المنبرالحر

في خدمة المدينة وأهلها / عبد السادة البصري

بالأمس كنت مع عدد من الأصدقاء نستذكر البيوتات القديمة ورجالاتها . تحدثنا عن الشناشيل والبيوت التراثية ومَن بناها وكيفية بنائها ، كما أخذنا الحديث إلى المدارس والمكتبات والمستشفيات وما إلى ذلك.
قال أحدنا : أتعرفون هذا المبنى الذي نجلس فيه الآن ؟! إن بناءه يرجع إلى أكثر من نصف قرن وان سقفه بُني بطريقة هندسية لا تحتاج إلى حديد ( شيلمان) بل على شكل قبة تضفي جمالا آخر لجماليات البناء ، وقد بنيت على يد ( أسطى ) ماهر لا يعرف القراءة والكتابة ، فهو مهندس معماري بالفطرة . كما بنى ( الأسطى إبراهيم )إعدادية البصرة المركزية في عشرينات القرن الماضي بعد أن تبرع بأرضها وكلفة بنائها أحد الميسورين خدمة لمدينته وأبنائها.
فأجبته إن بناية (قبة الموانئ) أيضا بناها (الأسطى إبراهيم) إضافة إلى بنائه جوامع وبيوت ذات طابع فريد بتصميمها.
وذكر صاحبي أن أحد الميسورين تبرع بقطعة أرض كي يُبنى عليها أول مستشفى في البصرة والذي سُميَ ( مستشفى مود) ثم تغير الاسم إلى ( مستشفى الملك فيصل ) وبعد ثورة 1958 سُمي ( المستشفى الجمهوري). ولنذكر هنا إن الزعيم عبد الكريم قاسم كان قد تبرع ببيته القديم في الصويرة لتبنى عليه مدرسة ثم أخذنا الحديث إلى مكتبة ( النجاة الأهلية ) في الزبير التي تبرع بقطعة الأرض وتكاليف بنائها احد الميسورين أيضاً.
كل هذا يدل على إن الميسورين ورجال الأعمال كانوا يعشقون مدينتهم ويشعرون بعمق الانتماء لها ، فيقدمون الخدمات لأبناء شعبهم بلا مقابل، ما جعلهم يسكنون الذاكرة ويكونون مواضيع للحكايات الجميلة ومضرباً للأمثال في الانتماء والمحبة.
اليوم ونحن نستذكر أولئك الرجال نتحسر كثيراً لأننا نشاهد الميسورين ورجال الأعمال وأصحاب الشركات وهم يستولون على الأراضي لا لشيء سوى أن يبنوا عليها قصورهم وفنادقهم ومدارسهم الأهلية طبعا ، والتي تدر عليهم أرباحاً هائلة. متناسين أن المدينة وناسها بحاجة إلى خدماتهم ورؤوس أموالهم . فبدلاً من استثمارها هنا وهناك بعيدا عن الناس والمدينة، عليهم أن يلتفتوا إلى مدينتهم وأبنائها ويعرفوا ما الذي يتوجب عليهم أن يقدموه للناس من خدمة يظل صداها يرن في ذاكرة الأجيال.
خدمة المدينة وأهلها والوطن وابنائه هو الانتماء الحقيقي للناس والأرض في كل زمان ومكان, لا يقدر عليه إلا مَن كانت جذوره راسخة رسوخاً قوياً في الأرض وقلبه ينبض محبةً وعشقاً للمدينة والوطن والشعب ، ويدرك أن التاريخ يسجل كل شيء صالحاً كان أم طالحاً!