المنبرالحر

دور دول بريكس في اقامة نظام عالمي متعدد الاقطاب / د. عودت ناجي الحمداني

يشهد العالم تغيرات اقتصادية وسياسية دراماتيكية بسبب استفراد الامبريالية الامريكية بالعالم ومحاولة الهيمنة على مقدراته وفرض سياساتها الرأسمالية عليه , كالخصخصة و اقتصاد السوق و العولمة و التجارة الحرة . وفي محاولة لرسم خارطة العالم بما يخدم مصالحها الاستراتيجية وتوسيع نفوذها تعمل الولايات المتحدة الامريكية على اثارة النزاعات الاقليمية واشعال بؤر التوتر في العالم وزرع العصابات الارهابية كداعش والقاعدة في عدد من البلدان ومن بينها العراق وسوريا ومصر وليبيا وغير ذلك من البلدان الاخرى. فبسبب هيمنة القطب الدولي الاحادي أو ما يسمى بالدولة الامريكية العظمى فقد اصبح العالم امام خيارات صعبة . فالدول الاحتكارية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الامريكية تستغل نفوذها السياسي والمالي من خلال صندوق النقد الدولي وقوانين التجارة الحرة والعولمة لنهب ثروات العالم واخضاعه لنفوذ الرأسمالية المعولمة وتحويل البلدان الاخرى وخاصة البلدان المثقلة بالديون الخارجية الى بلدان تابعة تبعية اقتصادية ومالية لمشيئة البلدان الاحتكارية . وفي ظل هذه الاجواء الدولية المشحونة بشهوة السيطرة والنهب والعنجهية الاستعمارية اعلنت دول بريكس التي تضم روسيا والصين والهند والبرازيل وجنوب افريقيا في قمتها التي عقدت في روسيا عام 2009 مجموعة من المباديء بهدف كسر هيمنة القطب الدولي الاحادي واقامة عالم متعدد الاقطاب في سبيل استعادة التوازن الدولي وتحقيق العدالة والمساواة في العلاقات الدولية.
لقد برزت دول بريكس في الساحة الدولية كتجمع اقتصادي دولي يتألف من مجموعة من البلدان التي تتمتع بأضخم الاقتصاديات الناشئة والصاعدة في التطور والنمو في وقت تعاني فيه المنظومة الرأسمالية الغربية بأكملها من ازمة اقتصادية ومالية واخلاقية حادة . وهي ازمة دورية قاهرة تذكرنا بأزمة الكساد التضخمي التي ضربت النظام الرأسمالي الدولي في الفترة بين عام 1929و1933. ويجمع اغلبية المحللين على ان المستقبل سيكون حليف دول بريكس لما لهذه البلدان من ثقل اقتصادي وسياسي على المستوى الدولي وستكون القطب الدولي المؤهل لاستعادة التوازن الدولي المفقود واقامة عالم ثنائي القطبية . ووفقا لمؤتمر القمة الذي جمع زعماء دول بريكس في روسيا عام 2009 . فان مجموعة بريكس تعمل كمنظمة دولية تشجع التعاون التجاري والثقافي والسياسي بين اعضائها وبين البلدان الاخرى . فبالإضافة الى روسيا والصين والهند والبرازيل وجنوب افريقيا فمن المقرر ان تنضم الى مجموعة بريكس الدولية مجموعة شنغهاي و تقبل انضمام دول اخرى في المستقبل .
ومما يشجع البلدان الاخرى على الانضمام الى دول بريكس فإنها بالإضافة الى كونها تضم اضخم الاقتصاديات الناشئة في العالم فإنها انشأت في عام 2012 بنك التنمية الجديد او ما يعرف ( ببنك بريكس) برأسمال قدره 150 مليار دولار وصندوقا للاحتياطات النقدية برأسمال 100 مليار دولار .
كما ان دول بريكس تشكل 30في المئة من مساحة الكرة الارضية و 42 في المئة من سكان العالم اي ما يعادل 2,83 مليار نسمة من نفوس الكون . ويبلغ اجمالي ناتجها المحلي اكثر من 15,435 تريليون دولار أي بنسبة 14,6في المئة من إجمالي الناتج المحلي العالمي. بالاضافة الى احتياطي نقدي يقدر باكثر من 4 تريليونات من العملات الصعبة . ومن الناحية العسكرية فإن ثلاثة من دول بريكس الخمسة هي دول نووية .
