المنبرالحر

يومٌ في حياة "صاحب اجندة" مهووس بالسلطة الدنيوية!/ فخري كريم

مظاهرات امس الاول، "المُجهَضة" كما كان يُرادُ لها ان تكون، من زخم وعنفوان وسعة حضور وتنوع في المكونات، وامتداد مكاني عابر للطوائف والهويات، شكلت، رغم انف "سوات" وصاحبها، انعطافاً في المزاج العام، وتحولاً في تلمس الطريق، واكتشاف الخديعة.
خرجت جموعٌ من العراقيات والعراقيين، في محافظات الفرات والجنوب والوسط، ومن المدن الغربية المأسورة، يجمعها هدف مشترك، اجندته الوحيدة اعادة الاعتبار لارادة العراقيين وكرامتهم، وتأكيد احقيتهم كمصدرٍ وحيد للسلطة والقرار الوطني، ومطلبهم المباشر وضع المنطلق الممكن للشروع بمحاصرة الفساد، وكسر شوكة الفاسدين والتضييق عليهم، عبر الغاء الرواتب التقاعدية والامتيازات التصاعدية للنواب والوزراء والدرجات الخاصة.
لا يستطيع اي واشٍ من المحيطين بالقائد العام ان يتهم المتظاهرين باعتماد العنف، او استخدام السلاح، ولا حتى العصي والحجارة، التي تُعتبر في حالات كثيرة مظهراً للاحتقان المتفاقم، لا يُجيز القانون مواجهته بالعنف من رجال الشرطة والامن. فالمظاهرات اتسمت بمنتهى السلمية، وخلت بكل المعايير من مظاهر ما يُسمّى ب"الشغب" والتلاسن المُستفز، بل ان المتظاهرين حافظوا على رباطة الجأش والتعامل الاخلاقي المترفع عن السلوك "السوقي" المُستَرجَع من ترسانة اجهزة الامن والمخابرات السابقة وفدائيي صدام، الذي طَبع سلوك وتعامل "ضباط وافراد "سوات" التي تحولت من قوات مطاردة سريعة للارهابيين، الى ميليشيا عدوانية تنفذ الاجندة المشبوهة للمالكي، مهمتها الاساسية كما يتوضح مع مرور الايام، ملاحقة المخلصين من العراقيات والعراقيين. 
لم يوفر القائد العام، المُجَّرد من اي تحصيل اوكفاءة عسكرية او امنية، وسيلة لمنع التظاهرات وتحجيمها وافشال تحركها. فقطع اوصال العاصمة، وسد اي منفذ في شارع جانبي او حارة، تُمَكّن المتظاهرين الوصول الى نقاط التجمع والانطلاق. واذا تابع المرء المشهد في الفضائيات، دون ان يعرف عن النيّة بخروج مظاهرات مطلبية، لتوقع ان الاستنفار الذي دعا اليه القائد العام، مقصود به مواجهة كارثة مُحدقة، تنال من سيادة العراق وتعبث بمستقبل الشعب العراقي.
ليس في هذا السلوك المتعجرف، الخالي من اللياقة السياسية، والمنافي لمبادئ الدستور وروحه، ما يشكل جديداً في النهج الذي اختطه والتزم بتطبيقه، رئيس كتلة دولة القانون والامين العام لحزب الدعوة طوال عهده المشين. فموقفه من الاحتجاجات والمظاهرت كانت دائماً تعبر عن هذا المنوال. كما ليس ملفتاً ايضاً، الدعاوى المُسِفّة التي يوردها كبيّنةً على اتهام المتظاهرين ومحاولة التشكيك بنواياهم، وتوجيه الاتهام لهم بوصفهم اصحاب "اجندات خاصة".
وقد افتُضحت ما تحتويه جعبته، على هذا الصعيد، وباتت من كثرة الاستخدام فاقدة الصلاحية، وموضع تهكم حتى المقربين منه، والعارفين بنواياه المشبوهة التي لم يعد يخفيها، كمنافح متهالك عن كرسي السلطة الهزاز، غير مترفع عن الحديث عنها، حتى في اللحظات المأساوية التي تتعرض البلاد خلالها الى عمليات ارهابية ومخاطر تثير قلق اي مواطن متوازن.
