المنبرالحر

طاولة حوار.. طاولة قمار / عبد المنعم الاعسم

إذا ما صدّقنا تسريبات الكواليس بان الشركاء المتخاصمين مقبلون على طاولة حوار "مغلقة" وسيناريو تهدئة "تدريجي" فإننا لن نشطب بسهولة ما نحتفظ به من وقائع عن طاولات حوار سابقة انتهت الى شقاق أعمق ومخاشنات أكثر شراسة. ومن زاوية بدا لمن يراقب الأوضاع عن كثب ان أصحاب الأزمة يفكرون بطريقة مقامرين يحرصون على اقتناص غفلة، أو عثرة، أو زلة، بعضهم البعض، لكسب الجولة.
تمتد نزعة المقامرة في عمق التاريخ وتجد إشارات لها لدى هيرودوتس وفي آثار الفراعنة والفرس والصينيين القدماء والبابليين والإغريق الى حروب الأندلس، وقد استخدمت في القرن الرابع عشر كعلاج للمرض العقلي الذي أصيب به ملك فرنسا شارل السادس، لكن أرسطو صنف المقامرين في كتابه (الأخلاق) في طبقة اللصوص وقطاع الطرق، ولم يسقط هذا التصنيف بمرور الفين وخمسمائة عام.
فما الجديد في محاولة العودة الى خيار الحوار؟ وقبل هذا، هل أن للتسريبات مقدمات مشجعة على القول بان العقل قد عاد أخيرا الى الرؤوس المتصلة؟.
لا علاقة لهذا الأمر بموضوع التفاؤل والتشاؤم.. فالعراق لابد، يوما، أن يعبر هذا المضيق الوعر، لكن من الذي يقنع الملايين بان "الجماعة" كفوا عن المقامرة بمصائرهم، في وقت نتابع كيف تجهّز كل جهة أتباعها وجمهورها بأبشع صورة عن شريك طاولة الحوار (القمار).. فهو متآمر، غدار، جشع، متعطش للدم، مناور، طائفي، عنصري، حرامي.. ثم ليتركوا سؤالا في حلوقنا: مع من تتحاورون، إذن؟ بل ولماذا تتبادلون القبل على الشاشات الملونة بذلك الامتعاض المتبادل البائن؟
يقول المصريون القدامى "قـُبلة من غير محبة تحرق الشوارب" ويبدو أن تلك القـٌبل من لوازم طاولة القمار، ومن مكونات الشخصية المقامرة، وكتب معلق أجنبي عنها "في العراق يهزون يدك قبل الانتخابات، وثقتك بعدها.." وقال ماثيو هيوز أستاذ العلوم السياسية في جامعة لندن المشكلة أن الطبقة السياسية العراقية الجديدة غير متصالحة، لا مع نفسها ولا مع بيئتها.
اختزال العمل السياسي الى ساحة ترزّق وكسب، وطاولة الحوار الى لعبة قمار، جرّت البلاد الى دوامة مخيفة استغلتها قوى الإرهاب والجريمة والتجييش والوكالات المحلية للدول المجاورة، وفي هذا المنزلق لم يتراجع أصحاب هذه اللعبة الجهنمية عن استطرادهم العبثي، والغريب، أنهم يعتبرون المقامرة السياسية بمثابة مغامرة مقبولة، فيما المغامرون، على خطاياهم الكثيرة، اكتشفوا أمريكا، وبلغوا أعلى قمة في هملايا، واقتحموا أسرار الفضاء والمجرات، وكسبوا معارك أسطورية ضد المستحيل، فسهّلت اكتشافاتهم ونجاحاتهم دخول البشرية الى عصر المنجزات الكبرى.. أما القمار فهو عار، كما تقول جداتنا.
" ليس هنالك شيء أسوأ من باب مغلق".
هيتشكوك