المنبرالحر

العقلانية العربية والتحول التاريخي / عبدالرزَّاق صالح

يقول ماركس: «الوجود الاجتماعي يحدد الوعي الاجتماعي، وتحدد الشروط القاعدية البُنى الفوقية» أي أنَّ البُنية السياسية والاجتماعية لأمة ما تقرر طبائع الناس لمصلحة أذواق ومعتقدات بعينها، ثُمَّ تزدهر هذه المعتقدات والغيبيات والأذواق على مرِّ السنين في مجتمعٍ بعينهِ، محافظة (وأُشدد على كلمة محافظة) على سلوكيات معينة تزدهر في ظلِّ ذلك الوعي الذي تقرر مُسبقاً من قبلِ فئات معينة، تحافظ على ذلك الوضع والسلوك لغايات معينة، تخدم في نهاية المطاف مصالحها الذاتية غير عابئة للوضع العام أو مصلحة الأفراد بشكلِّ عام، ومن خلال ذلك التراكم البدائي للمعتقدات والمفاهيم والسلوكيات والأذواق تسود حالة سكونية ـــ محافظة، ذات طابع ثابت غير قابلة مع مرور الوقت للتحول نحو مفاهيم جديدة، كي تقود الفرد نحو الأفضل، هذه السكونية والثبات هما الطابع الذي يغلف الفكر السَّلفي والعقائد الجامدة على نفسها، حيث تكبر هذه القوقعة مع مرور الوقت وتصبح صنمية ودكتاتورية وفردية وغيرها من الصفات الانعزالية التي تؤدي الغرض نفسه، ويبقى السؤال: كيف نُحَكْمُ العقل في الدعوة الضمنية، لتحكيم القوة الأقرب للصواب من الخطأ ضمن ذلك الإطار؟ يجب علينا في هذه الحالة مقارعة الرأي بالرأي، وعرض العقل الواحد على سائر العقول، إذْ بهذه الطريقة يكون الأنصاف في مسائل الخلاف ،حتّى نصل إلى لبِّ المسألة الصواب، آخذين بنظر الاعتبار قانون السببية (العلة والمعلول) ، مهتدين بقانون التطور، والجدل الموضوعي، وليس البيزنطي، لأنَّ الآراء نسبية في نهاية المطاف، ولا يوجد أطلاق في تلك المسائل، أيّ لا يوجد رأي مطلق بحكم التطور الموضوعي،والجدل الدائر، الآراء نسبية غير مطلقة» وفي هذا القول تبدو العلاقة بين المتخاطبينِ ـــ مَنْ كان محقاً منهم ومَنْ كان على خطأ، ومَنْ كان مُدعياً ومَنْ كان معترضاً ـــــ قائمة على معادلة ثنائية التركيب، دائرية المسار، يكوّنها رأيان: رأي صحيح يحتمل الخطأ ورأي خاطئ يحتمل الصواب.» وكما قال الشافعي في هذا الصدد:» رأيي خطأ يحتمل الصواب ورأي غيري صواب يحتمل الخطأ.»وهذا رأي جدلي وصحيح في ظروف معينة، يكون فيها الجدل يدور حول مفاهيم عن الأذواق والسلوكيات والغيبيات! وليس عن مسائل علمية، والتي قد أثبتت النظرية صحتها، هذا هو الفرق بين المسألتين اللتين نتحدث عنهما هنا، ولكنْ يبقى قول الشافعي يشتمل على سحر البيان، خاصة في المسائل الفقهية ، وعلم الكلام.علماً بأنَّهُ كان تلميذ الإمام الصادق(ع).
من هذا المنطلق تتكون حوارية بين الذات والموضوع، يحكمها في هذا المجال عقلٌ راجح يقيس الأمور وفق تراتبية معينة تهدف في النهاية إلى حلِّ الإشكالية المطروحة على بساط البحث ، وهذا يقودنا إلى جواب السؤال الذي طرحناهُ آنفاً في كيفية تحكيم العقل من أجل الوصول إلى رأي سديد وواضح ضمن ذلك المجال، حتّى بلوغ المراد، أو الهدف المنشود، ضمن وجه نظر موضوعية، آخذةً بالحسبان كافة الظروف الموضوعية في الزمان والمكان المحددين ، وفق هذا التصنيف للعلائق المتواشجة والمتداخلة في سياقات اجتماعية ـــ اقتصادية، داخل أي تركيبة مجتمعية أو طبقية، فالحكم على قيمة الآراء أو صحتها تأتي من خلال طرحها في قالب سايكلوجية الفرد الحائزة على الصواب، والمائزة عن أي نوع آخر من الأطروحات، تبقى القيمة البنائية للرأي واضحة ضمن سياقات البُنى التي تحدث عنها ماركس، لكنَّها لا تبقى استاتيكية، جامدة، بل تتطور وفق معاير القيمة الجديدة في الطرح والبناء من أجل الوصول إلى الغاية المنشودة، وفي هذا الصدد نحتاج إلى رصانة في طرح المفاهيم، والتسلح بثقافة علمية رصينة، وفكر علمي يبلور مصداقية المسألة المطروحة ، حتّى نكون واثقين من صواب الرأي، وبخلافه نبقى ندور في فلك النقاش البيزنطي الذي لا يرسو بنا إلى برِّ الأمان، ندور في حلقة مُفرغة، ونجتر الأقوال الماضية، وفق ضبابية المعنى والغموض و إيهام القارئ بمدى المعرفة التي نمتلكها! بدلاً من توضيح الفكرة التي يجب أنْ تصل إلى ذهن القارئ بسلاسة وبساطة،حتّى يفهم ما نقول.وهذا يعتمد على مقدار الوعي الذي يمتلكهُ الكاتب، ونوعية ذلك الوعي، إذْ أنَّ الكمية غير كافية لوحدها، ولكنَّ الكم المعرفي يحتاج إلى نوعية معرفية مُحددة (كيفية)، وفي الوقت نفسه صائبة من أجل تشكيل حكم صائب لأي مسألة مطروحة،خاصة في سوسيولوجيا المعرفة البشرية أو التاريخية، فالثقافة والمران والاتزان والتأني تؤدي كُلها إلى الأمور المُحْكَمَةِ والرصينة من أجل تشيد عمارة البناء الفكري في خطاب تأصيل مشروع عقلاني عربي،تسود في ذلك الخطاب العقلانية الرشيدة المتزنة، طابعها الجدل، ومنهجها النقد الموضوعي، وقراءة التراث بعيون ثاقبة ، وعقول راجحة، آخذين في الاعتبار قانون البيئة ،مستهدين بالفكر الفلسفي النير والآراء العلمية الصائبة، وكذلك التفحص الدقيق في قراءة التاريخ العربي ـــ الإسلامي، من منظور التعددية في الآراء ، وليس قراءة أحادية غير قابلة للناقش أو النقد والحوار والجدل!أنَّ التحلي بروح ديمقراطية ، سليمة في النقاش والمحاورة هي التي تقودنا إلى فهم الغامض والمخفي، وكذلك الجانب المضيء من تراثنا العربي الأصيل، حتّى نكون تحت ظِلال وارفة من الوعي والمعرفة.