المنبرالحر

14تموز ومعركة المفاهيم / فرحان قاسم

كانت صبيحة الرابع عشر من تموز حسما لمجموعة من الصراعات ، وفي الوقت نفسه ميدانا لمجموعة من الصراعات الجديدة ، وعلى رأسها صراع المفاهيم الذي كان ولا يزال رغم مرور عقود من الزمن شاخصا نلمسه في كتابات الباحثين على اختلاف مشاربهم ، وهذا امر طبيعي ، لان المفاهيم كما هو معروف ليست صياغات لغوية مجردة ، وانما هي تكثيف نظري لمعارك تدور في الحقل الاجتماعي .
ومن بين مفاهيم كثيرة متقاطعة مع بعضها ظهرت لتوصيف الرابع عشر من تموز ، اود ان اركز فقط على مفهومي " ثورة 14 تموز " و " انقلاب 14 تموز " ، حيث تتعدد اسانيد ودلالات كل طرف ، لكي يحدد في النهاية موقفه من الحدث الذي لا يختلف اثنان على كونه نقطة تحول مفصلي في تاريخ العراق الحديث والمنطقة والعالم ، وليس ادل على ذلك من حجم ونوع التدخلات التي حاولت الاجهاز عليه منذ لحظة ولادته او تلك التي دعمته .
14 تموز فعل سياسي رافقته تغيرات اقتصادية ، اجتماعية و ثقافية . و لغرض تبيان توصيفه بدقة بعيدا عن الرغبات والاهواء المسبقة لا بد من تتبع الظاهرة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية منذ تأسيس الدولة العراقية عام 1921 على الاقل ومقارنة ذلك بما حصل بعد الرابع عشر من تموز، لكي نتوصل الى المفهوم الدقيق في توصيف 14 تموز.
يمكننا رسم صورة شاملة للأوضاع قبل الرابع عشر من تموز وعلى الشكل الاتي :
• ان النفوذ البريطاني في العراق صمم نظاما سياسيا " مستقلا في الظاهر تابعا خاضعا في الجوهر " و " تاريخ العراق المعاصر قبل 14 تموز هو تاريخ علاقته ببريطانيا " و ان هيمنة الاقتصاد البريطاني على الاقتصاد العراقي مرتبط بثلاث سمات تعبر عن هيمنة بلد على بلد اخر وهي " الامكانات الواسعة لبريطانيا ، وقدرتها على فرض استراتيجيتها الاقتصادية ، اخضاع الصناعة والزراعة في العراق لمآربها المختلفة " .
• " استطاعت بريطانيا ان تحقق مشروعها في بناء الدولة الجديدة على النحو الذي ارادته" لتحقيق تبعية العراق لبريطانيا والاستحواذ على مكامن النفط .
• ملكية الارض نوعان : الملكية شبه الاقطاعية وملكية الدولة ( الاراضي الاميرية ) ولذلك اصبح الاقتصاد العراقي ذا طابع مزدوج فهو " مفتوح بالنسبة لكبار الملاكين ومغلق بالنسبة للفلاحين ( اقتصاد اقرب الى الطبيعي ) .
• الاقتصاد العراقي قبل 14 تموز اقتصاد متخلف بسبب حقيقتين ثابتتين : الاولى " ان القوى البشرية والثروات الطبيعية كانت في حالة ناقصة وغير عقلانية من الاستثمار ". والثانية " ابقاء هذا الوقع على حاله من قبل قوى غير اقتصادية ( التبعية الخارجية والعلاقات الاجتماعية شبه الاقطاعية ) . انعكس هذا التخلف على مجموعة من المظاهر :
- بلغ رأسمال القطاع الصناعي الاجنبي عام 1951 ( 100 ) مليون دينار عراقي ، بينما بلغ رأسمال القطاع العراقي العام لنفس العام مليون دينار فقط ، وبلغ رأسمال القطاع الصناعي العراقي الخاص ( 4 ) مليون دينار فقط . و واضح ان رأسمال القطاع الصناعي العراقي يشكل 5 في المائة فقط من الرأسمال المستخدم في الصناعة و 95 في المائة منه رأسمال اجنبي .
- عام 1957 بلغت نسبة الاستيراد من بريطانيا 24 في المائة والصادرات اليها 28 في المائة.
- مجموع سكان العراق عام 1957 ( 6339960 ) مليون فرد و بلغ الدخل القومي لكل فرد في العراق بعد الحرب العالمية الثانية ( 20 – 30 ) باون استرليني بينما بلغ في بريطانيا للعام نفسه ( 101 ) باون وفي امريكا ( 109 ) باون .
- انعكس الدخل القومي الواطئ للفرد على كمية ونوع الغذاء وعلى نسبة الوفيات وعلى الحالة الصحية والاجتماعية والثقافية العامة للفرد .
- بلغ عدد المصابين بالتراخوما عام 1956 ( 54660 ) والملاريا ( 24866 ) والدزاننتريا ( 41201 ) .
- بلغ عدد المصابين بالسل الرئوي ( 500 ) الف مواطن منهم ( 50 ) الف مصاب في بغداد .
- بلغت نسبة الاطباء ( طبيب عراقي لكل 5800 ) مواطن بينما تهبط هذه النسبة في البلدان المتقدمة للفترة نفسها ( طبيب لكل 2000 ) مواطن ، بلغ عدد المستشفيات العامة والاهلية لعام 1957 ( 122 ) مستشفى فقط .
