المنبرالحر

كيف السبيل إلى معالجة الأزمة الاقتصادية ؟ / حسام الدين الانصاري

ان حالة الإنكفاء والتدهور السريع الذي أصاب العراق بسبب انخفاض اسعار النفط قد كشفت المساوئ وعمق الازمة الاقتصادية في البلاد وفضحت سوء الادارة المالية والتخبط الذي تعاني منه المؤسسات الاقتصادية المسؤولة عن رسم وتنفيذ خطط العمل في ادارة شؤون البلاد التي كانت تختفي تحت غطاء الموارد الهائلة من تصدير النفط الخام التي تتستر خلفها كل مظاهر الفساد المالي وهدر المال العام وتأسيس امبراطوريات المافيات المالية التي أصبحت أرصدتها تفوق ميزانية الدولة ليتراجع البلد من حالة التوازن الاقتصادي رغم كل ما أصابه بعد غزو الكويت وفرض الحصار الى بلد أصبح يُقارَن من كافة النواحي الاقتصادية والأمنية وحالة الشعب المعيشية ومستوى الخدمات ومرتكزات البناء التحتاني والمظاهر المدنية والحضارية والحالة الاجتماعية بأدنى بلدان العالم كالصومال وافغانستان ونيجيريا وغيرها من الدول الفقيرة.. وبعد أن أصبحت شريحة كبيرة من الفقراء تعتاش على (موارد القمامة) التي اصبحت من حصتهم بدلاً عن (الموارد النفطية) التي أصبحت لغيرهم فيقوموا بتجميع المخلفات التي ترمى في مناطق الطمر من المواد المعدنية والبلاستيكية وغيرها ليعتاشوا من بيعها الى معامل اعادة تصنيعها ، بل وصل الحال الى انتشار أطفال المناطق العشوائية في مواقع الأزبال للتفتيش عن بقايا الطعام ، الأمر الذي لم يعد خافياً، وعلى مرأى من الشعب في القنوات الفضائية وعلى نطاق واسع.
وتكمن الخطورة الأكبر في توجه الطاقات الشبابية التي تشكل عماد المجتمع في التقدم والتطور والبناء نحو أعمال غير إنتاجية تستنفد قدراتهم البدنية والفكرية سيما وان الكثيرين منهم من خريجي مراحل الدراسة الاعدادية بل وحتى من خريجي المعاهد والكليات الذين اضطرتهم الظروف المعاشية الى تأسيس جيش (البطالة المقنّعة) التي تضر بمسيرتهم الاجتماعية والانسانية من جهة وخسارة البلد سواعدهم القوية القادرة على الانتاج والعطاء من جهة اخرى.. ليعملوا كباعة متجولين أو سائقين لسيارات الأجرة التي أغرقت الشوارع بأكثر مما يتطلبه سوق العمل وحجم المهنة. هذا بالاضافة الى واقع البطالة المقنّعة الموجودة في دوائر ومؤسسات الدولة نتيجة الترهل الاداري والتعيينات الاعتباطية غير المخطّطة التي لا تأخذ في نظر الاعتبار الحاجة الحقيقية للمؤسسات الحكومية نتيجة تدخل القوى الضاغطة والاحزاب في سياسة التعيينات بمؤسسات الدولة وعرقلة إقرار قانون الخدمة العامة الذي يحقق العدالة في التعيينات.
وأمام هذا الواقع المزري الذي أدى الى تشويه الهيكل الاجتماعي والتدني في الأداء العام بإفراغ ميادين العمل والانتاج من الطاقات المحركة لها وإغراق البلد في أجواء الكسل والخمول والرتابة لغياب المؤسسات الانتاجية وفرص العمل التي تحرك طاقات المجتمع.. فإن كل ما يقال عن امكانية الاصلاح الاقتصادي والاجراءات الترقيعية التي تستنزف جهود الروتين الحكومي ، والاجتهادات البائسة والمساعي في الحصول على الفتات من القروض والموارد التي تستهدف المواطن والموظف الحكومي من ضرائب ورسوم وغرامات واستقطاعات لا تجدي نفعاً في معالجة الأزمة التي يمر بها البلد ولا تشكّل حلاًّ للخروج منها ما لم يتوجه التفكير الى حلول ستراتيجية تتطلب صحوة وزارة التخطيط من غفوتها ووزارة الصناعة بإحياء مصانعها بعد ان تحولت الى دكاكين عاطلة عن العمل.
