المنبرالحر

الماركسية الخلاّقة بين التعجيب والتغييب / جاسم المطير

اطلعتُ على مشروع برنامج الحزب الشيوعي العراقي، المقترحة مناقشته في المؤتمر العاشر، المفترض انعقاده قريباً.
وجدتُ مشروع البرنامج مستوعباً، بصورة تفصيلية دقيقة، جوهر الأوضاع العامة، الراهنة، في البلاد، بعد التغيير الحاصل في أعقاب 9 نيسان 2003. كان المفترض ،في ذلك اليوم، ليس اسقاط وتهديم صنم الدكتاتور في ساحة الفردوس، بل اسقاط أفعال الدكتاتورية وأقوالها وأدواتها وتوظيفاتها كافة، وحلول المادة الأولى من الديمقراطية الحقيقية على أقل تقدير. لكن اجراءات غير محددة، غير متعينة أو معنية بمصالح الوطن والمواطن، اسقطت كل ما هو جميل في النظام الديمقراطي المأمول أن يتحقق في بلادنا. هذه الحقيقة مشهودة للجميع من ذلك اليوم الحيوي بتاريخ العراق الحديث،حتى اليوم المشهود بحربٍ من اقسى الحروب المعاصرة لإنقاذ اجزاء من الوطن في نينوى والانبار حيث اقسى واصعب المشكلات المخلوقة من التنظيمات الداعشية المسلحة، ممثلة لهمجية من نوع جديد، همجية الفاشية الجديدة تحت ستار الدين.
من أهم ميزات السنوات العشر الماضية هي افرازات تنوع سياسي في ادارة الدولة الجديدة تميزت بتعبير مباشر او غير مباشر ان اساليب القهر والتخلف ما زالت متجذرة في البلاد مما يتطلب من الحزب الشيوعي العراقي كشف وادانة جميع بقايا الادارة الدكتاتورية المستمرة منذ زمن طويل أقله 35 عاما من تاريخ سيطرة نظام صدام حسين.
استطاع معدو المشروع البرنامجي الشيوعي الجديد، المطروح للمناقشة والجدل، على صفحات جريدة طريق الشعب الغراء من قبل شخصيات أو منظمات بقدرةٍ تعبيريةٍ أظهرت امتلاكاً مرموقاً لعناصر الجمال النضالي في الحزب الشيوعي.
جاء البرنامج الجديد من خلال استيعاب تجارب الاعوام الماضية، ليبني في بنوده طموحا عاماً، مشرقا لمجتمع مدني قابل للتطور. كما قام المشروع بتحديد اغلب آليات تحقيق ذلك الطموح وتغيير البناء السياسي – الاجتماعي بعد 13 عاما من المعاناة الشديدة الخانقة في حياة الجماهير الشعبية على مختلف الاصعدة.
ليس تجديد البرنامج الشيوعي الوطني بالأمر الجديد. اصبح تقليداً راسخاً في مؤتمرات الحزب أن يجري الجدل حوله بما يتضمنه من تفاصيل بنوده على نطاق واسع كأسلوب من أساليب ممارسة الديمقراطية داخل الحزب، لا بد من الوقوف عنده لرؤية الصورة المقصودة منه. فهل استطاع الجدل أن يحقق إضافةً جادة أو تغييراً رئيساً أو تعديلاً هاماً على مسودة البرنامج ليكون أكثر إشراقاً داخل المؤتمر في أثناء انعقاده؟ من هناك سيأتي الجواب بالتأكيد. لقد كثر الحديث والكتابة عن مشروع البرنامج. قُدمت وجهات نظر اضافية حيال موضوعات وبنود البرنامج والنظام الداخلي برؤية شيوعية تجريبية، لتدوين تجربة العمل الحزبي بين مؤتمرين، بقصد استخلاص عبر ودروس النضال والأهداف من بين طياتها، للعمل في سبيل تحقيق التغيير الاجتماعي،المطلوب من غالبية المواطنين العراقيين في ضوء الديمقراطية والحرية .
