بتنظيمات الاسلام السياسي ،كان في واقع الامر تنظيمات شيعية قريبة للغاية ومدعومة من الثورة الايرانية ونظام الجمهورية الاسلامية الذي أفرزته تلك الثورة عام 1979. وجاء ذلك تحديدا في سياق تصدي هذه التنظيمات لإسرائيل بدءا على وجه الخصوص من الغزو الاسرائيلي للبنان صيف 1982، ومرورا باستخدام العنف للعمل على اخراج قوات المشاة البحرية الامريكية التي جاءت الى لبنان عقب هذا الغزو من الاراضي اللبنانية ، وكان لهذا الامر دائما تأثيره ليس فقط في مسار العلاقات الامريكية الايرانية ، بل أيضا في مسار العلاقات الاوربية الايرانية ، وكذلك في المكانتين الدولية والاقليمية لإيران .
وقد ارتبط بهذه الخطوة في ذلك الوقت أو حتى سبقها بما ربما يكون قد مهد لها . توصيف الولايات المتحدة لإيران ذاتها كدولة راعية للإرهاب كما اسلفنا ووضعها على قائمة خاصة بهذه الدول وهو تصنيف استمر حتى لحظتنا الراهنة وان تفاوتت درجة تفعيله السياسي وانعكاسه العملي على السياسات الامريكية المتبعة تجاه ايران ما بين مرحلة وأخرى ، وذلك بحسب العلاقة مع متغيرات كثيرة متداخلة(26).
وحسب المدرك الامريكي فان السلوك السياسي الايراني داخليا وخارجيا يتعارض مع
قواعد النظام الدولي الجديد ، تلك القواعد التي أرسى أسسها القوى المنتصرة في الحرب الباردة في وثيقة مؤتمر باريس للأمن والتعاون الاقتصادي والتنمية في أوربا في الخامس عشر من شباط عام 1990. في هذه الوثيقة ثبت الكبار بقيادة الولايات المتحدة الامريكية لأنفسهم حق حمل راية الدمقرطة للشعوب المضطهدة كممثلين للعالم الحر وضمان احترام حقوق الانسان وحرياته الاساسية وضمان حقوق الاقليات والحيلولة دون انتشار أسلحة الدمار الشامل ومكافحة النظم الشمولية والارهاب وضمان حق التدخل في الشؤون الداخلية للدول للأغراض الانسانية .
وبموجب تلك المحددات تبدو ايران على المستوى الداخلي من بين الدول التي تمارس الانتهاك المنظم لحقوق الانسان وتمارس قمع الحريات بشكل يثير قلق المجتمع الدولي
(27) . وفوق ذلك ومن وجهة النظر الامريكية أيضا فأن ايران وحكومة المحافظين تعسكر البلاد وتمنح تفويضا واسعا للحرس الثوري للهيمنة على اللعبة السياسية في البلاد وعلى فضائه الاقتصادي ، والمتمثلة في قيام نجاد بتولية عدد كبير من قياداته مناصب سياسية مهمة في النظام كان أخرها وزارة الداخلية التي تولاها صادق محصولي قائد لواء القدس ، والتي تعد احدى أهم الوزارات الايرانية لاسيما خلال فترة الانتخابات واعلان النتائج تلك المناصب التي تزيد من نفوذ الحرس الثوري في هيكل النظام وتضيف الى رصيده وتقوي دوره في عملية صنع القرار في ايران(28) .
أما على المستوى الخارجي فان ايران وطبقا لوجهة النظر الامريكية أيضا تعد أبرز مصادر التهديد لأمن جيرانها ولأمن المنطقة والعالم معا . ان التهديد الايراني لدول الجوار بالنسبة للولايات المتحدة الامريكية يتخذ أشكالا متعددة منها -
- تهديد البرنامج النووي الايراني لأمن تلك الدول وقلبه لمعادلات التوازن المرغوب فيها اقليميا ودوليا .
- التهديد الذي يشكله تطوير القدرات الايرانية في مجال الصواريخ المختلفة الابعاد والاستخدامات وتطوير معدات التجسس والحرب الالكترونية والقدرات البحرية .
- التدخل الايراني في الشؤون الداخلية لدول الجوار عبر مداخل مختلفة للتأثير في أوضاعها الامنية والسياسية (29).
