المنبرالحر

التطور التاريخي لمفهوم " الديمقراطية " في الحزب الشيوعي العراقي / فرحان قاسم

رسم الحزب الشيوعي العراقي ستراتيجيته استنادا الى المنهج الماركسي، منطلقا من الخصائص الوطنية والقومية في العراق، واعتمدت ستراتيجيته على ثلاثة اسس متراتبطة مع بعضها : التحرر من التبعية الكولونيالية واستعادة السيادة والاستقلال، والكفاح من اجل الديمقراطية، والقضاء على التخلف الاقتصادي والاجتماعي .
ان التخلف الذي طبع الاقتصاد العراقي قبل ثورة الرابع عشر من تموز نابع من سببين اساسيين: الاول هو الاستخدام غير العقلاني والضعيف للموارد البشرية والثروات الطبيعية، والثاني هو ابقاء هذا الواقع على حاله من قبل قوى غير اقتصادية – التبعية الخارجية والعلاقات الاجتماعية شبه الإقطاعية. اذ اكد " فهد " مؤسس الحزب الشيوعي العراقي على ان العوامل التي عملت على عرقلة تصنيع بلادنا هي ذاتها المسؤولة عن تاخرنا الزراعي وهي نهب الشركات الاجنبية ثروات العراق بشكل وحشي فظ، وفرض اسعارها الاحتكارية على اثمان المنتجات ووسائل النقل البحري، والعلاقات الاقطاعية وعلاقات ما قبل عصر الاقطاع . ولغرض تحقيق اهدافه ارتكز الحزب على ثلاثة اشكال مجربة للكفاح وهي الكفاح السياسي والاقتصادي والفكري.
ورد مفهوم الديمقراطية في وثائق الحزب في ثلاثة جوانب : الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية والديمقراطية الحزبية ( الديمقراطية داخل الحزب ) . ولا يمكن الفصل بين تطورمفهوم الديمقراطية تاريخيا وبين الجذور التي نبعت منها ستراتيجية الحزب .
اولا : الديمقراطية السياسية
اعتبر" فهد " النضال الديمقراطي "هو الطريق والسلاح الاول لبلوغ اهداف الحزب من خلال النضال الجمعي لمصلحة الجميع"، وربط الحزب بين الديمقراطية السياسية والكفاح السياسي في مرحلة التحرر الوطني من خلال العلاقة في النضال بين مهمات انهاء الاحتلال الاجنبي واستعادة السيادة والاستقلال وبين النضال من اجل " حكومة تعمل لمصلحة الشعب وجهاز حكومي ديمقراطي لائق ونظام ديمقراطي صحيح " كما جاء في " الميثاق الوطني " الذي اقره مؤتمر الحزب الشيوعي الاول عام 1945 .
من خلال وثائق الحزب نلاحظ ان تكتيكات وشعارات الحزب تطورت وفق عوامل موضوعية - اقتصادية واجتماعية ومستوى القمع والانفراج الذي تتعامل به السلطة مع الحزب والجماهير – وعوامل ذاتية تتعلق بامكانيات الحزب والحركة الوطنية في التحرك على مختلف الاصعدة . ففي عام 1935 حيث كان الحزب في بدايات تاسيسه وشوكة السلطه كانت قوية بسبب الموقف الضعيف والانتهازي من قبل الاحزاب " الوطنية المعارضة " التي حلت نفسها قبيل معاهدة 1930 وكيفت نفسها مع السلطة بعد المعاهدة، وانهاء الانتداب " شكليا "، طرحت اول صحيفة سرية للحزب " كفاح الشعب " شعاراتها التي تجسد اهداف الشعب ومرحلة التحرر الوطني في حقل الديمقراطية السياسية في تلك الفترة " الحريات الديمقراطية، حل مجلس النواب، اجراء انتخابات عامة في ظل الحريات السياسية " . بينما نجد الحزب في نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 يطرح سقفا اعلى بكثير من مطالبه السابقة بسبب الانتصارات الكبرى التي حققها الاتحاد