المنبرالحر

رهابات العقل العربي .. وبعض ما يجري! / علي حسن الفواز

الصورة تبدو غائمة، الضحايا كثرُ، والعنف يتحول إلى نص، وإلى حكم، والأقوياء يرمون الحجر على حائط الأيديولوجيا القديم، ويبتكرون عشرات الحيطان لصور الموتى، ولتعتيم الضوء على الطرق المؤدية إلى الحداثة والدولة والأمة، أو ربما تزييف الوعي إليها.
هذا الثلاثي الذي كان حلما وسؤالا عاصفا في تاريخ الوعي الإصلاحي والتنويري العربي منذ عشرات السنين، تحول إلى قربان للخلاص، وإلى إعادة النظر في الكثير من أحكام المواجهة من الغرب الكولونيالي، مقابل هوس عصابي باستعادة مرعبة للسلطة التاريخية، تلك التي غابت تحت حوافر الغزاة، وطمع "ملوك الطوائف" الخارجين من معطف الاستبداد العربي التاريخي. ما يجري في العالم العربي الآن يضعنا أمام كل هذا الرعب، الرعب المعطّل للوعي والمزاج، الرعب الباعث على الكثير من العدم، والكثير من أوهام التخلي والاستعادة، وفي تضليل طرق البحث عن معنى الذات والوجود والحرية.
التاريخيون والفقهاء يفخخون الجغرافيا والنصوص، ويضعون أمام القراء والمريدين المزيد من تلك الأوهام، والعسكر يبتكرون دائما نصوصا مجاورة لنظرية "المعسكر" وفقه الجنرال، والأصوليون والجهاديون والتكفيريون يجرّون التاريخ من أول المكتبة إلى أقصى المقبرة، إذ لا مناص من الاصطدام بنصٍ أو تأويلٍ أو نقلٍ أو حجرٍ أو شاهدة، أو بقايا أثرٍ يضلل الطريق إلى وضوح القصد… ويصطنع الكثير من الصراعات العشوائية، تلك التي تشرعِن العنف والعُصاب والكراهية، وتجرد العقل من أدواته النقدية، وتضعه عند عتبة التصفية والمتاهة، أو ربما عند أفق غائم للخذلان.
فما الذي يجري حقا في أرضنا العربية وفي عقلنا العربي؟ وهل أن حربنا ستظل مفتوحةً لاستعادة التاريخ، أم هي حرب الجماعات والفرق السرية المجاهِرة بزندقة العقل؟
صناعة الحروب الصغيرة، والعصابيات القاتلة باتت أكثر الظواهر تعبيرا عن محنة هذا العقل، ودافعا كبيرا لترويج إشاعة "الموت المقدس" والتلذذ بالاستيهام مع المزيد من مراثي سردياتنا الكبرى، حتى تحوّل "الصنايعة" في هذه السوق إلى ثوار ومؤدلجين وفقهاء وتجار خردة، وأضحت فكرة المدينة خاضعة لعصاب الجماعة، وصورة ما يسمى بـ "الدولة المدنية" أو الدولة الحقوقية، بَدت غائمة وشاحبة، وبعيدة عن أن تكون عنوانا للحراك الثقافي أو لمعنى حقيقي ركض نحوه اليساريون والليبراليون والإصلاحيون والقوميون كثيرا..
هذه الصناعة تحولت إلى صناعة مفتوحة للرعب- وهذا أخطر ما في الأمر- إذ باتت تصنع لها أنماطا غرائبية من الصراع والتوحش، وتضع الجميع عند سياقات طاردة للقبول بالآخر، وأنسنة الحوار والتنوع والتعدد والاختلاف، مثلما وجدت نفسها داخل فضاء عدواني لميديا الصورة والرسالة والفكرة، التي باتت تتضخم ظاهرتها، حدّ التشهير بموت العقل، وبدء الحرب المقدسة على التنوير والإصلاح والمعرفة، إذ تجد لها- اليوم- الكثير من الشواهد والأسانيد، والكثير من الوقائع والمعطيات، فالارض العربية الآن تحولت إلى ساحة معركة، وإلى متحف خادع للأثر، وفقد التنويريون والليبراليون واليساريون مناطق امتيازهم، وفقد أيضا القوميون والعروبيون حظوتهم في استعادة فكرة "الرسالة الخالدة" التي كانت تغذيها أوهام "الأمة الواحدة" مثلما فقدت المؤسسات- مؤسسة الدولة، مؤسسة القانون، مؤسسة الجامعة- أدوارها في مواجهة صعود الرعب الجماعاتي غير المؤسَس أصلا..
