المنبرالحر

الحراك .. احد قوانين التغيير / صلاح وهابي*

كتابة موضوع عن الحراك الجماهيري، أوقدت ذاكرتي وأرجعتني لليلة الخميس العاشرة قبل سقوط صدام حسين، فتفاصيلها لا تزال طرية رغم تراكم غبار الزمن الثقيل، يوم كنا شلة من الأصدقاء مختلفي المشارب، اعتدنا الجلوس في محل احد الاصدقاء من كل ليلة خميس، و حينما نلتقي تنهزم ملائكة اكتافنا مما يتصاعد من ابخرة و جرأة في اجواء الجلسة، و يثمل الشرطي الملازم لنا ليلا ونهارا حينما يصحو صباحاً ينسى ما قلناه، فتتساوى دواخلنا مع خوارجنا رغم المحظور، وكان الهم العام يتقدم كل همومنا.
في تلك الليلة، طرح احد الزملاء المحسوبين على البعثيين وهو شاعر و صحفي سؤالاً ملغوماً: من سيحل بعد سقوط صدام حسين؟ عقبتُ: الاتجاهات الدينية/القومية، وكان يلمح من طرف خفي ايهما أفضل: نظام صدام العلماني ام تلك؟!. فهو يجهل او يتجاهل انها مرحلة متقدمة رغم تعقيداتها وصعوبتها، فتتكشف عوراتها لتؤسس لمرحلة جديدة. وهذا ما نشاهده من حراك مجتمعي في ساحة التحرير تحرسه بانوراما جواد سليم لتمتد الى بقية المدن العراقية و قصبانها.
فالحراك الجماهيري شكل من اشكال الصراع يقرب الحالة من حلقاتها الاخيرة، فمولود الحراك السلمي اكثر صحة و ديمومة و نماءً و انسجاماً مع طبيعة البشر، فلم نجد مجتمعا على وجه البسيطة غادرته الحركة وهو قائم، فالحراك صفة ملازمة للبشر والفكر والطبيعة. و تذهب فيروز الى ابعد من هذا حين تغرد (وانين الناي يبقى بعدما يفنى الوجود).
و لهذا تختلف المجتمعات تطوراً ونماءً بإختلاف درجة وسرعة حركته، وحينما تتناغم حركة السلطة مع رنة حركة نواميس المجتمع يُخلق مجتمع الرفاه والسعادة والعكس صحيح. وهذا ما نشاهده في الحراك الجماهيري لاعادة صياغة المعادلة من جديد.
فالحراك الجماهيري يحدد بقاءه وتحقيق أهدافه عوامل شتى في مقدمتها ديمومته ومطاولته على الاستمرار لحسم الصراع، بإشراك كل الحريصين على مستقبلهم و مستقبل أبنائهم ومجتمعهم من كل الطوائف والأديان والقوميات، لبناء مجتمع مدني يتساوى فيه الجميع، ولا يتم هذا إلا بالابتعاد عن ترديد (شعلية، ميفيد، منغير، وأخاف) هذا ما يريده الآخر ويراهن عليه.
بهذه الطريقة سنعطل الصراع او على الأقل، سنؤجل حلقاته الأخيرة الى اجل غير مسمى، لان التغيير يستند الى مقومات واقعية قوامها الانسان الفاعل والمتحرك، ولا يحدث هذا بالدعاء ورجم الغيب واللطم على الصدور بنبش الماضي ورجم الشيطان وندب حظنا بل بأخذ العصا من يد موسى لنهش بها هذه الاغنام التي تحولت الى ديناصورات بقدرة قادر، و سوقها الى محاكم تفتيش عادلة، و لنشق البحر لنعبر الى الشاطئ الآمن.