السوفييتي وحركات الانصار في اوربا الشرقية وتشكل حلف وارشو وتعزيز قوى اليسار والحركة الشيوعية في العالم بضمنها الحزب الشيوعي العراقي وتطور الحركة الوطنية واحزابها، ونمو الحركة الجماهيرية وخصوصا حركة الطبقة العاملة والحركة الطلابية وانعكاس تلك الاجواء على الانفراج في الحياة السياسية في العراق، كل ذلك انعكس في "ميثاق العمل الوطني " الذي تضمن الجانب السياسي منه ما ياتي " نناضل لايجاد حكومة تعمل لمصلحة الشعب وجهاز حكومي لائق ونظام ديمقراطي صحيح، وبرلمان ومجالس بلدية ينتخبها الشعب وتمثله حقا واعادة الدستور العراقي اي تطبيق بنوده المحبوسة المتعلقة بحقوق الشعب الديمقراطية وازالة القوانين والمراسيم والتعديلات التي لا تتفق وروح الدستور . ونناضل في سبيل ايجاد مساواة حقيقية في الحقوق للكرد مع مراعاة حقوق الجماعات القومية والجنسية الضغيرة " . وبعد تعرض الحزب والحركة الوطنية والمنظمات الجماهيرية والديمقراطية الى انتكاسات متعددة منذ عام 1948 وما بعدها بسبب القمع والاجراءات التعسفية والاعدامات والسجن والملاحقة، طور الحزب من تكتيكاته وشعاراته بعد الكونفرنس الثاني للحزب عام 1956 سواء في تعزيز وحدة الحزب او التوجه لعقد جبهة الاتحاد الوطني وتوطيد العلاقة مع منظمة الضباط الاحرار تمهيدا للاجهاز على النظام الملكي، وعزز من موقفه الاممي تجاه القضية الكردية، ودعا الى اطلاق الحريات الديمقراطية واعلان العفو العام عن المحكومين السياسيين وقيام حكومة تنتهج سياسة وطنية عربية مستقلة وتحول الاتحاد العربي الى اتحاد حقيقي بما يضمن مصالح شعبنا ويخدم النضال ضد الاستعمار والصهيونية ومن اجل الوحدة العربية " .
ان اهم الاستنتاجات التي توصل اليها الحزب بعد انتكاسة ثورة 14 تموز، وفشل تجربة جبهة 1973 والنتائج الكارثية التي تركتها على الحزب والشعب هي " من دون الحريات الديمقراطية الكاملة للجماهير واطلاق طاقاتها وتحريرها من كل قيد، ومن دون الديمقراطية السياسية لا يمكن الحفاظ على المكاسب المتحققة او تعميقها وتطويرها، اما الحديث عن السير الى الاشتراكية بدون الديمقراطية فليس سوى هراء " و" ان التحالفات هي معارك طبقية " تفرض على الحزب الشيوعي " اهمية الحفاظ على استقلاله السياسي والايديولوجي والتنظيمي خلال تلك التحالفات".
وتجسيدا لتلك الخبرة المتراكمة لدى الحزب، اعتبر المشروع الوطني الديمقراطي الذي اقره المؤتمر الثامن 2007 هو " السبيل للخروج من الازمة الراهنة للبلاد "، اذ اكد في مجال الديمقراطية السياسية على " تاكيد روح المواطنة والتصدي للطائفية ووضع حد لنظام المحاصصة في الحكم وفي مؤسسات الدولة ونبذ توظيف الدين لاغراض سياسية ونبذ جميع اشكال التعصب، وتامين شروط بناء الدولة الديمقراطية العصرية التي تقوم على مبادئ فصل السلطات وتبادل السلطة سلميا واحترام اراء المواطنين وتحريم انتهاك حقوق الانسان، وحل القضية الكردية حلا ديمقراطيا على اسس الفدرالية لاقليم كردستان وضمان الحقوق القومية والادارية والثقافية للتركمان والكلدان – الاشوريين السريان والارمن واحترام المعتقدات الدينية للايزيديين والصابئة المندائيين والغاء جميع اشكال التمييز والاضطهاد ضدهم.
