المنبرالحر

حالة الانكار...العراق إلى أين؟ / فارس كريم فارس*

يمر العراق بوقت عصيب تلفه الازمات على جميع الصعد, السياسية, الاجتماعية, الاقتصادية, الامنية, في الخدمات والاخلاق والثقافة, وينخر الفساد جسده المتعب.
ونظرا للحجم الهائل لهذه الازمات واستعصاء بل وانعدام الافق لحلها والخروج من عنق الزجاجة, على الاقل لحد هذه اللحظة, فان الامر يدعونا للتامل العميق والبحث الموضوعي عن اسبابها واستمرارها. ان استمرار انسداد عنق الزجاجة(بقاء الازمة) لفترة اطول قد توصل بلا ريب الى انفجار الزجاجة ذاتها, وما يعني ذلك من تفاقم مخاطر الكوارث المدمرة التي عانى ومايزال يعاني منها شعبنا ووطننا قبل 2003 وبعده. ان حالة الانكار لـ (فشل الرؤية السياسية, وبالتالي الفشل في ادارة شؤون البلد) التي تصر عليه القيادات المتنفذة, كل حسب موقعه في هرم السلطة, هي احد الاسباب الجوهرية لما يعانيه ويعيشه شعبنا من وضع ماساوي حاليا, ولما سيؤول اليه الوضع العراقي مستقبلا.
ماهي حالة الانكار؟ ما اسبابها؟ من المُصاب بهذا الداء وما هي طبيعته وسلوكياته؟ وما انعكاسات كل ذلك على واقعنا الراهن ومستقبلنا؟
كل هذه الاسئلة المثارة وغيرها, سنحاول ان نبحر في مضامينها واجاباتها من خلال هذا البحث المبسط.
حالة الانكار Denial case
تشير كلمة الانكار في اللغة العربية الى الرفض, النهي, النفي, التجاهل, وهي عكس القبول والاقرار. وفي علم النفس يعني مصطلح الانكار العملية الدفاعية او الية الدفاع النفسي القائمة على الرفض وعدم القبول او الامتثال او تلبية الطلب, يستخدمها الفرد ليواجه حقيقة غير مريحة ومؤلمة او لتحقيق التوازن النفسي, بالهروب منها وتجاهلها, على الرغم من توفر ادلة دامغة عليها في هذا الواقع. وبالرغم من ان هذا الانكار لايغير من الواقع والحقيقة شيئا بل يزيده سوءا على سوئه, وعدم الاقرار به يعتبر امعانا في السوء ويحوله من واقع قابل للاصلاح باقل التكاليف الى واقع تزداد كلفة علاجه كل يوم يمر عليه دون الاعتراف به والعمل من اجل التقليل من مخاطره.
تعتبر الكاتبة السويسرية اليزابيث كوبلر روس Elisabeth Kubler Ross (1926-2004 ), الرائدة في الدراسات النفسية الحديثة, ومن المهتمين في البحث حول المظاهر النفسية والاجتماعية وتحليل الطبيعة البشرية, حيث عرضت للمرة الاولى عن حالة الانكار, في كتابها ¬- الموت والاحتضار- عام 1969, وعبر ما سمي لاحقا بـ "نموذج كوبلر روس, مراحل الحزن الخمس".
في هذا النموذج تصف كوبلر كيفية تعامل الفرد مع الحزن الناتج عن مصيبة, او كارثة تلم به (مرض قاتل, خسارة فادحة ....الخ), حيث يمر بخمس مراحل تتوالى كما يلي:-
1.مرحلة الإنكار Stage of Denial: ينكر الشخص خطورة حالته.
2.مرحلة الغضب Stage of Anger: يقول المريض لنفسه: لماذا أنا بالذات؟ إضافة إلى الغضب الذي يُسقِطه على أيِّ شخص آخر.
3.مرحلة المساومة Stage of Bargaining: يحاول الشخص أن يقيم نوعًا من التوافق والتسوية مع القدر.