فثمة عدد من الاوراق الاقليمية تمسك بها ايران بشكل شبه كامل وهذه الاوراق تتسم بأنها تتكامل فيما بينها ما يمنح ايران نفوذا واضحا وتأثيرا حقيقيا في مختلف الملفات الاقليمية كما ان التوظيف الايراني لهذه الاوراق يخدم المشروع الايراني الاقليمي الجديد في المنطقة والذي يقوم بالأساس على تحقيق هدفين
الاول - السعي لإقامة ما يسمى بالحكومة الاسلامية العالمية انطلاقا من عالمية الاسلام .
والثاني السعي للعب دور القوة العظمى الاقليمية الاولى في المنطقة والتي يتم من خلالها التفاوض أو المساومة حول ملفات وقضايا المنطقة بدأ بالخليج والعراق ولبنان والقضية الفلسطينية اضافة الى افغانستان والاستقرار في اسيا الوسطى وهو محاولة لاستعادة الدور القديم الذي كانت تمارسه ايران في المنطقة في زمن الشاه محمد رضا بهلوي ولكن بشكل أكبر وأوسع طبقا للمتغيرات السياسية وموازين القوى في المنطقة بشكل عام .
ومن أهم الاوراق السياسية التي تمسك بها ايران لخدمة مصالحها وتحقيق مشروعها السياسي بالمنطقة الورقة العراقية حيث يعد عراق ما بعد الاحتلال الامريكي احدى الاوراق الهامة في المشروع الايراني بالمنطقة . فقد أتاح هذا الاحتلال فرصة كبيرة لإيران لنشر نفوذها السياسي والعسكري بالعراق فضلا عن تغلغلها الاقتصادي والثقافي أيضا وهو ما يضاعف من حجم وتأثير الوجود الايراني على الساحة العراقية حتى يمكن أن نقول بأنها أصبحت القوة المتنفذة بشكل حقيقي في الواقع السياسي العراقي من خلال علاقاتها القوية مع القوى السياسية العراقية الشيعية(30) . فايران تسعى لجعل البقاء الامريكي في العراق مرتفع الكلفة وكذا خروجه منها . وهذا الامر يسمح لها بأكتساب المزيد من الوقت من أجل انهاك الامريكيين وجعلهم عاجزين عن مهاجمتها . وفي هذا السياق أشار علي أكبر هاشمي رفسنجاني رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام الايراني في معرض رده على تساؤل حول رد فعل بلاده على الوجود العسكري الامريكي الكثيف بالعراق ومحاصرته لإيران . ومجيبا بتساؤل أخر وهو من يحاصر ؟ . في دلالة على المستفيد الحقيقي من الوجود الامريكي بالعراق ، حيث تعتبر طهران القوات الامريكية في مرمى نيرانها اذا ما ارادت استهدافها عسكريا (31).
وقد شكلت أحداث الربيع العربي المناسبة المهمة التي استثمرتها الولايات المتحدة الامريكية للتأكيد على مدى التدخل الايراني في الاوضاع السياسية في المنطقة ، فثمة اصرار ايراني على مواصلة العمل وفق مبدا تصدير الثورة الايرانية في التعامل مع المنطقة العربية رغم ادراكها لمدى الاستياء الذي تقابل به الدول العربية الممارسات الايرانية الناتجة من تطبيق ايران لهذا المبدأ . فيلاحظ دعم ايران لشيعة دول المنطقة ومحاولة استقطابهم من خلال تصريحاتها الرسمية الداعية للمحافظة على حقوقهم أو من خلال الدعم المالي المباشر لهم والعمل على انشاء حسينيات لهم في عدد من دول المنطقة أو عبر العلاقات الجيدة مع نظامها كما الحال مع سوريا أو من خلال مراكزها الثقافية المنتشرة في عدد من الدول مثل السودان التي أثير الجدل أخيرا حول اغلاقها بحجة ان هذه المراكز قد تخطت اطار عملها في اشارة الى نشاط التشييع في عدد من المناطق السودانية فالبعد الطائفي يعد الابرز في اطار التعامل بين الطرفين العرب وايران حيث يمكن القول ان غالبية الخلاف بينهما يتم التعبير عنها في اطار الخلاف السني -الشيعي في المنطقة ولا يمكن اغفال تصريح الرئيس المصري الاسبق محمد حسني مبارك الذي أثار جدلا واسعا( بأن شيعة المنطقة ولاؤهم لإيران وليس لدولهم وكذلك دعوة ملك الاردن عبد الله الثاني لوجود هلال سني في مواجهة الهلال الشيعي(32) .