ثانيا : الديمقراطية الاجتماعية
اعطى الحزب مفهوما معمقا للاستقلال والسيادة الوطنية باعتباره مفهوما عاما يشمل الاستقلال السياسي المرتبط بالاساليب الصحيحة في تطبيق الديمقراطية السياسية من جهة ومن جهة اخرى شديد الارتباط بالديمقراطية الاقتصادية الاجتماعية التي تتضمن العدالة الاجتماعية، ولهذا اعتبر الحزب استقلالنا " ناقصا ومزيفا ان لم يحقق سعادة شعبنا ورفاهيته " . ويرتبط مفهوم الديمقراطية الاجتماعية بالكفاح الاقتصادي الذي خاضه الحزب والشعب من اجل ازاحة التخلف الاقتصادي والاجتماعي عن بلادنا .
مثلما تدرج سقف المطالب في الديمقراطية السياسية تبعا للظروف الموضوعية والعوامل الذاتية، فان مطالب الحزب في مجال الديمقراطية الاجتماعية خضعت للمنطق نفسه . وارتبطت تلك المطالب بطبيعة مرحلة التحرر الوطني، اذ لعب الاستعمار البريطاني دورا كبيرا في جعل العراق بلدا تابعا للكولونيالية البريطانية عبر مجموعة اجراءات لكي يبقى العراق مصدرا للمواد الاولية وخصوصا النفط وسوقا للبضائع البريطانية وقاعدة للتحرك في المنطقة لفرض مشروعها. كما سعت بريطانيا إلى ترسيخ العلاقات شبه الإقطاعية من خلال خلق طبقة اقطاعية عبر سلب الاراضي ومنحها للاقطاعيين بسند قانوني . وانطلاقا من ذلك التحليل نجد صحيفة " كفاح الشعب " ركزت على " توزيع الاراضي على الفلاحين، ويوم عمل من ثماني ساعات " . اما في " الميثاق الوطني " عام 1945 فقد اتسعت المطالب لتشمل " نناضل من اجل حل مشكلة التموين، وتنمية اقتصادنا الوطني وتحرربلادنا الصناعي واستثمار ثرواتنا الطبيعية، ورفع الانتاج الزراعي، وتخليص شعبنا من شركات الاحتكار الاجنبية وايجاد اسواق حرة ووسائط نقل لتصريف منتجاتنا، وايقاف نهب اراضي الفلاحين والملاكين الصغار وتوزيع الاراضي على الفلاحين، ومنحهم قروضا حكومية – نقدية وبذور – ورفع الرسوم والضرائب والايجارات غير العادلة عنهم وانشاء جمعيات تعاونية، ونناضل من اجل الدفاع عن مصالح العمال السياسية والاقتصادية والاجتماعية والصحية وسن قوانين تحمي مصالحهم وضمان اجتماعي يقيهم عوز الابطالة والشخوخة " . ان النص السابق يعكس نضجا ومعرفة اوسع للحزب في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية مما كان عليه الحزب في بداية تاسيسه .
ان المهمات التي طرحها الحزب في " ميثاق العمل الوطني " سواء في الحقل السياسي او الاقتصادي – الاجتماعي، شكلت صدمة لبعض الرفاق والاصقاء واعتبروا برنامج الحزب ومشروعه اسطورة او خيالا لكثرة وسعة تلك المهمات، على بلد خرج منهكا من اعباء الحرب العالمية الثانية، ولكن الرفيق فهد اوضح لهم بان هذه المهمات تفرضها عوامل موضوعية مرتبطة بمهمات مرحلة التحرر الوطني وهي مهمات تتحقق اذا تبنتها الجماهير وتحولت بيدها الى قوة تدفعها نحو تحقيقها وهذا ما حصل فعلا بعد انتصار ثورة 14 تموز، اذ انتصرت ارادة الشعب وتحقق الكثير من برنامج الحزب الاقتصادي والاجتماعي والسياسي .