لابد من الاتفاق مع المالكي والاقرار، بأن للمتظاهرين "اجندة خاصة"، لم يحاول احد منهم اخفاءها. كذلك لم تنكر الجهات الداعية لها التستر عليها، بل اعلنتها بكل الوسائل الاعلامية، وهيّأت لها الشعارات وحددت لانطلاقتها في كل محافظة ومدينة، مكاناً وموعداً. وحملت الطلبات المقدمة السلطات المعنية بمنحها رخصة التظاهر، اسماء وعناوين الداعين لها والمحرضين عليها وتفاصيل تحركها. ولا يستطيع مكتب المالكي ان يتهم هؤلاء جميعاً بأي شبهة، مما يلوكها في خطاباته المسمومة.
لكن الناس اكتشفوا الان، ان "المختار" هو الوحيد صاحب الاجندات المشبوهة التي يطالها القانون. فهو حامي البعثيين واللصوص والقتلة واصحاب السوابق في التحريض على الارهاب والقتل، وهو المتواطئ على المكشوف، مع كل فاسد ونهاب لثروة البلاد.
وازيد من كل هذه الاجندة، هو صاحب الاجندة المشبوهة في التطاول على الدستور، والعمل بكل الوسائل لاغتصاب السلطة. وخلافاً لاجندته هذه، يعرف الناس الذين تظاهروا باعتبارهم الاحرص على مصالح العراق ومسيرته، وعزمهم على انجاح العملية الديمقراطية التي ينتهكها المالكي وفريقه الحاكم. والغلبة من هؤلاء هم ممن يحق لهم اتهام السلطان بإيواء البعثيين المشمولين بالاجتثاث، والفاسدين وارباب السوابق في ممارسة الارهاب والتحريض عليه. وبين هؤلاء بالتحديد من يوشوش في أذن المالكي ويزين له ما يقوم به من افعال وسياسات تقع تحت طائلة المساءلة في دولة قانون حقيقية.
فحجب حقٍ دستوري مشروع يقع تحت المساءلة. لكن استخدام السلاح، حتى وان اقتصر على القنابل الصوتية والهراوات ناهيك عن الرصاص طبعاً، جريمة لن يُسدل عليها الستار مع التقادم، وتظل تلاحق من يوعز بها ومن يستخدمها. لكن رئيس مجلس الوزراء يبدو مغيّباً عن هذه الحقيقة الدامغة التي غابت قبله عن ادراك كل الطغاة والمستبدين، ممن خدَّر عقولهم كرسي الحكم، وزينت لهم جدران القصور ووجاهة المقام التي لا تدوم، كما لو انها "منحة الهية" غير قابلة للزوال. 
واذا كان سلوك المالكي وتجاوزاته الفظة على الدستور واستهتاره بارواح ضحايا الارهاب التي تتساقط يوميا، واستخدام السلاح والقوة المفرطة من قوات سوات، بات لصيقاً به معبراً عن نهجه وسياساته المغامرة، فان ردود افعال حلفائه من قادة التحالف الوطني يبدو هو الاخر، مخيباً للآمال. صحيح ان قادة كتلة المواطن وكتلة التيار الصدري، يصرحون بعدم الرضا والاحتجاج على ما يجري، لكن السؤال المشروع يطاولهم ويستفهم بمرارة مشروعة، عما اذا كانت هذه التصريحات كافية لوقف نزيف دم العراقيين وانتهاك كراماتهم وازهاق ارواحهم. وهو نفس التساؤل الذي يوجه الى المنخرطين في كتلة دولة القانون، الذين يغطون ويبررون ويتمادون في دعم وتزكية الحصاد السلبي لزعيم كتلتهم. ومثل هذا التساؤل لم يعد مطروحاً على حزب الدعوة وقادته، اذ هم اعلنوا عن رضا او كراهة، تحمل مسؤولية امينهم العام وتزكية سياساته في اكثر من مناسبة في الاسابيع الاخيرة، بعد ان لاذ الحزب طوال سنوات بالصمت ولم يفصح عن مواقفه، كما لو انه غير معني بما يجري في البلاد من انتهاك يومي وخرق للدستور وتفش للفساد ومظاهر اخرى تطال كل جوانب حياة المواطنين.