ولعل موقف ايران من الثورات العربية التي شهدتها المنطقة يعد برهان أخر على محاولة تصدير وربما فرض نموذج ثورتها للعالم العربي بعد أن عدت الثورتين المصرية والتونسية مستوحاتين من الثورة الايرانية وذلك على لسان المرشد الاعلى للثورة الاسلامية على خامنئي والذي أكد هذا المعنى في خطبة الجمعة له باللغة العربية في طهران يوم 4 يناير2011(33) . أضف الى ذلك الحديث عن دور ايراني مباشر في دعم نظام الرئيس السوري بشار الاسد في مواجهة الثورة السورية المندلعة منذ اذار 2011 .
ويمكن قراءة الموقف الايراني الثابت من الازمة السورية من خلال المخاوف الايرانية من تأثير موجة الربيع العربي على الداخل الايراني ، خاصة ان ايران تعاني داخليا من أوضاع شبيهة بتلك التي مرت بها بلدان المنطقة قبل بدا تلك الموجة . وقد ربطت المعارضة الايرانية بالفعل بين ما يحدث من قمع في سوريا وما حدث للمعارضة الايرانية عقب الانتخابات الرئاسية سنة 2009. وعلى جانب ثان لاشك ان الازمة السورية فرضت تهديدا للمصالح والتحالفات الايرانية في المنطقة ككل فتغيير النظام في سوريا لاشك سيفقد ايران أوراقا استراتيجية مهمة في المنطقة بدءا من انكشافها استراتيجيا ومن ثم اضعاف موقفها التفاوضي في مواجهة المجتمع الدولي بشان الملف النووي وعلى أقصى تقدير سيؤدي انهيار تحالفات ايران في المنطقة الى تغيير في موازين القوى قد تفسح المجال أمام توجيه ضربة عسكرية لمواقعها النووية من جانب اسرائيل أو الولايات المتحدة . وعلى صعيد ثالث فأن الازمة السورية تبدو فرصة تستغلها دول الخليج التي تدفع بأتجاه التغيير في سوريا من أجل اضعاف ايران وفي هذه الحالة فان فقدان ايران تأثيرها الاقليمي سيكون لصالح قوى أخرى مثل تركيا التي تحاول استثمار التحولات الجارية في المنطقة للترويج لنموذجها لدى القوى الاسلامية الصاعدة(34) .
ان المواقف الايرانية المذكورة لم تمر دون توظيف أمريكي لها لتعميق الفجوة بين العرب وايران وتحويل وجهة التركيز في صراعات المنطقة وتبايناتها من طابعها المميز بالضد من اسرائيل الى وجهة أخرى تقع بكليتها داخل البيت العربي والاسلامي وعلى خطوط التصدع الطائفي بين مكوناته(35) .
المحور الثالث - مستقبل الازمة النووية
يدور الحديث كثيرا حول مستقبل المفاوضات بين إيران والقوى العظمى حول الملف النووي الإيراني والنتائج المتوقعة لهذه المفاوضات وانعكاساتها على العلاقات الامريكية الايرانية لكن ما تتسم به الأزمة النووية الإيرانية منذ بدايتها، من التعقيد، وعدم اليقين، وتقلب المحددات والمتغيرات المؤثرة فيها من فترة زمنية إلى أخرى، ما يجعل من الصعب على الباحثين والمراقبين الدوليين ، ترجيح سيناريو محدد، أو مسار بعينه يمكن أن تنتهي إليه المفاوضات الجديدة التي من المقرر أن تنتهي في 30حزيران القادم 2015. لذلك، قد يكون من الملائم الحديث عن الفرص التي يمكن أن تسهِل التوصل إلى هذا الاتفاق، والإشارة كذلك إلى التحديات أو المعوقات التي قد تقود إلى فشل المفاوضات، والعودة مرة أخرى إلى نقطة الصفر، أو على أفضل تقدير تمديد العمل بالاتفاق المرحلي للمرة الثالثة.
