المنبرالحر

وجهة نظر: هل ينفع العراقيين أعتذار شاعر سلطوي؟! / يوسف أبو الفوز

في البدء لابد من القول بأني لست ميالا لخلط أية ثمار في السلة، ففي الحياة كل شيء نسبي، وحتى الثمار يمكن معالجتها قبل ان تفسد تماما، اما المعطوبة التالفة فلا ينفع معها الا رميها في سلة المهملات . نحن هنا نتحدث عن سلة الثقافة، وعن ثمارها المختلفة اللون والرائحة والطعم، فهاهي الاصوات تعلو وتتقاطع، بين من يمنح عبد الرزاق عبد الواحد ، لقب الشاعر الكبير، وبين المتحدث بلبوس التسامح والدعوة بحق الرجل بالعودة الى وطنه ــ هكذا! ـ ما دامه مريضا ، وهناك اصوات تطالب الشاعر بالاعتذار من الشعب العراقي انطلاقا من روح التسامح والرغبة لتأسيس افاق جديدة للثقافة العراقية ، تتحلى بثقافة التسامح والاعتذار والتعاون.
تحدثنا كثيرا عن ثقافة الاعتذار، هذه الفاكهة التي لا وجود لها في اجندة اولئك المثقفين، ممن سوقوا للحروب والعسف وروجوا لصورة الطاغية المجرم، "ابو عيون الذهب" وصفقوا وردحوا له بأقتدار ــ على حد تعبير الطاغية صدام نفسه ــ و.."منين تطلع الشمس ؟ تطلع من العوجه "! .
والاعتذار لا يكون ممكنا وسهلا حين يكون المعتذر طرفا أساسيا في حكاية شجرة البلوط ، فشجرة البلوط الصغيرة شكت يوما الى امها ، شجرة البلوط الضخمة ، قائلة : " الا ترين يا امي ، كيف تنكّل هذه الفأس الحادة بنا، نحن الشجيرات، تنكّيلا ، وحشيا ، لا رحمة فيه؟"، فضجت شجرة البلوط بأغصانها الجبارة ، وقالت :"يا ابنتي ، هذا لان مقبض الفأس مصنوع من خشب البلوط !". فهناك مثقفون صاروا عصيّاً صلبة في فأس النظام المقبورالدموية التي نزلت تنكيلا بشعبنا وثقافته ومستقبله ، وكان لدورهم نتائج كارثية أخطر من حروب النظام الداخلية والخارجية، اذ افقروا شعبنا فكريا وساهموا في تسطيح وعي الناس، بحيث صار الواقع العراقي تربة هشة لنمو كل الافكار الضارة التي نواجهها هذه الايام في وطن ما بعد سقوط الديكتاتورية. هؤلاء لا ينفعنا اعتذارهم، فهم قادرون على استبدال سيدهم بسهولة ارتباطا بالمغانم والحواسم، وسهولة التباكي على الديمقراطية وروح الطائفة. لابد من القول بأن "ثقافة الاعتذار"، كسلوك مكتسب، لا يمكن ان ينمو الا بتوفر البيئة المناسبة من ظروف ديمقراطية حقيقية، سياسية واجتماعية، ناضجة ، تؤمن للانسان ممارسة هذا السلوك الحضاري بحرية ومسؤولية، فهو بحاجة الى سيادة القانون وسيادة دولة المؤسسات، حيث لن تكون هناك اجواء تخوين واسقاط واذلال، وربما استهداف حياة. وان المثقف قبل غيره بحاجة الى ادراك ان الاعتذار سيكون قوة للشخصية وليس تقليلا من شأنها، وانه لا يتم بدون نضج عال ومتميز في التفكير الذي يتطلب شجاعة نادرة في مواجهة الواقع، وأنه الفاكهة الاجمل في سلة الثقافة، والمطلب الأساس في العمل للنهوض بواقع الثقافة العراقية!
ارتباطا بما تقدم ، كيف سيكون اعتذار عبد الرزاق عبد الواحد، وبماذا سينفعنا ؟ وما قيمته ؟ أدرك جيدا ان هناك نوايا طيبة وحسنة عند البعض ممن دعوا عبد الرزاق عبد الواحد للاعتذار، وان فيهم من يريد صادقا ان يقدم عبد الواحد " اعتذاراً عما ارتكب بحق العراقيين في تسويغ الفاشية الصدامية ومديحها، لكي لا يتساوى الضحايا من أمثالنا والجلادين من أمثالهم" ـ كما كتب الشاعر عواد ناصر في موقعه على فيس بوك ـ .