ليسمح لي معدو البرنامج أن أركز تأكيدي، هنا، على نقطة واحدة تتعلق بميدان واحد من ميادين التغيير. ميدان أولي، مهم ورئيس؛ مفترض ومطلوب، أن يكرّس الشيوعيون العراقيون نضالهم من أجل تعزيزه وأن ينحازوا إليه انحيازاً واسعاً، اعني به (الميدان الثقافي) على اعتبار أن هذا الميدان ضروري جداً لبناء (الشخصية الوطنية الجديدة) لكي تكون قادرة على تحديد علاقة المواطنين بمضمون مهام التغيير الثقافي، اليومي والاستراتيجي، وتحديد المبادئ الفكرية ذات التأثير السياسي على جميع وسائل التعبير ضمن معاني السيسيولوجيا الحديثة المتناسقة مع ظروف النضال الشعبي وتنمية (الوعي الشعبي) في الظروف الأخلاقية والثقافية المعقدة والصعبة في المجتمع العراقي الحالي.
لاحظتُ أن وثيقة البرنامج قد تضمنت 10 نقاط اساسية في الجانب الثقافي المحدد لمناقشته داخل المؤتمر العاشر. كانت النقاط العشرة إضاءة واسعة أمام عمل المؤسسات الثقافية الرسمية وشبه الرسمية وأمام المنظمات النقابية لإحياء الروح الإنسانية في عمل الدولة العراقية في المرحلة القادمة. هذه النقاط من دون أي شك تشكل قيمة ثقافية كبرى في حال الأخذ بها من قبل مؤسسات الدولة وهو بالطبع أمر غير مضمون لأن مؤسسات الدولة غالباً ما تسير في وادٍ بعيدٍ جداً عن الروح الثقافية التقدمية، في كل مجالات عملها، مما قد يجعل النقاط البرنامجية العشرة مجرد (فرضيات ناضجة) قد تُغمر داخل بيروقراطيات مؤسسات الدولة أو ربما يجري تنفيذ جزء يسير منها بأعلى احتمال. وما يثير الانتباه ان تجارب وزارة الثقافة خلال السنين الثماني الأخيرة اثبتت أنها لم تلتزم بمنهاج عمل يضيء صفحات تقدمية حتى بوجود وزراء تقدميين على رأسها لأن كيان الوزارة،كله، منقطع عن الحداثة.
في الوقت ذاته لاحظتُ أن البرنامج الثقافي المعد من قبل الحزب الشيوعي، في مؤتمره العاشر، قد أغفل ضرورات تنمية ثقافة اعضاء الحزب وكادره على أسس الماركسية كتشكيل فلسفي لا غنى عنه للتفاعل مع القياس القانوني العام من جهة، ومع التراث النضالي في الثقافة الماركسية في تطوير المنجز الابداعي الوطني من جهة أخرى، خاصة وأن الحزب الشيوعي العراقي يملك تراثاً غزيراً من التجارب في هذا المجال منذ يوم تأسيسه عام 1934،حيث كانت قيادة الحزب تمنح المثقفين العراقيين فضاءً واسعاً من العمل الثقافي المُؤيَد والمدعوم من قبل الحزب لزيادة التأثر والتأثير بين الحزب والمثقف والمجتمع بعوامل دافعة.
هنا، لا بد من التذكير أن تنمية الشخصية الشيوعية وتنمية الروح الإنسانية فيها لا يمكن أن تسلم من أمراض مجتمع معقد كمجتمعنا المهووس بالانتقال نحو الرأسمالية المريضة بكل انواع الفساد، إلاّ إذا كرّس الحزب نشاطاً ثقافياً، كما كان في كل مراحله النضالية، قائماً على ضوء برنامج ثقافي معين ومحدد، ملزماً لأعضائه أولاً وأخيراً من خلال تدريب داخلي بدورات تثقيفية متتالية أو في مدارس خاصة للتعليم بمبادئ الماركسية يفتتحها الحزب لأعضائه الجدد والكوادر الصاعدة.
تظل الماركسية نظاما لتنوير عقل القاعدة الحزبية وتنسيق عقل الكوادر لفهم محركات المحيط الاجتماعي وتناقضاته وقوانينه، خصوصاً ما يتعلق بطبيعة المجتمع العراقي وضرورة فهم قوانين تطوره وتغييره.