ولأجل كبح جماح اي طموح في الهيمنة المالية أو القرارات في البنك الجديد فقد تم تحديد إسهامات البلدان الخمسة المؤسسة لمجموعة بريكس في رأسمال البنك بنسب محددة على خلاف ما هو سائد في صندوق النقد الدولي في ان الدولة التي تمتلك حصة اكبر في رأسمال الصندوق هي التي تقرر مما جعل الولايات المتحدة الامريكية باعتبارها الدولة التي تملك الحصص الاكبر في رأسمال الصندوق هي التي تهيمن على سياسات صندوق النقد الدولي . ووفقا للاتفاق والتفاهم بين دول بريكس فان الصين تسهم بنحو 41 مليار دولار في رأسمال بنك بريكس وتسهم كل دولة من الدول الاخرى بمبلغ 18 مليار دولار و دولة جنوب افريقيا تسهم ب 5 مليارات دولار . ويفسر الغرض السياسي والاقتصادي لانشاء بنك بريكس في ان يكون هذا البنك الجديد على المدى البعيد مؤسسة مالية دولية موازية لصندوق النقد الدولي لان شروط الاقراض حسب لوائح بنك بريكس خالية من اية تدخلات في شؤون البلدان المقترضة , وان الفوائد على القروض ستكون بفوائد رمزية وهو ما يختلف اختلافا جذريا عن شروط صندوق النقد الدولي الذي يقدم القروض بفوائد متحركة وفقا لحركة اسعار الفائدة في الاسواق المالية . ونتيجة لذلك فمن الممكن ان ترتفع الفائدة من 5 في المئة الى 30 في المئة او اكثر . ومن الشروط الاخرى ان يلتزم البلد المقترض بتطبيق الخصخصة او ما يسمى بالإصلاح الهيكلي التي يضع وصفته صندوق النقد الدولي ويشرف على تنفيذها وتكون الدولة المدينة هي المسؤولة عن الفشل والاخفاق الذي يرافق هذه العملية .
والملاحظ ان اقتصاديات مجموعة بريكس تنمو وتتطور بوتائر سريعة وتتميز باستقرار سياسي واقتصادي معقول وبعيدة عن الازمات المالية والاقتصادية الدورية التي تتعرض لها البلدان الرأسمالية المتقدمة . ومن المقرر ان يبدا بنك بريكس بتقديم القروض المالية في نيسان عام 2016. ونستنتج من ذلك ان بنك بريكس او بنك التنمية الجديد سيكون قوة مالية قادرة على مواجهة الاحتكار الأميركي للاقتصاد العالمي . وقد يساعد صندوق الاحتياطات النقدية الاقتصادات الناشئة في بلدان بريكس على مواجهة موجة الازمات المالية العالمية وتارجح الأسواق الدولية وعدم استقرارها . وفي هذا الخصوص اقترحت روسيا تأسيس منتدى للطاقة وبنك احتياطي للوقود ومعهد لسياسات الطاقة لغرض تعزيز أمن الطاقة لدول بريكس الخمسة .
ان الاسباب التي دفعت دول بريكس الى انشاء صندوق التنمية الجديد كمؤسسه مالية بموازاة صندوق النقد الدولي هي فشل جهودها في تحقيق الاصلاحات الضرورية في لولئح صندوق النقد الدولي . فصندوق النقد الدولي منذ تأسيسه في عام 1944 يعمل كأداة لترويج وتنفيذ برامج وسياسات البلدان الاحتكارية وان القرارات الاساسية التي تتخذ في صندوق النقد الدولي تتم بطريقة التصويت المرجح. والتصويت المرجح يعني ان البلدان التي تمتلك حصصا اكثر في رأسمال الصندوق هي التي تقرر واما بقية الدول الاعضاء وهي الاكثرية المطلقة فلا قيمة لأصواتها . اي ان الدول الخمسة الاعضاء الدائميين في صندوق النقد الدولي وهم الولايات المتحدة الامريكية والمملكة المتحدة واليابان والمانيا وايطاليا هي التي تقرر سياسات صندوق النقد الدولي . وبذلك فان هذه الطريقة الغريبة تتناقض تناقضا صارخا مع مبدأ الديمقراطية الذي طالما تباهت وطالبت بها الانظمة الرأسمالية الطفيلية التي بنت حضاراتها على حساب البلدان النامية ونهب ثرواتها ومواردها خلال الحقبة الاستعمارية .
ومنذ الاعلان عن انشاء صندوق النقد الدولي في عام 1944 وولادة البنك الدولي للانشاء والاعمار في عام 1945 فان هاتين المؤسستين تخضعان خضوعا تاما للسياسة الامريكية وحلفائها من البلدان الاحتكارية . وبذلك اصبح منح القروض والتسهيلات المالية في صندوق النقد الدولي يتم وفقا للمعايير السياسية والموالاة للبلدان الغربية وبذلك فان سياسة الاقراض الدولي ليست سياسة محايدة وليست لمساعدة البلدان النامية مثلما يدعي صندوق النقد الدولي . (فشعار صندوق النقد الدولي لا توجد وجبة مجانية ) ولهذا فان معظم القروض المالية التي تم منحها من قبل صندوق النقد الدولي ذهبت الى البلدان التي تحكمها انظمة دموية وفاشية كنظام بينوشيت في تشيلي في حقبة السبعينات وللانظمة الدكتاتورية في البلدان الإفريقية والأسيوية بسبب موالاتها الأنظمة الغربية . وقد رفض صندوق النقد الدولي في فترة الستينات طلب جمهورية مصر العربية بمنحها قروضا لتمويل مشروعات السد العالي بسبب علاقات الصداقة القائمة بين مصر والاتحاد السوفيتي في تلك الفترة . ومما يؤكد انحياز صندوق النقد الدولي وخضوعه التام للسياسة الأمريكية وكيله بمكيالين اقدام الصندوق في عام 2015 . على منح أوكرانيا التي تحمكها القوى الفاشية قرضا بقيمة 13 مليار دولار . و لكن صندوق النقد الدولي رفض في الفترة نفسها ولأسباب سياسة بحته طلب مصر العربية قرضا بقيمة 5 مليارات دولار. ومن الاسباب الاخرى لانشاء بنك بريكس اعتراض دول بريكس على استخدام اموال صندوق النقد الدولي لحل الازمة المالية لبلدان اليورو . فقد منح الصندوق خلال الفترة بين عامي 2011 و2012 قروضا مالية لليونان والبرتغال وايرلندا بلغت 64,18 مليار دولار . 23,5 مليار دولار لليونان و22,9 مليار دولار للبرتغال و19,4 مليار دولار لايرلندا . ومقابل هذا السخاء فان صندوق النقد الدولي يرفض تمويل مشروعات مهمة في بلدان نامية في اسيا وامريكا اللاتينية وهي في أمس الحاجة الى التمويل المالي .
