المنبرالحر

من يوميات منتفض.. الجزء الاول/ ليث عبد الغني*

 نبذة تأريخية مختصرة عن الوضع قبل انطلاق الانتفاضة في جنوب العراق ايام حرب الخليج الاولى عام 1991
---------------------------
قبل إنطلاق انتفاضة العراق الشعبية المسلحة عام 1991 كانت نيران حرب الخليج مشتعلة في كل من العراق والكويت.. العالم بأسره مشغول بالحرب.. القوات الدولية تتقدم على الحدود الكويتية العراقية.. البارجات المدمرة ترسوا في مياه الخليج وتطلق صواريخها على جميع أنحاء العراق. اما في داخل العراق، فالرفض بالمشاركة في الحرب كان واضحاً في الشارع العراقي.. لقد سئم الناس الحروب واعلن اغلب الشباب لأول مرة رفضهم العلني بالمشاركة بالحرب ، وهروبهم من الجيش.. أما قرار الحصار الأقتصادي والذي فرض على العراق فقد بانت اثاره القاسية من الأشهر الاولى وخاصة على أهل الجنوب، حيث كان أحد الاسباب المهمة لغضب الناس هو الجوع، فالجوع لا يرحم، وآبار نفط الكويت تحترق ودخان لهيبها الأسود يغطي المنطقة كلها. ومازاد من حزن الشعب هو قرار إنسحاب الجيش العراقي المفاجئ من الكويت في ليلة الهجوم البري، وانكساره قد القى بظلاله على زيادة تمرد الشعب. فالنظر لأبناء قواتنا المسلحة وهم قادمون مهزومون من الحرب كان قاسياً علينا.
كنا نشاهد جنودا وضباطا برتب عسكرية عالية يأتون هاربين حفاةً مشياً على الاقدام لمئات الكيلومترات من الكويت متجهين الى بغداد حيث اهلهم بهذا الاتجاه. بعضهم يأتي بسيارات قد حرقت عجلاتها المطاطية فتسير على الأطر الحديدي.. انها مشاهد يومية قاسية أصبحت مألوفة لدينا، ولكن ما هو مهم في المشهد الذي نراه هو عدم تعرض احداً منهم لحالة غدر ولم تسجل أي جريمة قتل بحقهم.. كان اهلنا في الجنوب مشغولين بكيفية تأمين وصولهم الى أهلهم سالمين.. ولم يفكر أحد منا بتفاصيل انتمائهم العرقي أو المذهبي.. انهم جنود الوطن وأبناؤه. هكذا كانت المفاهيم ولازالت في الجنوب. كنا نستقبلهم ونتقاسم معهم الطعام اليسير الذي كان يتوافر لدينا، لكي نسهل أمر وصولهم إلى أهلهم في وسط وغرب وشمال العراق، بعض العوائل استضافتهم في البيوت وأمنت عليهم.
كانت الحالة التي يمر بها البلد صعبة جداً على استيعاب الناس لها، وما يزيد الطين بلّة هو أن طائرات ما يسمى بالتحالف الدولي تحوم طول الوقت في سماء العراق فتدمر الطرقات والجسور وحتى سيارات النقل المدنية فتزيد من غضب الناس على قوات التحالف وعلى صدام لأنه السبب في كل ما يحدث من مصائب، كنت اتنقل في تلك الايام من مدينة الناصرية الى مدينة الشطرة (44كم) حيث وظيفتي بالحسابات العسكرية هناك. وكنت أشاهد الأحداث بأم عيني وأعيشها.. أشاهد الطائرات كيف تقصف الجسور والطرقات والمباني.. وكيف يموت الناس ويغرقون وخاصة بعد قصف جسر الناصرية الحديدي الذي نجوت منه بإعجوية، حيث كان مكان عملي في الجانب الثاني من المدينة وكنت أحياناً أمضي الليل في بيت خالي في الناصرية فيزداد رعبي. كانت البيوت تهتز في منتصف الليالي من جراء قصف المدينة لأن موقع الناصرية الجغرافي مهم وفيه وحدات ومقرات عسكرية كثيرة وإن الضحايا من المدنيين كانوا أكثر لأن وحدات الجيش انتقلت من أماكنها سراً وبقي الاهالي القريبين تحت خطر نيران القصف والرعب من جراء هذا القصف العشوائي يجعل الناس تشعر بالهلع والخوف فنرى العوائل تهرب من بغداد الى الجنوب والشمال وعوائل تهرب من المدن الى الارياف وبالعكس.