- ثلث عوائل العراق ( 431526 ) الف عائلة تسكن غرفة واحدة فقط ، و ( 200 ) الف عائلة تسكن الصرائف ، و ( 300 ) الف عائلة تسكن بيوتا من الطين . وتبلغ العوائل التي تسكن بيوتا من الطابوق والصخر ( 20 في المائة) فقط .
- بلغت نسبة الامية عام 1957 ( 95 في المائة) من السكان .
- في عام 1957 بلغ عدد المدارس الابتدائية بضمنها رياض الاطفال ( 1844 ) وعدد الطلاب ( 367374 ) الف طالب و طالبة و عدد المعلمين ( 11151 ) الف معلم .
- في عام 1957 بلغ عدد السكان الفاعلين ( 58 في المائة) اي أن 42 في المائة من السكان خارج ميدان النشاط الاقتصادي الانتاجي. .
• لخص الجواهري الوضع السياسي في العراق كشاهد عيان حيث ذكر في مذكراته " كان نوري السعيد يهيمن على حياة البلاد السياسية بشكل غير مسبوق حتى في الفترات القليلة التي كان لا يؤلف فيها هذه الوزارة او تلك ، كان حكم نوري السعيد استبداديا قضى خلاله على كل نشاط سياسي وهو يعتمد على دعم الجيش وعلى كفاءة اجراءات الامن مقللا من السخط الشعبي " كما اكد الجواهري ما ذهب اليه مجيد خدوري في كتابه " العراق المستقل " حيث " تم القضاء على حرية التعبير، وغصت السجون ومعسكرات الاعتقال بالناس . " فالحكم الملكي الوراثي حكم استبدادي ولم تكن الانتخابات والبرلمان الا ألعوبة بيد الملك ونوري السعيد . ان الصورة السياسية السابقة يمكن تلمسها بوضوح من خلال الوثائق التي اعتمدها الباحث الراحل عبد الرزاق الحسني في كتابه " تاريخ الوزارات العراقية " .
• غني عن القول ان التبعية الكولونيالية التي كانت واحدة من نتائج معاهدة سايكس بيكو التي قطعت التطور الطبيعي الداخلي للمجتمع العراقي وكرست العلاقات شبه الاقطاعية شبه الرأسمالية بقوانين واجراءات عديدة وربطت العراق بمعاهدات جائرة عززت من تلك التبعية وعمقت الاقتصاد الاحادي الجانب .
• ان العراق قبل الرابع عشر من تموز يمثل نموذجا للتخلف الاقتصادي والاجتماعي سواء من حيث الضعف في استثمار موارده البشرية والطبيعية او من حيث تبعيته للاستعمار البريطاني .
• وبعد تلك الصورة المكثفة عن الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي للفترة ما بين 1921 – 1958 يمكننا ايضا رسم صورة شاملة عن الوضع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي بعد 14 تموز .
- ان ازاحة النظام الملكي باستخدام القوة هو احد الدروس التي خرجت بها الحركة الوطنية ، بعد ان فشلت جميع الاساليب السلمية من تظاهرات وانتفاضات باسلة ونضالات مهنية ونقابية امام الاساليب الوحشية التي مارسها النظام الملكي لقمع الشعب وتكميم افواهه ، ان استخدام القوة العسكرية لإسقاط النظام الملكي وسيلة لإرساء نظام بديل للاستبداد ، لا لإعادة انتاجه بواجهات اخرى والبيان الاول في 14 تموز يؤكد هذه الوجهة " ان الحكم يجب ان يعهد الى حكومة تنبثق من الشعب " ولكن الرياح جرت باتجاه اخر . ان النظام الجمهوري حل محل النظام الملكي كخطوة اولى لإنجاز متطلبات مرحلة التحرر الوطني الديمقراطي .
- تم توجيه ضربة قاصمة الى الاحتلال وركائزه بالخروج من حلف بغداد وتحرير العملة العراقية من التبعية الإسترلينية واصدار قانون رقم 80 لسنة 1961 واصدار قانون الاصلاح الزراعي رقم 30 لسنة 1958 .
- توثيق العلاقة مع الاتحاد السوفييتي السابق من خلال اتفاقية 1959تركت اثرها الواضح على مختلف جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والصحية والتعليمية .
- اصدار قانون الاحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 الذي ازاح الحيف عن كاهل المرأة العراقية .
• كان التناقض الرئيس في ظل النظام الملكي يجري بين الغالبية العظمى من ابناء الشعب العراقي من جهة وبين الاحتلال البريطاني والاقطاع من جهة اخرى و في صبيحة الرابع عشر من تموز تم حل هذا التناقض لصالح الغالبية العظمى من ابناء الشعب عن طريق تحالف اجتماعي واسع سبقه ، اشترك فيه العمال والفلاحون و البرجوازية المحلية بغالبية شرائحها وافراد القوات المسلحة من ضباط ومراتب اخرى وانعكس هذا التحالف الاجتماعي الواسع المعبر عن مهمات مرحلة التحرر الوطني الديمقراطي على تحالف واسع للقوى السياسية مع منظمة الضباط الاحرار .
• اذن في الرابع عشر من تموز تم حل التناقض الرئيس لصالح القوى الاجتماعية والسياسية المعنية بتدشين انجاز مهمات جديدة ( التحرر من الاحتلال ، القضاء على الاقطاع ،اعتماد ستراتيجية اقتصادية تنموية تستهدف القضاء على التخلف بمختلف جوانبه ) فهي اذن ثورة بكل ما تعنيه الكلمة في القاموس السياسي ، اما الحديث عما الت اليه تلك الثورة وفشلها في الاستمرار والتصاعد فموضوع يخرج عن هدف المقالة.