اكد الحزب في وثيقة " رؤى في تحديات واقع الاقتصاد العراقي الراهنة "في اب عام 2015 ( ان العراق واقتصاده يقف على مفترق طرق، وانه في حال استمرار الاوضاع ومسارات السياسة الاقتصادية وتوجهاتها على ما هو عليه، فان العطل في الاقتصادي العام للبلاد سيتعمق، وستكون لذلك تداعيات سلبية ثقيله على حياة المواطنين وعملية الاعمار والتنمية ) . ان النص السابق يعكس التفاقم الخطر للازمة العامة الشاملة في البلاد التي تكشفت مدياتها الحقيقية واثارها السلبية بعد هبوط اسعار النفط في الاسواق الدولية . ان سبل معالجة الازمة التي طرحها المشروع الوطني الديمقراطي في المؤتمر الوطني الثامن والتاسع كانت كفيلة بحلها ووضع العراق على السكة الصحيحة ولكن اصرار الكتل المهيمنة على القرار في العراق على المضي في نفس طرق المحاصصة الذي افضى الى اشتشراء الفساد عموديا وافقيا . ان هذا الواقع يجعل من مطلب الاصلاحات الجذرية حاجة موضوعية وطريق وحيدة لإنقاذ العراق من الشرنقة التي تلفه الان بسبب السياسات الخاطئة منذ 2003 .
ثالثا: الديمقراطية الحزبية
اكد الرفيق فهد ان الشيوعيين ليسوا من عشاق السراديب والسجون وليسوا ممن يرتاحون الى تعريض بيوتهم الى غارات الشرطة، وارهاب من فيها، لكنهم يتحملون كل هذه واكثر منها عن طيب خاطر لانهم يعشقون مثلا اعلى في الحياة لطبقتهم وللبشرية اجمع " و" ان التنظيم يتطور وينمو وفق سنة الديالكتيك، وهو مثل كل شيء في الكون وفي المجتمع متحرك وغير منفصل عن الظروف المحيطة " .
منذ تاسيس الحزب عام 1934 واجه الحزب اجهزة السلطة القمعية واساليبها الخبيثة في محاولة القضاء او اضعاف الحزب وانطلاقا من ذلك الواقع الموضوعي لجا الحزب الى المركزية الشديدة والضبط " الحديدي "، وتنوعت اساليبه في العمل السري واغتنت يوما بعد يوم تحصينا لاعضائه ومنظماته، وكان الحزب على مدى تاريخه الطويل يعتبر الامتداد الافقي الجماهيري له ريفا ومدينة اهم الحصون والقلاع التي تقيه غائلة أعدائه .
ان الحزب الشيوعي يستند الى النظام الداخلي الذي يحدد طبيعة العلاقة بين المركزية والديمقراطية تبعا للظروف المحيطة بالحزب . عقد الحزب مؤتمره الاول عام 1945 في بغداد اي بعد ( 11 ) عاما على تاسيسه، ولم يلتئم مؤتمره الثاني في كردستان الا عام 1970 اي بعد ( 25 ) عاما على مؤتمره الاول . كما عقد ثلاثة كونفرنسات فقط طيلة نفس الفترة ( كونفرنس عام 1944 وكونفرنس عام 1956 وكونفرنس عام 1967 ) . ثم عقد الحزب مؤتمره الثالث عام 1976 في بغداد ومؤتمره الرابع عام 1985 في كردستان .
يعتبر المؤتمر الخامس 1993 في كردستان نقلة نوعية في حياة الحزب الداخلية ولذلك سمي مؤتمر الديمقراطية والتجديد اذ اكد النظام الداخلي الصادر عن المؤتمر " ان الحزب الشيوعي العراقي حزب ديمقراطي من حيث جوهره واهدافه وبنيته وتنظيمه ونشاطه ومن حيث علاقته بالقوى الاجتماعية والسياسية الاخرى، وهو يناضل من اجل اقامة نظام سياسي ديمقراطي وتامين العدالة الاجتماعية .