هدف مجموعة بريكس
الهدف الرئيس الذي ترمي الى تحقيقه دول بريكس منذ اعلان تكتلها الاقتصادي الدولي تعزيز دورها في ادارة الاقتصاد العالمي و تحقيق الاصلاحات الضرورية في مؤسسة التوأمين المشؤومين صندوق النقد والبنك الدوليين . ومن التحديات الكبيرة التي تواجه دول بريكس مهمة تعزيز التعاون بين اعضائها على المستويات الاقتصادية والمالية والتجارية واصدار عملة جديدة تستعيض بها عن الدولار الامريكي في تعاملاتها التجارية الخارجية . ومن القضايا الدولية التي تطرح نفسها بقوة امام دول بريكس قضية الارهاب ومشاكل الطاقة والازمة المالية العالمية التي تؤثر بشكل او باخر على تعاملاتها المالية وكذلك ازمة الديون الخارجية التي تعمل البلدان الرأسمالية المتقدمة ومؤسساتها المالية الدولية الدائنة على ادامتها واستخدام الديون الخارجية كهراوة لتهديد البلدان التي تخرج عن الطاعة الامريكية .
ومن الجانب الاخر فان ارصدة بريكس الضخمة من الاصول والعملات الاجنبية تجعلها قوة اقتصادية ومالية ضخمة تفرض نفسها في الساحة الدولية في الوقت الذي تعاني فيه اكثرية البلدان الرأسمالية المتطورة من عجوزات مالية كبيرة في ميزانياتها وموازين مدفوعاتها كما تعاني البلدان الاحتكارية ايضا من مشاكل ديونها الخارجية التي بلغت ارقاما فلكية مخيفة فالديون الخارجية للولايات المتحدة الامريكية وهي الدولة الاقوى اقتصاديا في العالم تجاوزت 14,900 تريليون دولار في نهاية عام 2008. والدين الخارجي لكل من فرنسا وايطاليا بلغ 600 , 1 و 1,800 تريليون يورو على التوالي . وما زالت الازمة المالية الطاحنة تهدد بانهيار اليونان وخروجه من منطقة اليورو وتهدد بانهيار ايطاليا والبرتغال وخروجهما من بلدان اليورو التي تتعرض الى موجات كبيرة من الافلاس المالي والانهيارات الاقتصادية. ويعتقد بعض الخبراء أن دول بريكس بانشائها بنك بريكس الجديد وصندوق الاحتياطيات النقدية سيوف يوفر امكانية كبيرة لروسيا في ان تتجاوز العقوبات الاقتصادية التي اتخذتها بحقها البلدان الغربية الاحتكارية وسوف تتمكن من انجاز بعض مشاريعها الاقتصادية بدون الحاجة الى المؤسسات المالية الدولية ( صندوق النقد والبنك الدوليين). ومن المؤكد ان العقوبات التي فرضتها البلدان الغربية على روسيا ستؤدي الى تكبيد البلدان الاوربية الغربية نفسها خسائر مالية كبيرة اذ ان لهذه البلدان الاف الشركات والاستثمارات الضخمة المستثمرة في روسيا وفي بلدان بريكس الاخرى .
وعليه فان بلدان بريكس التي تمثل اضخم الاقتصاديات الصاعدة تلتقي اهدافها ومصالحها مع مصالح واهداف اكثرية بلدان العالم في اقامة نظام دولي جديد بديل عن النظام الدولي القائم على احادية القطب الواحد . فالنظام الدولي الحالي هو المسؤول الاول عن افقار البلدان النامية ونهب ثرواتها وهو المسؤول عن تأجيج الصراعات واشعال بؤر التوتر الاقليمية والدولية . ونستنتج من ذلك ان انشاء بنك بريكس للتنمية هو خطوة مهمة في عملية الانتقال من النظام العالمي أحادي القطبية الذي يسعى الى السيطرة على العالم إلى عالم ديمقراطي متعدد الأقطاب على اساس المصالح والمنافع المتكافئة وعدم التدخل في شؤون البلدان الاخرى.