أما عن الفرص التي قد تشكل عوامل دافعة وضاغطة نحو التوصل إلى اتفاق نهائي بشأن الأزمة النووية الإيرانية، خلال فترة التمديد المحددة، فمنها:
توافر عنصر الإرادة السياسية: يمثل هذا العنصر أحد أهم متطلبات التوصل إلى اتفاق نهائي بشأن أزمة البرنامج النووي الإيراني. وتعكس تصريحات الجانبين الإيراني والأمريكي إلى حد ما توافر هذا العنصر، مدفوعاً بالرغبة في التوصل إلى اتفاق يحقق مصالحهما في الأزمة. فوزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، قال في مقتطفات من مقابلة مع مجلة دير شبيغل الالمانية نشرت يوم16-5-2015 ، ان بلاده متفائلة بامكانية التوصل الى اتفاق نووي نهائي مع القوى العالمية . (36).
على الجانب الآخر، فإن إدارة الرئيس باراك أوباما تبدو في حاجة ملحة أيضاً لإنهاء هذا الملف بشكل سلمي ونهائي لتحقيق إنجاز دبلوماسي ملموس في فترتها الثانية.
الدور الأوروبي "المُحفز": إحدى الفرص الأخرى التي تعزز من احتمالات التوصل إلى اتفاق نهائي، بخصوص هذه الأزمة، هي أن الدول الأوروبية في المجمل، خاصة بريطانيا وألمانيا، يبدو أن لديها حرصا كبيرا على إنجاح المفاوضات النووية مع إيران هذه المرة، ليس فقط لأنها تشعر بالتهديد من القدرات النووية الإيرانية، ولكن كما يقول ريكاردو الكارو – الباحث في معهد بروكينجز- إن "المحادثات النووية مع إيران تعد القضية الأمنية الدولية الوحيدة خارج أوروبا التي تؤدي فيها هذه الأخيرة دوراً حيوياً لا تريد أن تخسره، وإنما تطمح إلى تتويجه باتفاق نهائي سلمي"(37).
ولكن في مقابل تلك الفرص، تبدو هناك تحديات أمام التوصل إلى اتفاق نهائي أعقد بكثير، لأنها تنطوي على اختلافات كبيرة في وجهات النظر بشأن القضايا الرئيسية التي من المفترض أن يشملها الاتفاق النهائي وهي كما يلي --
أ- تعدد قضايا الاتفاق النهائي
تتعلق احدى الاشكاليات أمام التوصل الى اتفاق نووي نهائي ودائم بشأن البرنامج النووي الايراني بتعدد قضاياه فبدون مخرجات واضحة بشأن ثلاث قضايا، يجب الحديث بتحفظ عن تقدم في المفاوضات المتعلقة بالملف النووي الإيراني، وهذه القضايا هي:
العقوبات: وهي القضية التي بدأت تأخذ مساحة كبيرة من جلسات التفاوض، ومن الملاحظ أن الطرف الأميركي يدير التفاوض بشأنها وفق إطار عام يتضمن أربعة محاور، أهمها: الحفاظ على البنية التحتية لنظام العقوبات على المدى الطويل، وضمان إمكانية استئناف العقوبات مجددًا في وقت قصير جدًّا وتبنِّي استراتيجية تفاوضية تعتمد المرونة في تعديل نظام العقوبات، وأن يأتي تعديل العقوبات أو تعليقها تدريجيًّا وفقًا لما تُبديه إيران من التزام ببنود الاتفاق.
التخصيب: هذه هي القضية الثانية التي يلفها الغموض من جوانب عدة، ورغم عدم الجزم بمدى التقدم الذي حدث في تدوين مسودة الاتفاق أو "التفاهم السياسي"، فإن مسألة مستقبل منشآت تخصيب اليورانيوم تحت الأرض، لا تزال مشكلة، وتطالب واشنطن بتعديل استخدامات هذه المنشآت، فيما تصر طهران على بقاء المئات من أجهزة الطرد المركزي فعَّالة في هذه المنشآت.
الرقابة والتفتيش: ولا تبدو الآليات المستقبلية لهذه المسألة واضحة، خاصة وأنها مرتبطة بصورة كبيرة بما سيتم التوافق عليه في القضيتين السابقتين، لكن إيران تتخوف من أن تُوظَّف البنود الخاصة في الرقابة والتفتيش في التأخير من مسألة تعليق العقوبات وإلغائها، وتطالب الدول الكبرى بضرورة التنفيذ المؤقت للبرتوكول الملحق بمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية (إن بي تي) من قبل إيران، وهو ما يسمح لمفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية بزيارات مباغتة للمنشآت النووية الإيرانية(38).