ألاحظ منذ أكثر من عشرة أعوام أن نشاطات المنظمات الحزبية في داخل الوطن وخارجه تركّز نشاطها الثقافي على فعاليات روتينية (ندوات واجتماعات) بالرغم من كونها مثمرة جزئياً، لكنها لا تتعلق بالأهمية النظرية والتطبيقية للفلسفة الماركسية الضرورية لتعزيز امكانات الاستقراء الجمالي – المادي في اعماق المثقفين الحزبيين.
ان توفير هذه الامكانيات ببرمجة تطوير دار الرواد وصحف الحزب ومجلاته وتعزيز دور المثقفين والمبدعين الحزبيين ذات اهمية كبيرة للغاية، تعود على المناضل الحزبي وعلى الحزب، كله، إذ انها وحدها القادرة على تقديم الفهم السياسي بتفوقٍ منظور للتفسير العلمي الضروري لما يجري داخل مجتمع كمجتمعنا المشحون بصراعات وتناقضات غريبة وعجيبة يقف الميتافيزيقيون على رأس إدارتها وتأجيجها لمصالحهم الطبقية الخاصة.
من مصلحة الحزب ومصلحة الوطن الأولى أن يحرز الحزب الشيوعي تطوراً معرفياً، شاملاً وسريعاً، قبل كل شيء، حتى يظل الحزب حزباً ثورياً في نضاله وتجنب خطر تحويل منظماته إلى مجرد (تجمعات نخبوية) داخل المجتمع.
أملي وطيد أن يكون المؤتمر العاشر للحزب الشيوعي العراقي منطلقاً جديداً لتعزيز الثقافة الماركسية، داخل الحزب، ليكون عضو الحزب قادراً على استيعاب أساليب الحداثة السياسية، في السرد الجمالي، السياسي والثقافي، وفي التشكيل النضال الابداعي وخلق جيل ثقافي جديد بعد رحيل أجيال من المثقفين العراقيين من اعضاء الحزب واصدقائه والسائرين في دروب نضاله من اجل وطن حر وشعب سعيد، من خلال الشعر والنثر والقصة والرواية والفنون المسرحية والتشكيلية وغيرها ورسم قوعد وأصول اجتماعات ومؤتمرات ولقاءات ومهمات دائمية بين الحزب والثقافة، بين الحزب والمثقفين. ان معرفة الثقافة الماركسية والتزود بها أمر ضروري للعضوية الشيوعية الشابة لأنها الأساس في بلوغ النضوج السياسي ومعرفة سبل النضال الجماهيري الصحيح. كما أنّ الكوادر الحزبية لا تستطيع أن تجعل الحزب الشيوعي العراقي كما كان في نظر الاصدقاء والاعداء، باعتباره اكبر حزب شيوعي عربي، من دون الرغبة والبرمجة في رفع مستوى التزود بتعاليم الماركسية،المفعمة بالحياة وجدليتها، بما تملكه من قدرات تحقيق النشاط الفعلي بين صفوف الجماهير. أما بقاء ما اشاهده ويشاهده كل انسان عراقي من عجز أو تقصير في التثقيف الماركسي داخل الحزب وخارجه فهو لا يؤدي إلى غير العقائدية الروتينية الجامدة، غير القادرة على مواجهة التحديات النضالية المعاصرة.
نضال الحزب الشيوعي لتنفيذ برامجه لا يقتصر على إيجاد القاعدة المادية للنضال خلال التحالفات المبدئية الرصينة مع القوى والاحزاب الوطنية الاخرى وتكوين العلاقات السياسية مع جماهير الشارع السياسي فحسب، بل يتطلب تطوير ثقافة الشخصية الشيوعية (عضو الحزب) من جميع النواحي الثقافية والمعرفية، أولها وفي مقدمتها، التطوير المتناسق في تعلّم استخدام المعرفة الضرورية في الممارسة اليومية وأن يقوم سلوك الشيوعي على أساس الفهم الماركسي لتطور المجتمع في ظروف سياسية معقدة كما هو الحال في الوضع العراقي الراهن. يبقى الفهم الماركسي هو المساعد الوحيد على مواجهة سير وآفاق التطور في مجتمعنا الحالي، حيث الفوضى السياسية – الثقافية الشاملة، حيث الحكومة عاجزة عن ادارة الدولة الجديدة،حيث البرلمان غير قادر على تشريع القوانين الديمقراطية، حيث تعارض الرؤى بين مركز الدولة العراقية في بغداد مع اقليم كردستان من جهة وتعرض نمط الإدارة المركزية مع نمط إدارة العمل في المحافظات من جهة أخرى. لذلك تصبح الرؤية الماركسية ضرورة أساسية لقدرات الشيوعيين النضالية مقابل الأحداث المتفاعلة في مجتمعنا،كل يوم وكل ساعة، خاصة خلال الحرب العادلة التي تخوضها الدولة العراقية بوجه الفاشية الداعشية.