ان كل الاطراف المختلفة حول عبد الرزاق عبد الواحد لا تختلف بكونه بزَّ كثيرين غيره في التطبيل والتمجيد للمجرم صدام ونظامه وحتى بعد انكشاف كل جرائم الطاغية للعالم ، واصل التمجيد بحمد سيده بدون كلل ، وفي لقاء قريب ــ متوفر على برنامج اليوتوب ــ مع الاعلامي تركي الدخيل اكد انه لن يندم يوما على علاقته مع صدام ويعشقه ويكتب له وان الامة العربية فقدته برحيله وليس العراق فقط ورثاه بالدموع والشعر! ان اللغط المتعالي حاليا حول عبد الرزق عبد الواحد ، وفي جانب منه، يعيد للاذهان لغط سابق، حين توفي، واحدا من جندرمة ثقافة الديكتاتورية، الا وهو يوسف الصائغ، الذي تعدى دور الشاعر مساح الجوخ للطاغية ولعب ادوارا اخرى خلال سفراته الى الدول الاوربية محاولا( تجنيد بعض المثقفين الذين اضنتهم معاناة الغربة والبطالة والجوع للوقوع في فخ خدمة الطاغية عن طريق "مهرجان المربد" مقدما لهم الاغراءات المالية وواعدا اياهم بالمناصب العالية) ــ من شهادة منشورة للكاتب د. حكمت شبر عن يوسف الصائغ ــ ويومها تعالت بعض الاصوات تنتقد اتحاد الأدباء العراقي كونه لم يرفع لافتة سوداء تنعى الشاعر الصائغ ، ورد على بعضهم الشاعر الفريد سمعان بكلمة عنوانها " قميص عثمان" اشار فيها الى ان (بعض المتحيزين للأقلام القذرة يحاولون ان يغطوا جانباً من الإساءات التي ارتكبوها هم أيضا في عهد الدكتاتورية ولا يعرفون كيف يتداركون ما فعلوه . فوجدوا في"قميص عثمان" يوسف الصائغ ملاذاً ومذبحاً يُصلّون فيه لغفران الذنوب وابعاد الشبهات عن تاريخهم النظيف جداً)، اورد هنا كلمة الفريد سمعان، لانه عاصرهم ويعرفهم جميعا، كل المثقفين الذين شهدوا حكم الطاغية وعانوا او انتفعوا منه، ويعرف جيدا من بقي امينا لنفسه ووطنتيه ولم يلوث نفسه بأدران النظام الديكاتوري، وجهد للحفاظ على نقاء نهر الثقافة العراقية ، ويعرف من استرزق وطبل وصار عصا صلبة في فأس نظام الطاغية المقبور، وتجدر الاشارة الى ان الفريد سمعان هو نفسه الذي قال يوما في برنامج تلفزيوني بأن" لا تصدقوا احدا بأنه كتب للطاغية تحت الاكراه، فمن كتب كان بخياره "، وهذه الحقيقة اكدها المطرب كاظم الساهر وهو من الذين غنوا للطاغية وحروبه، فقد قال في لقاء مع الاعلامي نيشان ديرهاروتيونيان ــ متوفر على اليوتوب ــ بأن "من يقول لك كانوا يجبرونا قل له كذب"، وهكذا فأن جوقة المطبلين والرداحين لنظام البعث والمتسترين بحجج انهم موظفون في الدولة، او مجبرون ، يجدونها الان فرصة في رفع "قميص عبد الرزاق عبد الواحد " ــ الشاعر الكبير! ــ ليستروا به انفسهم قبل المتباكى عليه.
اتذكر تلك الظهيرة من آب من عام 1987، كنا مجموعة مقاتلين في الجبل ، نتحصن في خرائب قرية مهجرة قسرا، على مشارف مدينة دهوك ، بأنتظار حلول الظلام لنتحرك بأمان، بعد ان مرت طائرة هليكوبتر تفتش عن "المخربين" امثالنا ممن حملوا السلاح ضد نظام الطاغية ، وكنت اسمع في الراديو لقاءا مع الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد ، الذي تحدث كثيرا ، لكن ما ظل عالقا في بالي، هو ترديده لقول " نعم ، انا شاعر سلطوي ، شاعر يجد في سلطة القائد صدام حسين مستقبل العراق ". لم يكن مخطئا هذا الشاعر السلطوي ، فهاهو مستقبل العراق كما رسمه سيده المقبور، نرى خرائبه وجروحه التي لا تندمل والتي تركها لنا بكل اقتداره الذي تغنى به المداحون ومساحو الجوخ . فليبق هذا الشاعر سلطويا فلا اعتقد ان اعتذاره سيزيل المقابر الجماعية من خارطة العراق، او يمسح الخردل عن القرى والقصبات الشهيدة في كردستان او يعيد الحياة لضحايا الحروب المجنونة مع الجيران . وان اعتذار هذا الشاعر السلطوي لن يطفأ الغضب في عيون عوائل من ابادهم الطاغية غيلة في سجونه او حروبه المجنونة ، او يعيد شباب من شردهم في المنافي فصارت للعراقيين بفضل سيده مقابر في مختلف بلدان العالم .
21 آب 2013