ب- تعدد اطراف الاتفاق النهائي
رغم ان المفاوضات بشان التوصل الى اتفاق نهائي كانت تتم بين ايران ومجموعة 5زائد1 فان هناك أطرافا أخرى أبدت اهتماما خاصا بها نظرا لتأثيراتها المحتملة في مصالحها مثل اسرائيل التي اعتبرت الاتفاق النووي المرحلي بأنه خطأ تاريخيا ويضر بمصالح اسرائيل والدول العربية وتحديدا دول مجلس التعاون الخليجي التي عبرت عن استيائها من السياسات التي يتبعها الرئيس الامريكي باراك اوباما في المنطقة، لاسيما فيما يخصُّ تعامل إدارته مع الملف النووي الإيراني، وكذلك السياسات التي تتَّبعها الحكومة الأميركية لمعالجة القضايا الأمنية التي تخصُّ المنطقة؛ لاسيما في العراق واليمن وسوريا وليبيا، دون إغفال القضية المركزية للأمَّتين العربية والإسلامية: "القضية الفلسطينية".
بل ان جهات عديدة داخل الولايات المتحدة الامريكية وايران تتبنى مواقف متباينة تجاه أية تسوية محتملة للازمة .حيث تواجه كل من إيران والولايات المتحدة أصواتا داخلية متشددة تعارض تمديد المفاوضات النووية، يمكن أن تفرض عقبات خلال فترة التمديد على نحو قد يُعقد ويُصعِب من عملية التفاوض. (39).
على الجانب الآخر، يواجه الرئيس باراك أوباما انتقادات قوية من جانب المحافظين الذي يرون أن إدارة أوباما ستسلم بأن تمتلك إيران في النهاية القدرات اللازمة لصنع قنبلة نووية.
و يستعرض الكاتب روبين، الذي يعمل الآن باحثا في معهد أميركان إنتربرايز - إحدى مؤسسات الفكر الأمريكية القريبة من تيار المحافظين الجدد - تفاصيل الإخفاقات الدبلوماسية لواشنطن مع الأنظمة المارقة حسب تعبيره، والتي يري أنها أضعفت احتمالات تحقيق السلام العالمي، وعززت من مواقف أعداء الولايات المتحدة.
يحكم روبين علي الاشتباكات الدبلوماسية الأمريكية في هذا السياق بالفشل، مؤكدا أن أحداث التاريخ تثبت أن تبني واشنطن لسياسات أقل حدة من العقوبات والتهديدات العسكرية قد أدي إلي فشلها في تحقيق النتائج المرجوة بالنسبة لها
ويتناول الكاتب الأزمة النووية الإيرانية لتأكيد وجهة نظره (40).
ولم تأت تصريحات زير الخارجية الامريكي جون كيري ومساعد الرئيس الامريكي جو بايدن في الآونة الاخيرة عن الخيار العسكري كأحد الخيارات المطروحة على الطاولة وكذلك اصدار الكونكرس الامريكي لمشروع قانون يوفر له امكانية مراجعة الاتفاق النووي بما في ذلك حق رفضه ، بمعزل عن ضغوط تيار المحافظين .
نخلص مما سبق إلى أنه ليس هناك مؤشرات أو مقومات حالية يمكن البناء عليها للقول بنجاح المفاوضات المقبلة في التوصل إلى اتفاق نهائي وشامل لأزمة البرنامج النووي الإيراني. وسيكون تمديد العمل بالاتفاق المرحلي للمرة الثالثة، أو التوصل إلى اتفاق مرحلي جديد، أحد السيناريوهات المطروحة بقوة .