الكلّ يقف برعب أمام فداحة الفقدان، وأمام رهاب تضخم هذا الوعي المسلح، وأمام شراهة "الثوار" الجدد المسلحين بفتاوى الموت العلني، وإباحة حكم التكفير والتضليل والكراهية، مثلما نجد أمامنا نوعا غرائبيا من الفكر الساند لشرعنة الدولة المفترسة، دولة الجماعة، وليست دولة الأمة، إذ يمارس البعض فيها استعادته المشبوهة للتاريخ والأثر والنقل، والإفصاح عن سياسة التحريم والإقصاء والغلو على هواه، والبعض الآخر يفرض على الجميع حكمه المركزي بوصفه رمزا للاستبداد، أو أنموذجا استعاديا لحاكمية الرسالة الأولى، فيضع أحكاما للهجرة، وأحكاما للثروة، وأحكاما للجسد، وحدودا قهرية للحرية، مثلما يفرض شروطا للجزية على أي مواطن ينتمي إلى دين آخر تحت يافطة الحماية، وهناك بعض آخر يهدد بضرورة إخلاء الأرض بوصفها دارا للحرب، لمن يخالفه الفكرة والمعنى والعقيدة، وأن أصحابها سيكونون من وجهة نظره مارقين وأنجاسا ومرتدين..
ما يحدث الآن- وسط هذا الرعب- يكشف في جوهره عن فشل فكرة الدولة القديمة، وفشل العقل المؤسسي المركزي، فضلا عن فشل الانتلجنسيا العربية بكل مرجعياتها الثورية والأيديولوجية، وحتى التقليدية، إذ تبدى لنا خواؤها، وهشاشتها، وأنها بلا تراكم حقيقي، وبلا مؤسسات حافظة وضامنة، وبلا إرث عميق الأثر في صناعة أي شكل للوعي المجتمعي، فالسلطة التي صنعها المستعمرون والغزاة منذ نهاية القرن التاسع عشر، كانت سلطة عائلية للتجار وبعض رجال الدين والإقطاعيين الكبار، التي حملت معها أوهاما كبيرة، وتماهيات أكثر، ليس لأنها بعيدة عن الحقائق ومعطيات الأرض الغاطسة بالجهل والتخلف والفقر، بل لأن هذه السلطة الافتراضية جرّت نفسها إلى وهم استقلالية الدولة المصنعّة في بدايات القرن العشرين، تلك وضعت نفسها بين نارين، أولها المكونات غير القادرة على الاندماج داخل دولة عصرية، وبين المستعمر الراعي والحامي والممول، الذي جعلها في مراحل لاحقة جزءا من "مناطق الكفر" كما يسميها بعض السلفيين، وأن دارها ستكون "دار حرب" خاضعة لفقه الجماعة، وحاضنة للكثير من الأفكار الصراعية التي بدت ملامحها بعد نشوء الدولة السعودية، ومقتل عبد الرحمن الكواكبي، والافتراق الذي حدث في الأزهر بين رشيد رضا وجماعة الأزهر التقليدية، والتي وضعت مشروع الدولة، وفكرة الأمة أمام قراءات مفارقة، تلك التي مارست مع مهددات العقل والنقد والإصلاح نوعا من سياسة المخاتلة التي تشوهت فيها الأفكار الحقيقية للإصلاح والتنوير، حدّ أن البعض من فقهاء السلطة كان يطلق على أية فكرة مناوئة بأنها مشروع للكفر والخروج عن الملة والأمة، وأن الحريات الذي ظل ينادي بها البعض كانت في حقيقتها خاضعة لضوابط وأحكام "ولي الامر- الخليفة، الملك، الفقيه، المرشد" بدءا من حركة حسن البنا، وخلاف نظرة السيد قطب للأحداث التي تلت ثورة 1952 في مصر، والتي فجرت صراعا خفيا أعيد الكثير من مظاهره بقوة بعد ثورة 25 يناير/كانون الثاني في مصر وتمكن الاخوان من السلطة السياسية فيها..
هذه المعطيات نجد اليوم الكثير من مظاهر صناعتها المرعبة، لاسيما بعد تداعيات احتلال العراق، وصعود ظاهرة العنف الجهادي، وتبديات ما سمي بـ "الربيع العربي" إذ انهارت صورة الدولة القديمة، وبدت الأمة أكثر عرضة للتشرذم، وباتت ثقافة "النقل" وخطابه أكثر تعبيرا عن هوية الجماعات الجديدة، تلك التي أطلقت النار على "غربنة" الحداثة وقيم التجديد، وعلى القبول بالاختلاف والتنوع في العقائد، حيث حولت أحكامها العقل الثقافي إلى خردة، وحولت النقد إلى شتيمة، ووضعت صناعة المعرفة والجمال والفكر في سياق الصناعات المضادة، وغير الصالحة للاستعمال العربي، لأنها مضرة بالعادات والسلوكيات، وباعثة على إثارة الكراهة والغواية، وأن من يستعملها في السر والعلن سيعرض عقله لحساب ولاة الأمر، وأصحاب النهي عن المنكر والداعين إلى تحصين العقل بتنويمه في صناديق القرابات المتوحشة.