لقد فقد المواطن ما تبقى له من ثقة بالسلطات التشريعية والقضائية، وبالشركاء "المياومين" في السلطة التنفيذية. واصبح واضحاً لمن له بصيرة ان تداخلاً مريباً بات يتحكم في ارادة السلطات الثلاث. والوصول الى هذه القناعة خطر كامن يهدد اي مسعىً جاد للخروج من مأزق الحكم. وكلما تعمق اليأس في اوساط المجتمع العراقي، و"مؤشراته" تبدو الان اكثر من اي وقت مضى، تتسع دائرة المحبطين بالتغيير الديمقراطي، مما يفتح الطريق امام القوى المتربصة داخل السلطة القائمة وفي المفاصل الرخوة من الدولة المفككة، ومن المحيطين بالمهووس بالسلطة، نحو المغامرة بكل ماهو قائم، اياً كانت نتائجها على البلاد. وربما يراهن الفريق الحاكم على مثل هذا النزوع، وما يدل عليه بوضوح الاستنفار الذي دعى اليه المالكي عشية المظاهرات، متحججاً بالقلق من تداعيات ما يمكن ان تتسبب به الضربة الصاروخية التأديبية على سورية!
لقد نجح تحدي المتظاهرين وبسالتهم، ولم تنتقص منها التدابير غير المسبوقة لتحجيمها. فالرأي العام الداخلي والخارجي اطلع على واقع الحال، واهم ما استنتجه بالصورة وانعكاسات الافعال المضادة، ان المالكي ينحدر شيئاً فشيئاً، ليكتسب صورة طامح مهووس بالسلطة بوسائل القهر والقوة، بعد ان كان البعض يراهن على عدم اكتمال ملامحه في هذا الاطار. ويصبح لزاماً علينا ان نلتقط هذه اللحظة التي يفقد فيها "المختار" توازنه، لنؤسس لمرحلة توسيع كل اشكال النضال لفضح ممارساته المنافية للدستور على كل صعيد والعمل على عزله سياسياً. ومن بين اهم توجه في هذا المسار، توحيد حركة الاحتجاج ليشمل كل البلاد، ويتجاوز اي صيغة لا تعكس وحدة ارادة العراقيين، بعبورها الطوائف والهويات الفرعية والمناطقية والحزبية.
على كل منظمة ومواطن، العمل على توثيق واحصاء واشهار الجرائم التي يرتكبها المالكي وفريقه، على كل المستويات: الدستورية من اعتقالات وقتل وتعذيب وانتهاكات، والاقتصادية من نهب وسلب وفساد وتواطؤات، والاجتماعية اينما اتضحت معالم التجاوز على الحريات العامة والخاصة، وفي المستويات التي تنتهك حرمة الانسان وتتعدى على خصوصياته.
ان عملاً مبرمجاً اصبح في غاية الاهمية، بعد ان لم يعد لقادة الكتل، بدءاً من قادة التحالف الوطني، من دور وارادة فاعلة للجم انفلات ممثلهم في السلطة، ووقفه عند حدود ما يفرضه الدستور والاتفاقات.
ومثل هذا العمل يتطلب فتح حسابات في وسائل التواصل الاجتماعي، ودعوة كل مواطن بالمساهمة في اضافة ما يستطيع من وقائع الجرائم المرتكبة.
وقد آن الاوان لتشكيل "مكاتب ادعاء عام شعبي" في كل محافظة ومدينة، تضم محامين وقضاة ورجال قانون، تتولى رصد واحصاء تعديات الحاكمين وانتهاكاتهم وتضعها في قوالب قانونية، تمكن من المساءلة والملاحقة في اي وقت، مهما طال الزمن.
ان التظاهر ليس الوسيلة الوحيدة، فلنتوجه لاستخدام كل الوسائل السياسية السلمية التي يجيزها الدستور لفضح الطبقة الحاكمة الفاسدة وعزلها، وصولاً الى الانتخابات القادمة.