المنبرالحر

خضير ميري.. جسد غائب وفكر حاضر / طه رشيد

لم أشعر بخسارة لفقدان صديق كما شعرت لغياب خضير ميري الذي وقع غيابه على رأسي كالصاعقة.. خاصة وإني غادرت بغداد قبل يوم من غيابه ولم يسنح لي الحظ لأرفعه على كتفي كما وضعته دائما في قلبي.. تعرفت عليه بعد عودتي الى العراق وسرعان ما توطدت علاقتنا مبنية على الاهتمام بالأدب والصحافة والفلسفة وتنشيط الواقع الثقافي، بإمكاناتنا المتواضعة، وخاصة بين الشباب.. وكان آخر المشاريع المشتركة قبل رحيله باسبوع هو إقامة اماس شعرية اسبوعية للشباب الذين لم تسنح لهم فرصة الصعود الى منصة شعرية وذلك في منتدى بيتنا الثقافي الكائن في ساحة الاندلس.. قبل ذلك دعاني الى الكتابة في الصحف التي يكتب فيها مثل الدستور ..كما تم الاتفاق معه على الكتابة بشكل متواصل في طريق الشعب لكن مرضه اعاقه عن التواصل.
حين سقط مريضا، تمت مناشدة المسؤولين من قبل عدد كبير من الاصدقاء من اجل انقاذه ولكن هل تستطيع أن تسمع من به صمم؟! (لا بد من الإشارة هنا إلى المساعدة المالية التي قدمها لها، مشكورا، وزير الثقافة فرياد رواندزي من خلال الطلب الذي قدمته نقابة الفنانين بهذا الشأن).
لقد دخل خضير ميري عالم الكتابة بشكل مبكر ومنذ مطلع الثمانينيات.. وتطورت اداته ( بعد ادعائه الجنون للتخلص من عقوبة اعدام محققة ايام النظام السابق وادخاله مستشفى المجانين) حتى كتب العديد من الكتب عن تلك التجربة، بين شعر ومسرح ورواية ودراسات فلسفية، صارت تلك الكتابات وما زالت مدار حديث واهتمام العراقيين والعرب على حد سواء. انصرف بشكل مبكر للفلسفة وصارت قضية الجنون والفلسفة شغله الشاغل .. قال لي مرة انه كان يختلق هلوسات خاصة به ليثبت للمعنيين أنه مجنون فعلا . لكنه في المحصلة النهائية يتفاخر أنه العراقي الوحيد، بين صفوفنا، الذي يحمل شهادة من المستشفى تثبت وتقر بأنه عاقل!
كان يتحدث كثيرا في جلساتنا الخاصة ..لكن حديثه لم يكن مملا يوما ما. كنا في جلسات اتحاد الأدباء الليلية نصغي له حيث يستدرجنا بقفشاته المجنونة وبصوته المحبب، الى المواضيع التي يرغب الحديث فيها والتي لا تبتعد كثيرا عن الفلسفة وعلم النفس والمنطق والجنون.. سألنا مرة ان كنا نعرف الفرق بين النملة والانسان. عرفنا أن لديه ما يقوله من جديد في تلك الليلة، فأصغينا له : النملة لا تدرك، ليس لها عقل مثل الإنسان وهي لا تعرف أنها ستموت في لحظة ما ولذا تراها تبذل قصارى جهدها في تأمين لقمة العيش لها ولإصحابها، وأحيانا تختبر الطريق الذي تسلكه فإن كان ثمة خطر ترجع مسرعة وتهمس في اذان أصحابها واحدا واحدا كي يتوقفوا عن المضي في الطريق الخطر!
والانسان؟ سألناه:
« الإنسان رغم أن له عقل مركب ويعي انه سيموت آجلا أو عاجلا بعكس النملة إلا أنه مصر على تدمير الحياة والطبيعة من خلال شن حروب يكون العدو فيها احيانا من أبناء جلدته.
في لحظة ما يشاطر الانسان النملة في عدم إدراكها للموت إلا أنه يفعل عكسها فبينما هي تبني، تراه يهدم كل ما حوله .. إنه مسكون بالخراب وبالجنون! «
لقد خسرنا برحيل خضير ميري موهبة متنوعة ومتعددة من الصعب أن تعوض في زمن لا يفقه فيه البعض بأن الحصول على عالم أفضل لا يأتي إلا بتجنب الحروب التي لا تكون نتائجها إلا كارثة على هذا الطرف أو ذاك!
نم قرير العين صديقي سنقف ضد كل الحروب طائفية كانت أم أثنية! وسنواصل مشروعك مع الشباب على حب الوطن والشعر والكلمة الملتزمة الواعية.