4. مرحلة الاكتئاب Stage of Depression: تحل مع ضعف الشخص ووهن طاقته حين يتطور المرض عنده، إذ يشعر بالخسارة الكبيرة المقبلة والنهاية المحتومة (اليأس).
5. مرحلة التقبل Stage of Acceptance: يتقبل الشخص حالته ومصيره وتنتهي المقاومة.اما حالة الانكار فتشكل المرحلة الاولى, وتوصف بكونها حالة دفاع عن النفس, ينكر الفرد خطورة حالته او حتى وجودها, ويمر بالمراحل الاخرى او ببعضها وينتقل من واحدة الى اخرى بتسلسل او باشكال مختلفة, الى ان يصل للمرحلة الاخيرة, بعد ان تتفاقم الحالة المرضية وتستعصي على العلاج اي مرحلة التقبل, حيث لا يجد فائدة من المقاومة, ويستعد نفسيا لانهاء الصراع ويستسلم للامر الواقع.أما الكاتب الاسترالي (جيرمي جريفيت) Jeremy Griffith, مواليد 1945 وهو عالم احياء ومتعدد التخصصات, استفاد في مؤلفاته من العلوم الفيزيائية والفلسفة وعلم النفس والطب النفسي, اشهر مؤلفاته Species A في حالة إنكار (2003)، يتناول ويحلل فيه الطبيعة البشرية, نستعرض ونلخص مجموعة من الافكار التي احتواها الكتاب, تفيد الموضوع قيد البحث.
يقول جيرمي: " ان لغز الطبيعة البشرية, هي قدرة الانسان الكبيرة على الحب بلا حدود وامتلاك المشاعر الانسانية الجياشة ( التعاون, التضحية, نكران الذات, .....الخ), وقدرته كذلك على الجشع, الكراهية, الانانية, العدوانية, حب الذات,...الخ. وكان السؤال المثار دوما, لماذا الشر يكمن في نوع من البشر؟ ".
ويذكر في فقرات اخرى: " لقد وضعت الحضارات الانسانية الكثير من القيم الاخلاقية والمثل العليا, كاساس لدساتيرها وقوانينها ( الحقوق والحريات, المساواة, العدالة, المشاركة, التعاون, ..........الخ), وجاءت قبل ذلك, الاديان بمثل هذه التعاليم, الا ان بقي نوع من البشر, وهذا مثار تساؤل باستمرار يمتازون بالعدوانية والانانية وديدنهم العمل على التمزيق والتفريق, حيث لا تتناسق طبيعتهم مع المثل العليا, وكل ذلك يعني وجود حالات انسانية ذات طبيعة او نوعية سيئة غير سليمة, هذه الحالة الانسانية احد ابرز سماتها, انها لا تريد الشعور بالذنب, كما لا ترغب ان يتكلم الاخرون عنها بالسوء اي تريد من الاخرين ان يبقوا صامتيين!, فيلجأ مثل هكذا فرد ( جماعة ) الى حالة الانكار".
لقد حدد جيرمي انواعاً عديدة من الانكار لحالات انسانية, ارجع جزءاً منها, " الى ان هؤلاء يعيشون في حالة من الحرمان النفسي العميق", وخص هذه الحالة بالبالغين من البشر وليس لصغار السن او المراهقين. فالذي يؤمن بالطريقة الانانية والعدوانية بالتنافس وليس بالطريقة التعاونية والشراكة ونكران الذات, هم البالغون, ويطرح الفكرة بالشكل التالي: " ان فهم السؤال الرئيسي, لماذا البشر لا يتصرفون بالطريقة المثالية؟ سؤال قد يطرح من قبل المراهقين والصغار اما الكبار فلا يريدون حتى النظر فيه."