الخاتمة
ان التفكير الاستراتيجي الامريكي بأحتواء الجمهورية الاسلامية أو اضعافها أو اسقاط نظامها السياسي ، يعد أمرا قائما على الدوام طالما هي تظل تمثل تهديد أو معرقل أساس لمصالحها الاستراتيجية في المنطقة . على وفق ذلك لابد من تحجيم الدور الايراني المتطلع الى لعب دور دولة اقليمية كبرى في المنطقة ، لاسيما ان ايران ظلت تسعى الى امكانات اقتصادية وعسكرية وتكنولوجية ، تريد من خلالها تدعيم هذا التوجه، فالملف النووي الايراني ظل على الدوام يمثل مشكلة كبرى للولايات المتحدة واسرائيل . وتسعى واشنطن في محاولاتها لحل المأزق النووي مع طهران الى أن تكون نتيجته تعزيز نظام عدم الانتشار النووي عالميا وتثبيط عزم الدول الاخرى لعدم تكرار خرق معاهدة عدم الانتشار النووي ، ولا تريد الولايات المتحدة أن ترى سباقا في التسليح النووي في الشرق الاوسط . وبالمعنى الواسع ، فأن الولايات المتحدة ترى ايران ومعها القنبلة وسيلة لتغيير ميزان القوة في الشرق الاوسط
استنادا الى بنية البحث التحليلية يمكن ايراد الاستنتاجات التالية --
أولا- ان واقع العلاقات الدولية لا تعدو أن تكون علاقات قوة بين الدول المختلفة ذات المصالح المتعارضة حيث تسعى كل واحدة من الدول الى فرض ارادتها على ما عداها من الدول متوسلة كل السبل المتاحة ، لذا فانه من غير المتصور أن يتحقق أي نوع من الاتزان أو الاستقرار لهذه العلاقات الا عن طريق التدافع أو دفع القوة للقوة . وهذا ما نشهده حاليا في الصراع الدائر بين الولايات المتحدة الامريكية وايران حول البرنامج النووي الايراني وحول القضايا الاقليمية الاخرى .
ثانيا - تسعى الولايات المتحدة الامريكية الى الحاق نكسة استراتيجية للنظام الايراني الذي يتحدى واشنطن في المنطقة ، وفي العراق وافغانستان ويدعم الاضطرابات في الخليج ، ويدعم الارهاب من وجهة نظرها . وما يكتنف مشهد العلاقة ما بين ايران والولايات المتحدة هو سيناريوهين أما استبعاد العمل العسكري الامريكي ضد ايران ، من خلال خيار المساومة الاستراتيجية التي يمكن ان تحول ايران من عدو صريح الى شريك محتمل . أو ان تذهب الولايات المتحدة بدفع اسرائيلي وبدعم عربي خليجي الى المواجهة مع ايران ، وان حدث هذا سيكون على حساب الولايات المتحدة وحلفائها وموقعها ومستقبل قيادتها للنظام العالمي .
ثالثا- ان التلازم بين الصراعات السياسية (المركبة) والبرامج النووية الهامة في الشرق الاوسط قد خلق الدوافع السياسية واتاح المتطلبات التكنولوجية اللازمتين لانتشار الاسلحة النووية في الاقليم .
رابعا تسعى واشنطن في محاولاتها لحل المأزق النووي مع طهران الى أن تكون نتيجته تعزيز نظام عدم الانتشار النووي عالميا وتثبيط عزم الدول الاخرى لعدم تكرار خرق معاهدة عدم الانتشار النووي ، ولا تريد الولايات المتحدة أن ترى سباقا في التسليح النووي في الشرق الاوسط . وبالمعنى الواسع ،فأن الولايات المتحدة ترى ايران ومعها القنبلة وسيلة لتغيير ميزان القوة في الشرق الاوسط . وهذا يعمل بدوره على تهديد امدادات الطاقة من منطقة حيوية .
خامسا -أن ملف الارهاب على أهميته ، بات يستخدم لأغراض سياسية في مواجهة دول العالم الثالث ، فالدول التي تتكيف وتتأقلم مع الاجندة الامريكية لا يشهر هذا السلاح في وجهها ، أما تلك التي ترفض التكيف والتأقلم مع هذه الاجندة ، فأنها تتعرض لإشهار هذا السلاح في وجهها وما يتبع ذلك من اجراءات عقابية ثقيلة .
سادسا- تقف السياسة الايرانية أمام خيارات صعبة في ظل اتفاق لم يكتمل فالملاحظ ان طموح ايران النووي ليس مجرد انعكاس لرؤية اقتصادية للاستفادة من الطاقة النووية أو تعزيز القدرة التكنولوجية والمعرفية للدولة ، بقدر ما أنه عنوان لنزعة التفوق الحضاري والقومي الايراني ، والاهم لمكانتها الاقليمية . خصوصا في ظروف البيئة المضطربة في منطقة الشرق الاوسط والقلق الايراني المتزايد من سياسات الاحتواء والتطويق ، فقد مثل الوجود الامريكي المباشر تهديدا حقيقيا للأمن القومي الايراني في بيئته الاقليمية .
