المنبرالحر

مغذيات الكراهية في المنطقة العربية / رسميه محمد هادي

على الرغم من أن المنطقة العربية تضم أقدم حضارات التاريخ البشري , وكانت مهدا للديانات السماوية , التي تدعو في مجملها الى التسامح والتعايش مع الاخر المختلف . فأن ثمة غيابا واضحا لهذه المفاهيم , خلال السنوات الماضية . فمع اختلاف المصالح وتعارضها , ظهرت العديد من اشارات شيوع حالة من الكر اهية في علاقات الدول ببعضها بعضا , اذكتها عوامل مختلفة تضافرت لتساعد في انتشار هذه الحالة ويمكن القول ان صناعة الكراهية في الوقت الحالي قد باتت اهم عنوان لعديد من التطورات التي تشهدها المنطقة العربية , وتمتد ايضا الى خارجها في علاقات متشابكة بين دولها والعالم الخارجي , وذلك من خلال اعمال العنف في المنطقة وخارجها بين الطوائف المختلفة , سواء في الدولة الواحدة او في اكثر من دولة .
ان انتشار الكراهية وتجلياتها في المنطقة العربية قد استدعت من لدن العديد من الباحثين فهما لمحفزاتها , سواء على صعيد المجتمع او النظام السياسي او الاقليم او النظام الدولي , ومن ثم محاولة رسم سبل الحد من اثارها , لاسيما ان الكراهية ليست قدرا للفرد او الجماعة او الدولة , فهي لاتولد مع الانسان . فالافراد او الجماعات يكتسبونها من البيئة المحيطة الحاضنة ., اي ان نشوء الكراهية يرتبط بطبيعة الظروف السياسية والمجتمعية وما تحمله من قيم وسياسات وتزداد حدتها عندما ترتبط بايديولوجيات دينية خاصة اذا لم تتوافر اطر قانونية وسياسية ومجتمعية تنظم ادارة هذه التنوعات .وقدحاول بعض الباحثين ايجاد علاقة ارتباطية بين انتشار الكراهية ونوع النظام السياسي وتوصلوا الى وجود علاقة شبه طردية بين تنامي مشاعر الكراهية والنظم الدكتاتورية او الاستبدادية , بينما تتحول هذه العلاقة الى الاتجاه العكسي في حالة النظم الديمقراطية , فكل من هذين النظامين يتميز بسمات وخصائص تميزه عن الاخر , وكل منهما لديه بنية داخلية , وعدسة فكرية يرى بها العالم الخارجي ويحكم عليه من خلالها.
ورغم عدم ارتباط هذه السمات بصورة مباشرة بمشاعر الكراهية , فانها تؤثر بشكل غير مباشر فيها وتدفعها اما في اتجاه كبحها او تغذيتها . ويمكن ان نشير في هذا الصدد الى اليتين او بعدين يتميز بهما النظام الديمقراطي وتفتقدهما النظم الاستبدادية او التسلطية هما --
الاولى- الالية التنظيمية , فالنظام الديمقراطي على الرغم من مثالبه يحمل في طياته ألية تنظيمية , حيث ينظم العلاقة بين الفرد والمجتمع وبين الفرد والنظام السياسي ويخلق اليات يعبر بها الافراد عن توجهاتهم وافكارهم حتى لو كانت هذه الافكار معارضة للتوجه العام في المجتمع . وبذلك فهو يحد من نمو مشاعر الكراهية بين الاطراف المختلفة فكريا لانه يخلق مناخا يسوده مفهوم تقبل الاخر . كما انه ينظمها ( الكراهية) في حالة اندلاعها ويدجنها ويؤسس لها قنوات سلمية حتى تنفجر فيها , بل ويمنع تحولها من المستوى العاطفي او الشعوري الى المستوى السلوكي الذي بتخذ العنف عنوانا له. الالية الثانية هي الالية الاستيعابية - حيث يتفق كثير من علماء السياسة ان الديمقراطية ليست تعبيرا عن حقيقة بنائية ومؤسسية فحسب , ولكنها أيضا مجموعة من قيم واتجاهات ومشاعر تشجع على الممارسة الديمقراطية الفاعلة من جانب الحكام والمحكومين . فالعبرة في النظام الديمقراطي ليست مجرد وجودالاجراءات والمؤسسات السياسية كالدستور , والمجالس النيابية وعيرهما . وانما باحترام الدستور , وتوظيف المؤسسات , ومزاولة الاجراءات بقدر يعتد به من الايجابية والفاعلية . ويقتضي ذلك وجود ثقافة سياسية ديمقراطية تتمثل أهم عناصرها في الشعور بالاقتدار السياسي والايمان بضرورة جدوى المشاركة والتسامح المتبادل وتوافر روح المبادرة والشعور بالثقة السياسية والالتزام بمبدأ لاشخصانية السلطة . من هذا المنطلق يمكن القول ان النظام الديمقراطي على المستوى النظري يحمل في طياته الية استيعابية تستمد قوتها من بعد قيمي وثقافي داخل المجتمع , فالديمقراطية كثقافة تشتمل على قيم تؤدي تلقائيا الى تواري مشاعر الكراهية وكبحها على المستويين المجتمعي والسياسي , مثل قيم المساواة والتسامح والتعاطف وتقبل الاخر . فتوافر هذه القيم في مجتمع ما يخلق حالة السلام النفسي والمجتمعي الذي ينعكس بدوره على مشاعر المواطنين , فيشعرون انهم ليسوا في حاجة الى كراهية من لايتفق مع ارائهم وانما عليهم احترام هذا الاختلاف والتعامل معه بأساليب سلمية .