وهنا لا بد من نهضة ، بل ثورة على واقع القطاع الصناعي العام الذي لا يمكن إصلاح الوضع الاقتصادي للبلد من دون أن تأخذ الصناعة دورها الفاعل في عملية التنمية الاقتصادية باعتبارها القطاع الديناميكي الذي يحرك كافة القطاعات الأخرى ويزيل من خلال دورته الاقتصادية كافة نقاط الخلل في الوضع الاقتصادي لما يحققه من انتاج يأخذ طريقه الى الاسواق وفي استخدام اليد العاملة العاطلة عن العمل ودفع الاجور لهم ليكوّنوا قوة شرائية جديدة تكون مستهلكة لمنتجات هذا القطاع الذي يزيد من طاقاته الانتاجية لمواجهة الطلب المتزايد... وهكذا تستمر الدورة الاقتصادية التي تحرك القطاعات الاخرى كقطاع النقل والقطاع الزراعي والقطاع التجاري من خلال زيادة معدلات نشاط الاستيراد والتصدير.. سيما وان المنشآت الصناعية العراقية بانتاجها المدني والعسكري وصلت الى مراحل متقدمة من النواحي التكنولوجية وخبرات الاختصاصيين والخبراء والمهندسين والمهارات المهنية والحرفية العالية للعاملين فيها من العمال والملاحظين والمشرفين الفنيين.. لذا فانه ليس هناك طريق لاصلاح الوضع الاقتصادي إلاّ من خلال إعادة الحياة الى المنشآت الصناعية العراقية والعمل على تشغيلها واستقطاب مئات الالاف من الشباب العاطلين عن العمل من عمال وفنيين واداريين وما يترتب على ذلك من تحسين المستوى المعيشي ، فضلاً عن استغلال المواد الأولية المتوفرة في البلد من المنتجات النفطية وخامات الكبريت والفوسفات والرمل الكلسي والزجاجي وخامات الحجر والمرمر وخامات المواد الداخلة في تصنيع السمنت والمنتجات الزراعية وصناعة التعليب والألبسة، فضلاً عن الصناعات الثقيلة التي قطعت شوطاً كبيراً قبل الانتكاسة التي تعرضت لها الصناعة في العراق.
ومن المؤكد بأن الصناعة تشكل العمود الفقري للتقدم الاقتصادي والحضاري الذي ينعكس بشكل واضح على المستوى المعيشي والاجتماعي والتعليمي في كل بلدان العالم.. ولا يأتي ذكر الدول المتقدمة عالمياً إلاَ وتوصف بالدول الصناعية المتقدمة.
ومهما تكن ظروف البلد الاقتصادية والامكانات المالية التي تراجعت مؤخراً فإن اعطاء الأولوية إلى القطاع الصناعي العام وتشجيع القطاع الصناعي الخاص ومنحه التسهيلات التي تساعده على العمل وتكريس كافة الامكانات المالية والخدمية لهذا القطاع سوف يعطي نتائج أكيدة في تحسين الوضع الاقتصادي ليتحول نحو الانتاج وخلق السلع المادية وتحقيق القيمة المضافة التي ترتقي باقتصاد البلد وإحياء تقاليد الشعب العامل المنتج بدلاً من الرضوخ إلى سياسة الاستيراد والاستهلاك التي لن تُخرج البلد من النفق المظلم للضائقة الاقتصادية التي يعانيها حتى لو تحسنت اسعار تصدير النفط.