يذكر مسؤول الامن صادق الحسيني: ان اكثر من 30 ميليشيا مسلحة تجول في العاصمة بغداد، ولديها مقرات معروفة وتسيطر على مناطق بأكملها وتنصب حواجز تفتيش وهمية للخطف بدوافع سياسية او طائفية، وما اختطاف وكيل وزير العدل وجلال الشحماني وعشرات غيرهما إلا محاولة لضرب اخر محاولة لإصلاح العملية السياسية. وقال ضابط رفيع المستوى في وزارة الداخلية: ان ملاحقة ميليشيات وعصابات الخطف في بغداد وبقية المدن العراقية، تفوق قدرة اي ضابط في الجيش والشرطة خشية التصفية الجسدية، وهي تلقى دعما من أحزاب وكتل سياسية كبيرة في الحكومة، والأخطر انها مدعومة من جهات خارجية، وكل من يعترض على نهجها وتصرفاتها يواجه القتل، وان رئيس الوزراء حيدر العبادي غير قادر على ردع تلك المليشيات، أو في الأقل الحد من نفوذها في الشارع، وحصر السلاح بيد الدولة. (وفي عنوان اخر بغداد تسجل يومياً 6 حالات خطف. جريدة طريق الشعب العدد 29 السنة 81 / 29 ايلول 2015).
فهكذا حكومة ملغومة بكل هذه المليشيات، هي غير قادرة على تنفيذ كل ما وعدت به، فإصلاحاتها لم تمس جوهر المشاكل التي تعانيها الجماهير التي بحّ صوتها في ساحة التحرير (خبز.. حرية.. دولة مدنية... عدالة اجتماعية) والعلة ليس في تغيير رئيس الوزراء بقدر ما العلة في بنائها الفكري الطائفي / الاثني، فبدون تغيير هذا البناء سيبقى المواطن مراهنا على حصان خاسر.
ازاء ذلك يتطلب وقفة من كل المؤمنين بالتغيير والحياة المدنية، على ان يتقدمهم المثقفون والاكاديميون رافعين مشاعل تضيء الطريق للجماهير، لأنهم لسان حال الأمة.
كان الفرح كبيراً حين التقينا بالكاتب والناشط المدني واحد منسقي الحراك الجماهيري احمد عبد الحسين فهو شعلة من النشاط والإيمان بالتغيير، برشاقته التي تعكس رشاقة قلمه وسلوكه، ومن بعيد لاحظنا وزير العلوم والتكنولوجيا السابق رائد فهمي وهو يشارك في الحراك دون حمايات، والناشط المدني احمد الأبيض ود.كاظم المقدادي والشاعر والصحفي إبراهيم الخياط والكاتب سعد محمد رحيم، و مئات غيرهم لا نعرفهم.. إلا ان أعدادهم لا تتناسب وضخامة كتلتهم، فبعضهم يتخندق خلف ستار الحياد والموضوعية المهلهلة، والخوف من ان تثلم نرجسيتهم وامتيازاتهم والبقاء على ياقاتهم بيضاء وخوفهم المرضي من المقابل، يمنعهم من المشاركة حتى بأقلامهم واختصاصاتهم، مفضلين حياة الدعة الهشة على العطاء الحقيقي حتى في مهنيتهم لتضخم الأنا لديهم، فهم يريدونها ان تلد من غيرهم ليسرعوا لإدعاء أبوتها أو على الأقل البقاء على امتيازاتهم، وهؤلاء بعيدون عن الاصطلاح الذي أطلقه الفيلسوف الايطالي غرامشي (المثقف العضوي) الذي يعجن همه بهموم ناسه دون ترفع.
أحس بالفرح يتراقص داخلي فأنسى تعبي لأرى طفلة موشحة بالعلم العراقي متسلقة كتف ابيها وعيناها ترنوان للبعيد، ويمتزج فرحي ببكائي لشيخ من ذوي الحاجات الخاصة يدفعه ابنه ليدور في الساحة، وهي اكثر انتاجاً وعطاءً وتغيراً من اية دائرة أخرى، هو يحدق في العيون ولقد قرأت في عينيه قوله: أين البقية والاخرون من الاصحاء؟ ورأيت شبابا وشابات يدبكون ويهتفون على انغام الموسيقى.. عراق ... عراق، وخجلي منعني من تقبيل هذه الطاقات الشابة التي بدأت بتنظيف الساحة من أكياس النايلون، بعد انتهاء المهرجان، والتي عجزت أمانة بغداد من وضع حاويات للنفايات في أهم ساحة من ساحات بغداد؟!. فتصاعد الامل داخلي وضعف تشاؤمي على امل ان هذه الطاقات الشابة هي من تبني مستقبل العراق الزاهر، هم مَن ينظفون الساحات السياسية من قاذوراتها، ولو بعد حين.