اذا فالنظام الديمقراطي بطبيعته لايغذي انتشار الكراهية بل ينظمها من خلال خلق مناخ مناهض لها . وهذا عكس ماهو معمول به في النظم الاستبدادية أو الدكتاتورية التي لاتملك هاتين الاليتين , وانما تستخدم بدلا منهما ثلاث اليات تسهم في نمو الكراهية وتتمثل باختصار شديد في الالية القمعية على صعيد الفكر والممارسة , والالية الفكرية المتمثلة في التضليل المتعمد , والالية التفتيتية - التمييزية اي مبدأ فرق تسد . وفي خضم هذه السياسة التفتيتية تتولد مشاعر الكراهية بين طوائف المجتمع المختلفة التي غالبا ماتلجأ الى العنف وتحمل السلاح في مواجهة بعضها بعضا . نستنتج مما تقدم ان العبرة ليست بوجود نظام ديمقراطي قائم على مؤسسات فحسب , ولكن الاهم من ذلك هو تغلغل قيم الديمقراطية داخل نفوس شعوب هذه المجتمعات وثقافاتها مثل قيم التسامح والتعاطف والسمو وتقبل الاخر .فبدون تحول هذه القيم الى ثقافة في المجتمع , تضل الديمقراطية بناء ماديا دون روح يسهل اختراقه وهدمه . الاستنتاج الاخر - ان النظام السياسي ليس هو المفتاح الوحيد للشعور بالكراهية , وانما هناك منظومة فكرية ونفسية ( وهي مجموعة من العوامل العقيدية والشعورية والادراكية والتحفيزية) تفسر الشعور بالكراهية , وتوكد ان طبيعة الانظمة الحاكمة في جزء من كل تعمل في اطاره , وتتأثر بمعطياته
عند هذا الحد يمكن طرح السؤال الاتي كيف يمكن ان نكبح الكراهية في مجتمعاتنا ونحقق الديمقراطية الحقيقية في ظل التعقيدات الحالية القائمة ؟ وهو سؤال في مكانه فالمنهج العلمي الجدلي لا يقتضي تفسير الواقع فحسب بل طرح البدائل لكيفية لتغييره --
مقدما وبعيدا عن المكابرة أجيب لابد من الاعتراف بجدية المعوقات القائمة حاليا لكبح الكراهية بما يؤدي لتحقيق الديمقراطية الحقيقية في بلادنا . فهناك مشكلات جدية تقف حائلا, وفي مقدمتها قضية الاندماج المجتمعي , فهناك احتياج ملح الى طرح قضية الاندماج والتماسك الاجتماعي الى بؤرة النقاش العام مرة اخرى بناءاعلى منهجية الحاجة الملحة لاعادة بناء جماعة سياسية جديدة على اسس عقلانية رشيدة . كما ان هناك ايضا غياب سياسات ثقافية لبناء الهوية الوطنية على اساس احترام التنوع , ومايترتب على ذلك من تغيير مقصود ومخطط في كافة برامج التنشئة, بدءا بالتعليم , مرورا بالتنشئة السياسية في كافة المؤسسات السياسية , والعمل على تغيير كثير من المكونات الصلبة في الثقافة العامة للمجتمعات العربية . العائق الاخر هو ضعف المجتمع المدني , بنفس قدر عدم توفر ارادة سياسية دافعة للتغيير , كان هناك غياب للفاعلين الاخرين غير الدولة فلم يتوافر في المجتمعات العربية مجتمعات مدنية لديها رؤية واضحة لتحديث المجتمع . وهكذا ظلت القطاعات الجماهيرية الواسعة خارج اطار اي جهود للتغيير. ان القضايا الثلاث السابقة لايمكن حسم اي منها الا في ظل نظام سياسي ديمقراطي يؤمن بالتعددية , ويحقق الحقوق والحريات لكل افراد الشعب دون تمييز . ورفع مصلحة الوطن فوق الانتماءات الفرعية . والعمل على سد فجوة التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية التي تغذي الشعور بالهويات الفرعية. و يظل المدخل السياسي الاقتصادي من اهم مداخل الدمج الاجتماعي من خلال سياسات مناهضة للتمييز على أساس الهوية .فالبدا بتحسين الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية للمناطق والفئات التي تعاني التهميش والاستبعاد هو بداية الطريق للمصالحة الوطنية من خلال بناء الثقة وتاكيد حسن النيات وبالتالي السير في طريق الحد من الكراهية . واخيرا فان الكابح الاكبر للكراهية في المجتمعات العربية هو حدوث تحول ديمقراطي حقيقي مع الوعي بان اشكاليات هذا التحول لاترتبط فقط بالنظم السياسية لكنها انعكاس ايضا لبنى وهياكل اجتماعية قائمة , وما يرتبط بها من قيم . مما يستلزم العمل على كل المحاور الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية معا .
للمزيد من التفاصيل انظر
1-خالد الحروب - الديمقراطية وادارة الكراهيات في المحتمع - 2 حسين علوان واشكالية التعاقب في السلطة -3 عبد الغفار رشاد - التطور السياسي والتحول الديمقراطي
4- لبيب الطاهر سورة الانسان العربي ناظرا ومنظورا اليه
ملحق مجلة السياسة الدولية العدد 199 5-
واغيرهم