الذي يلجأ الى حالة الانكار, يؤكد جريمي: " لا بد من ان المشكلة موجودة في داخله بالدرجة الاولى ( وهنا يقصد رؤيته الفكرية للحياة ), والشيء الوحيد الذي يمكن ان يقوم به انسان يتصف بالشر اوالعدوانية او حب الذات والفردية وعدم التعاون والمشاركة مع الاخرين هو الانكار", اي انكار وجود هذه الموبقات في شخصه.رغم ان ذلك لا يعني بالنسبة للآخرين, سوى الوهم والاحتيال, والهروب من المساءلة, مما يدعو المصاب بهذا الداء, الى القيام بتصرفات مفتعلة, ويلجأ دوما الى "ايجاد الاعذار المفتعلة والتبريرات الكاذبة, لهذا السلوك التنافسي العدواني المشبع بـ الانا ".ويذكر جيرمي في فقرات اخرى: " ان مثل هؤلاء الافراد لو فازوا بالسلطة او الشهرة او الثروة, فانهم سيحملون على اكتافهم مهمة مقدسةهي مهمة الدفاع عن الانا, فهم بحاجة ماسة للانكار, حيث يتم غسل ادمغتهم من قبل انفسهم, والجماعة من حولهم (بطانتهم), بحيث ان الجميع يعتقد بكذبة كبيرة ووهم على اساس انهم الافضل والاصلح, ولذلك اصبح فهم التنافس العدواني, والانقسام والتشرذم والانفراد والاستئثار بكل شئ, كحالة طبيعية, وهنا باتت اذهانهم ترحب باي فرصة, يؤمنون فيها بالاكاذيب, لايجاد الاعذار والمبررات للحالة العدائية التي هم فيها."
يصف جيرمي بعبارة بليغة هذه الفكرة بالقول: ان هؤلاء " لا يرحبون بمجرد الاكاذيب بل انهم يحتضنونها وتحتضنهم, كما تحتضن الام طفلها." ونستطيع القول هنا: انهم فقدوا ميزة التفكير الموضوعي والرشيد اي التفكير بصدق, وسماع الحقيقة يشكل قمة الخوف, والغضب والهيجان لديهم, وهذا ما يفسر عدم تقبلهم لفكرة, المراجعة واعادة النظر والتصحيح, او الاصلاح, بل يصبح هاجس الحفاظ على حالة الانكار مصدر انشغال متزايد دقيقة بدقيقة.
يواصل الكاتب في فقرات اخرى, تحليله الجريء والدقيق لهذه الحالة, فيشير الى انهم: " يعتقدون ان معنى الحياة, ان تكون قادر على المنافسة, وان النجاح في المنافسة مع سائر البشر وباي الطرق, سيؤدي الى الشعور بالامان واحترام الذات, هم يعتقدون فعلا, ان الفوز هو كل شيء, وان النجاح في كسب السلطة والشهرة والحظ هو المجد, ولا يهمهم اي شيء اخر."
والتفكير بهذه الصورة لا يعني سوى تغليب التنافس العدائي والاناني مع سائر البشر الاخرين, الذين اصبح لديهم ذلك هو "مقياس النجاح". اما التعاون, الشراكة, التضحية, نكران الذات, حب الاخرين ......الخ, فكلها "كلمات بلا معنى عندهم امام هاجس الحفاظ على السلطة والشهرة والمجد"!
حالة الانكار سياسيا!
شهدت وتشهد المنطقة العربية تطورات عميقة في اوضاعها السياسية مع تصاعد الحركات الاحتجاجية للجماهير الشعبية وفي طليعتهم الشباب في المطالبة بتغيير الانظمة السياسية الفاسدة والفاشلة في تحقيق العيش الكريم والحرية والمساواة والامان والعدالة الاجتماعية وخلال الثلاث سنوات الاخيرة بدأت الشرارة من تونس وتبعتها مصر فليبيا واليمن وسوريا وكان التململ الجماهيري واضحا وما يزال في اغلب الدول العربية الاخرى.