لنزج بأبنائنا في مثل هذه الميادين، في هذا التمرين كي يتعلموا ان الحقوق تنتزع وليس هناك من يقدمها لهم على طبق من ذهب، وهذا التمرين شكل متقدم من أشكال التنشئة الاجتماعية الراقية، فهي منتجة لوعي مؤسس لجيل قادر على التغيير والبناء، حينما يكون همّهم شكلا من أشكال الهم العام، حينها سيكونون أكثر اهلية للحياة العملية والإنسانية الناجحة، ولا داع للخوف عليهم فالخوف الأكبر حينما يكونون خارج الميدان.
ثمة مَن يرمي حجره في الظلمة على الحراك الجماهيري، من ازلام السلطة وغيرهم، بأن الحراك تحركه أياد خفية لإسقاط العملية السياسية بدوران عقارب الساعة الى الوراء!. وهذه تهمة جاهزة من اجل تشويه سمعة الحراك الشعبي. والتاريخ يعج بمثل هكذا تهم، فحكام بني العباس اتهموا الحركات الاجتماعية التي قامت في العصر العباسي الثاني، نتيجة البؤس وسوء الاوضاع وفقدان العدالة الاجتماعية، كثورة الزط والزنج والقرامطة في جنوب العراق، باعتبارها حركات هدامة ضد الدين ولتهديم صرح الخلافة الإسلامية وان عناصر من الغوغاء تحركها، من اجل محاصرتها فكرياً وتشويه مبادئها، وبالتالي ليسهل القضاء عليها. إلا ان هذه الحركات رغم فشلها أنتجت خميرة مهدت لسقوط الدولة العباسية لاحقاً.
ومن يدعي ان الحراك تحركه أيد خفية، هؤلاء اما يجهلون ان الظواهر الاجتماعية بما فيها السياسية، تحركها قوانين موضوعية وذاتية فهي موضوعية عندما تكون خارج ارادة الناس وعندما تصبح الأوضاع مُعطلة للتغيير ولا ينسجم مع حاجات الناس، هنا يدخل العامل البشري في استثمار هذه الظروف ليكون عود ثقاب لإشعال برميل البارود، لتصحيح المعادلة بما ينسجم فيه الذات مع الموضوع بشكل ديالكتيكي، وتدخل العوامل الخارجية كعامل مساعد اما محبطا أو مفعلا للتغيير.
وما الثورات والتغيرات التي قامت في الوطن العربي، والذي اطلق عليه الربيع العربي، كالثورة التي قامت في تونس يوم الجمعة 17 كانون الأول 2010 يوم أضرم محمد بو عزيزي النار في نفسه أمام مقر ولاية سيدي بو زيد، احتجاجاً على منعه من مزاولة عمله ببيع الفواكه والخضار في عربته، كانت الشرارة التي أشعلت البارود الذي اعتمر في صدور التونسيين لسنين عديدة، من سياسة زين العابدين بن علي الغاشمة وقبله، فحدثت الانتفاضة الجماهيرية التي لم يجد زين العابدين من خلاص منها إلا بالهروب من قبضة الجماهير طالباً اللجوء في المملكة العربية السعودية.
و تكررت الأحداث في ليبيا ومصر كل بظروفه، والحبل على الجرار. والاخر من يدير ظهره الى الجماهير مستخفاً بمطاليبهم او يذر الرماد في العيون، مكتفيا بإصلاحات ترقيعية لا تمس حاجات الناس الحقيقية، ولا تستجيب للمتغيرات لأنه يحمل عقلية المؤامرة فيسقط عقليته المريضة المتآمرة على الآخرين، وكل من يقف بوجهه حتى اقرب الناس إليه. ويدعمها موروثنا ... الذي لا يركن الى الأسباب الحقيقة والعلمية لتفسير الظواهر والمتغيرات، وبالتالي يصبح غير قادر على العلاج والإصلاح، وهكذا عقلية تكون غير قادرة ولا مؤهلة لقيادة البلد في مثل هذه المرحلة الصعبة والمعقدة للوصول إلى شاطئ الأمان.
"مقتطفات"
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتب وناشط من ديالى