سابعا- ما يعزز الأمل بالمستقبل رغم الرؤى الضبابية ، توسع دور العوامل الداخلية ، وازدياد وزن التحولات التي تحدث داخل الدول . مضافا اليها الطفرة التكنولوجية الكبرى في التغيير الي شهده العالم خلالها . واذا تأكد ذلك وتنامى في الفترة القادمة ، فسيزداد دور الشعوب في تغيير العالم .
____________________________________________
- السلام محمد عبد ، المتاهة -مشكلات اقامة منطقة خالية من السلاح النووي في الشرق الاوسط ، مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية ، القاهرة ،2006.
- السعبري بهاء عدنان ، الاستراتيجية الامريكية تجاه ايران ، مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية ، بغداد ، 2012.
- أمين سرمد عبد الستار ، ايران والولايات المتحدة العلاقات الازمة ومشاهد المستقبل ، مركز الدراسات الدولية ، جامعة بغداد ، (العدد 120، شباط 2012.
- دالدر أيفو ، نيسوتو نيكول ، غوردن فيليب ، ترجمة حسان البستاني ، هلال الازمات ، الدار العربية للعلوم - ناشرون ، ط1، 2006.
ثانيا - المجلات والدوريات
- مجلة السياسة الدولية ، مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالاهرام ، القاهرة ، (العدد)الثالث والتسعون بعد المائة ، يوليو 2013 .
- مجلة السياسة الدولية ، مركز الدراسات السياسية و الاستراتيجية بالاهرام. القاهرة ، (العدد) الخامس والتسعون بعد المائة ، يناير 2014.
- مجلة السياسية الدولية ، مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالاهرام ، القاهرة ، (العدد) السادس والتسعون بعد المائة ، أبريل 2014.
-- مجلة السياسة الدولية ، مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالاهرام ، القاهرة ، (العدد) التاسع والتسعون بعد المائة ، يناير 2015.
-- ملحق مجلة السياسة الدولية ، مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالاهرام ، القاهرة ، (العدد) التاسع والتسعون بعد المائة ، يناير 2015.
-- ملحق مجلة السياسة الدولية ، مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالاهرام ، القاهرة ، (العدد) التاسع والتسعون بعد المائة ، يناير 2015.
-- كراسات ستراتيجية ، مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالاهرام ،القاهرة ، (العدد) 236، 2013.
-- كراسات ستراتيجية ، مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالاهرام ،القاهرة ، (العدد) 209، 2010.
-- كراسات ستراتيجية ، مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالاهرام ،القاهرة ، (العدد)158، 2005.
- مختارات ايرانية ، مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالاهرام ،القاهرة ، (العدد) 156، يوليو 2013.
- بدائل ، مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالاهرام ،القاهرة ، مارس 2011.
- ملف الاهرام الاستراتيجي ، مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالاهرام ،القاهرة ، (العدد) 176، 2009.
- مجلة درا سات عراقية ، الجمعية العراقية للبحوث والدراسات الاستراتيجية ، (العدد) الثامن ، أيلول 2008.
- كراس سلسلة دراسات ستراتيجية ، مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية ، (العدد) 126.
- دراسات مترجمة ، ت زينب ضياء محمد ، مركز الدراسات الدولية ، (العدد) 29 ، جامعة بغداد 2004.
الانترنيت
- اشرف عبد العزيز ، هل يمكن التوصل الى اتفاق نهائي بشان البرنامج النووي، مجلة السياسة الدولية ، مركز الاهرام على الانترنيت .
www.siyassa.org.eg- فاطمة الصمادي ، قضايا تحكم مفاوضات النووي الايراني ، مركز الجزيرة للدراسات الستراتيجية ، 26 ابريل2015.
studies.aljazeera.net
- ابو الفضل الاسناوي ، التداعيات الاقليمية لاتفاق لوزان حول النووي ، مجلة السياسة الدولية ، موقع على الانترنيت.
www.siyassa.org.eg
- مايكل روبين ، الرقص مع الشيطان ، عرض مروه نظير ، مجلة السياسة الدولية ، موقع www.siyassa.org.egعلى الانترنيت
الصحف
- جريدة المدى ، 16 أيار ، 2015،
www.almadaparer.net
ملاحظة- نشر هذا البحث في المجلة نصف الفصلية الصادرة عن الاكاديمية العربية في الدانمارك قبل حصول الاتفاق النووي.