الفزع يعيش في داخلنا أين ما نذهب، وخاصة عندما أسافر بعد نهاية دوامي الى بيتنا في الشطرة، كان الركاب كل ما يسمعون اصوات الطائرات يصرخون على السائق لكي يتوقف فيعطيهم فرصة الهروب من داخلها فيسرعون منبطحين على الارض. لقد اصبح سماع قصف الطائرات ومشاهدة وهج الانفجارات وموت الناس مشهداً يومياً. انه شعور بالخوف والأسى على ما يحدث للعراق. وما يزيد الناس سخطاً وتمرداً هو ظهور الطاغية صدام حسين لمدة 24 ساعة بالتلفاز ليتباهى بانتصاراته الوهمية. اننا نعيش الحقيقة في الجنوب. .حقيقة الهزيمة وسخط الشعب وتمرده.
كانت مدننا في الجنوب كمدن الأشباح في المساء، حيث أزدادت ظاهرة قتل البعثيين وخاصة في مدينة الشطرة، وهذا ما زرع املاً جديداً لدى الشباب في التفكير بالتحرر، ولكن هذه الاحداث كانت تقلق الأهالي.
كان الشباب يخرجون بعد غروب الشمس من البيوت لكي يتجمعوا في اركان شوارع مناطقهم السكنية فيلتقوا ببعضهم ويناقشوا الوضع في البلاد. لقد كان الشارع العراقي يشهد فراغاً سياسياً بشكل كامل، فالشيوعيون موجودون لكن الحزب غائب عن الشارع وابناء حزب الدعوة موجودون لكن الحزب غائب ايضا ومحبو بيت ال الحكيم موجودون لكن المجلس الاسلامي غائباً. وكان هذا الأمر يؤلمنا ويؤرقنا نحن شباب تلك الفترة الزمنية المرة. الوضع في العراق ومسؤوليته تجبرنا نحن الشباب ان نصارح بعضنا البعض في رغبتنا في الانخراط بحركات سياسية معارضة للنظام، ولكن كيف؟ وأين نجدها؟ أسئلة لم نجد لها جواباً آنذاك، فأحاديثنا أغلبها عن المعارضة العراقية في المهجر، لأن الجميع كان يعتقد انهم اقوياء وسيستثمرون هذه الفرصة، فرصة ضعف الطاغية صدام. ولو كانوا قد فعلوها ودخلوا الى داخل العراق لكان الامر قد تغير.. فالجميع كان بانتظارهم، وقد اكتشفناهم فيما بعد انهم لا يعارضون ولا يختلفون مع النظام فقط ولكن الصراع فيما بينهم كان اعمق الى درجة انهم اختلفوا حتى على اسم الانتفاضة. أما إعلامهم الذي كنا نتابعه عبر المذياع فهو ايضاً كحالهم غير صادق مع الشعب. هذه هي الحقيقة المرة التي عشناها، واسجلها بكل امانة تأريخية، وهنا لا اريد ان أثير جدلاً حول هذا الأمر لأني اتحدث عن تجربتي الشخصية واصدقائي الذين كنت اعيش معهم وانا اتحمل مسؤولية ما اشهد عليه عبر الزمن.
كنا نسمعهم يقولون فيما بعد أن لديهم قواعد مرتبطة بهم في الداخل. لكن الأمر لم يكن دقيقا، حتى في الاهوار فلم يكن سوى تنظيمات فردية يعتقد انها مرتبطة باحزاب اسلامية ، لقد سمعنا بهذا الأمر بعد سنين طويلة وعلمنا انها كانت تنظيمات شبابية صغيرة جداً. لا تتجرأ على العمل بشكل واسع. وما أتذكره وأعرفه جيداً أن بعض التشكيلات الشبابية في المدن بدأت تنظم نفسها بشكل سري فيما بينهم.
الأزمة كانت كبيرة وعميقة والحزن على تنازلات العراق في اجتماع خيمة صفوان الذليلة كانت أعمق واشد على الشعب، وهذه الظروف كلها هيئت لثورة شعبية عفوية عبرت عن غضب الجماهير . فالساعات كانت تمر ثقيلة ونحن نعيش في خضم تلك الاجواء المشحونة بروائح الاسلحة والملونة بدماء الابرياء ليصدح صوت الشعب العراقي الغاضب بشكل سريع في كل مدن الجنوب ثم بعدها مدن الشمال في كردستان العراق....
التكملة في الجزء القادم مع التحية لكل الاحرار بذكرى اليوبيل الفضي لإنتفاضة العراق الشعبية 1991.
المجد و الخلود لشهادءنا الابرار
المجد للعراق.. وطننا، و لأهله ..شعبنا
و الله ولي التوفيق

* عضو رابطة المنتفضين العراقيين