لقد عاشت اغلب الحكومات ومن على راسها من حكام مرحلة الانكار لما تطرحه الجماهير من حقائق تخص ما تعانيه اي الجماهير - من ظلم وفساد وحرمانات, وما تطلبه من مطالب بالتقييم واعادة النظر والاصلاح, فما كان من هؤلاء الحكام الا الرفض والتنكر واتهام الجماهير بالخيانة والعمالة للاجنبي, لتبرير حالة الغضب والهيجان والعنف التي قابلت بها المحتجين. وعندما توسعت الحركة الاحتجاجية وبدا التغيير في ميزان القوى حاولت هذه السلطات المساومة بحلول ترقيعية واصلاحية فات اوانها عمليا بالنسبة الى الجماهير فمرت هذه الحكومات بحالة من الياس الى ان تقبلت الامر الواقع اي الحقيقة المرة بالنسبة لها, بعد ان ادركت ان مقاومتها للمد الجماهيري والشعبي لم يعد له فائدة مع تداعيات وعوامل اخرى لعبت دورا كبيرا في كل حالة على حدة.كان موقف الجيش التونسي حاسما في تقبُل بن علي خسارته للسلطة وفي مصر كذلك ولكن بعد حين, اما اصرار القذافي وتمسكه بالسلطة حتى الرمق الاخير, رغم ظهور المؤشرات والعوامل على عدم فائدة المقاومة وخاصة بعد دخول العامل الخارجي في المعادلة الى جانب المحتجين عليه, فكانت النتائج مدمرة على الشعب والبلد وعليه. وهذا ما كاد ان يحدث في اليمن الى ان تقبل علي عبد الله صالح الحالة وبخروج شبه امن, يتربص هو الان للعودة وتتربص به الجماهير المعارضة لحكمه للتخلص منه تماما.
اما في سوريا فلايزال النظام الحاكم في مرحلة الانكار الشديد والغضب رغم ظهور مؤشرات بسيطة لدخوله مرحلة المساومة التكتيكية - لكن هذا الاصرار على الانكار, كلف الشعب والبلد الكثير من الدماء والخراب والتدمير بالاضافة الى العذابات والالام التي يمر بها الملايين من النساء والاطفال والشيوخ والشباب, وكل ذلك كان بسبب عدم القدرة والاستعداد لسماع مطالب الناس والاعتراف بالاخطاء واعادة النظر والمراجعة والاصلاح الذي فات اوانه الان وتداخلت عدة عوامل اقليمية ودولية بما عقدت المشكلة بشكل كبير.ان حالة الانكار السياسي تستدعي من اصحابها التقليل من شان المعارضين او المحتجين واعدادهم, والتضخيم من سلبيات التحركات الجماهيرية والسعي لحرفها, ويشعرون بالاهانة حال تقديم تنازلات او الاستجابة لمطالب الشارع او المحتجين. وهذا ما سلكه الرئيس المعزول محمد مرسي وجماعته خلال سنة من حكمه في مصر, الى ان فرضت الحقيقة المرة وغير المرغوب بسماعها او التصديق بها من قبل الجماعة, حتى هذه اللحظة ورغم عزله من الحكم حيث اصبح من الماضي, لقد خرجت الملايين العديدة لاكثر من مرة منذ 30 حزيران ترفض نهجهم, الا ان حالة الانكار والاصرار عليها التي يعيشها الاخوان ورفضهم لارادة الجماهير ستؤدي الى عرقلة خارطة الطريق لتصحيح الاوضاع والسير بمصر الى بر الامان. ان حالة الانكار للحقيقة (رفض عموم الشعب لحكم الاخوان) ومعطيات الواقع الدامغة نحو ذلك, لا يمثل الا تجسيداً صارخاً, للتمسك بالمصالح الطبقية, والرؤية الايديولوجية للجماعة, التي تربط ذلك بحماية الدين والمعتقدات والدفاع عنها, اي اللجوء الى الاعذار والتبريرات المفتعلة بل الايهام والكذب بعبارة اوضح لتحقيق او فرض اهدافها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
دبلوم عالي في العلوم السياسية/ القاهرة