الثقافة الماركسية تربّي عضو الحزب الشيوعي على نظرة سياسية صائبة، نظرة اجتماعية صائبة، نظرة اقتصادية صائبة إذا ما استطاعت ان تتعايش وتعمل لتذليل الصعوبات والوصول الى تطبيق برنامج الحزب الشيوعي المقترح في مؤتمره العاشر وهو برنامج وطني شامل استنبط تفصيلاته من تجاربه الغزيرة في العمل السياسي الوطني منذ 82 عاما والمبني على فن الجدلية المادية، لتأمين حركة وتجديد وسائل النقاش والمتابعة العملية وتصعيد التنفيذ والممارسة اليومية من أدنى القاعدة الحزبية إلى أعلاها لضمان التخلص من كل ما هو قديم روتيني بأساليب النضال وضمان ميلاد كل ما هو جديد متحرك فيها.
علينا أن نعرف أن انتصار (الجديد) في العمل الحزبي، اليومي والاستراتيجي، يقوم على اسس الجدلية الماركسية في الحياة الحزبية، مثاله الحزب الشيوعي العراقي.
لا بد من التأكيد، هنا، أن نقيض الماركسية ليست المناهج الميتافيزيقية فحسب، بل يمكن القول أن استمرار سيطرة القديم في الجدلية الماركسية ذاتها، يمكن أن تكون عائقاً أمام دور الحزب الشيوعي العراقي في تجديد نفسه، وتعميق رؤية قواعده وكوادره، وايجاد افضل وسائل تطبيق البرنامج الجديد في المؤتمر القادم الجديد، بوسائل تنير الطريق أمام منظمات الحزب الشيوعي في المدينة والريف، من خلال العلاقة بين (الوجود) و(الوعي)، بين (النظرية) و(التطبيق) وتحقيق النجاح المضطرد المطلوب انجازه، خلال مرحلة ما بعد المؤتمر العاشر، المنتظر منه أن يرسم خارطة وطنية لتطوير المجتمع العراقي ومؤسسات الدولة في ظروف اجتماعية – سياسية غاية في التعقيد، يستحيل معها اكتشاف الشيوعيين العراقيين قوانين التطور من دون ممارسة سنن المعرفة الماركسية، خصوصاً في عصر يتميز الآن بأنه عصر الماكدونالد والموسيقى السريعة والموبايل وبرامج الكوميديا السخيفة والاغاني التافهة والتسلية في مواقع التواصل مع الفيس بوك وتويتر و فضائح الانترنت وغيرها.
أخيراً أقول للقراء الكرام أن دور النشر الرأسمالية في ألمانيا وانكلترا وهولندا وغيرها قامت خلال السنوات الخمس الماضية بإعادة طبع وتوزيع كتاب الماركسية الأغنى (رأس المال) بعد الازمة المالية – العقارية – الامريكية عام 2009، رغبة منها وتخطيطاً لتوفير هذا السِفر أمام علماء الاقتصاد والباحثين عسى أن يساعدهم في فهم أسباب الأزمات المالية الخانقة المحيطة بالعالم الغربي. وفي الوقت ذاته قام المفكر العراقي الدكتور فالح عبد الجبار بإعادة ترجمة الكتاب نفسه (رأس المال) بنوع من الحداثة ومفرداتها، لم يحظ حتى الان بقراءة عراقية، لا شيوعية ولا غير شيوعية، مع الأسف.
من المؤكد ان الحزب الشيوعي العراقي يمكنه البرهنة، من جديد، على ان تغييب الماركسية امر غير ممكن، ستظل من ميزاتها التجديدية تنوير العقول في هذا العصر أيضاً، ستظل من عناصر التعجيب، أيضاً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
بصرة لاهاي في 15 – 6 – 2016