المنبرالحر

لماذا أضحت " العلمانية " التركية في مهب الريح ؟ / رضي السمّاك

مع أن كمال أتاتورك مؤسس النظام الجمهوري التركي سنة 1923 الذي شيّده على أنقاض الامبراطوري الثيوقراطي العثماني ، صمم نظامه على اُسس تحاكي شكلياً الأنظمة العلمانية الغربية ، إلا أن هذه الأسس العلمانية لم تكن من بينها التعددية الحزبية المفتوحة كما في الدول العلمانية الديمقراطية الغربية ، وأكتفى بتأسيس حزب الشعب الجمهوري بوصفه حزباً وحيداً في البلاد . وحتى عندما سُمح بالتعددية الحزبية بعد رحيله جاءت التعددية قومية علمانية محدودة في إطار النخبة الحاكمة تتناوب السلطة وفق اللعبة المصممة سلفاً وكانت منبثقة من الحزب الحاكم ، كالحزب الديمقراطي وحزب الحركة القومية ، ولم يكن مسموحاً للاحزاب اليسارية والإسلامية بالعمل العلني ولا بالمشاركة في الانتخابات تحت أي غطاء ، وإن كان الموقف من التيارات الاسلامية أقل تشدداً في فترة المد اليساري ، فسُمح لنجم الدين اربكان بانشاء حزب إسلامي في أوائل السبعينيات "حزب النظام الوطني " والذي تعددت تسمياته بعدئذ تارةً تبعاً للعبة السياسية والمناورة في الحفاظ على وجوده كلاعب مقبول على ملعب الحياة السياسة ، وتارةً اخرى تبعاً لانشقاقاته . وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية خلال فترة المد اليساري العالمي وحركة التحرر الوطني الافروآسيوية أستشعرت السلطة " المتعلمنة " المتحالفة مع الغرب في حلف " الناتو " العدواني بتنامي حركة المعارضة الداخلية ، وعلى وجه الخصوص " الحزب الشيوعي التركي " الذي ظل يواجه قمعاً منهجياً لسنوات طويلة وجرى خلالها اعتقال ناظم حكمت أحد قادة الحزب والذي كان يحظى بشعبية واسعة وبخاصة في صفوف المثقفين والادباء . ومع صعود تيارات الإسلام السياسي بعد نجاح الثورة الإيرانية 1979 أستشعر النظام هذه المرة بخطورة تنامي التيار الإسلامي على النخبة الرأسمالية العلمانيةالحاكمة بمختلف تلاوينها ، وكانت المؤسسة العسكرية تعتبر نفسها هي الحامية للشرعية لعلمانية الدولة بصيغتها الديمقراطية "الشكلانية " وبخاصة بعد نجاح الجيش العام 1960 بانقلابه العسكري على رئيس الحكومة المُنتخب عدنان مندريس ذي الميول الإسلامية ، فتم إعدامه ، كما حُكم أيضاً على رئيس الجمهورية حينذاك محمود جلال بايار بالسجن مدى الحياة .
وفي أواخر السبعينيات بدا ان قوى اليسار التركي والقوى الديمقراطية العلمانية قد استعادت عافيتها من الضربات المتلاحقة فجاء انقلاب كنعان ايفرين عام 1980!لإحكام قبضته على الساحة السياسية وأقدم على اعتقالات واسعة النطاق لتلك القوى وشدد من خنق الحريات العامة . وفي أواخر التسعينيات نجح الجيش أيضاً في اقصاء أربكان رئيس الوزراء الإسلامي زعيم حزب الرفاه من السلطة وتم حل حزبه ، كما تم حل وريثه حزب " الفضيلة " . ومع أن المؤسسة القضائية كانت متساوقة ومنسجمة دائماً مع المؤسسة العسكرية في حماية النظام " العلماني " من أي اختراق للإسلاميين ، إلا أنها بدت في مطالع الألفية الثانية تفقد زمام المبادرة في الحيلولة دو اختراق الاسلاميين للنظام العلماني فقد نجحوا بذكاء ، استناداً إلى خبرتهم المديدة في اللعبة والمراوغة السياسيتين ، في الوصول إلى البرلمان بأغلبية مكنتهم من تشكيل حكومة بمفردهم من خلال حزبهم الجديد " التنمية والعدالة " في انتخابات 2002 . وبالرغم مما كان يُتوقع ان يحدث انقلاباً جديداً يزيحهم من الحكم كالحالات السابقة إلا أن ذلك لم يحدث ، فقد تمكن الحزب الإسلامي الجديد الحاكم من التغلغل ليس في المؤسسات المدنية للدولة فحسب بل وفي أدق مفاصل ثلاث مؤسسات حساسة مهمة ألا هي المؤسسة العسكرية ، والمؤسسة الأمنية والاستخباراتية ، والمؤسسة القضائية ، وبدت مؤسسة الجيش التي اُنهكت لفشلها السياسي في إدارة الدولة ذات المشاكل الداخلية المزمنة ، ونالت سمعة سيئة من الانقلابات القمعية المتعاقبة ومصادرتها الحريات العامة ، نقول بدت عاجزة عن وضع حد لهذا الاختراق وبخاصة مع تقدم عتاة جنرالاتها في السن . وهكذا تكرر نجاح "حزب التنمية " بعدئذ في الفوز بالانتخابات النيابية والرئاسية مما مكّنه من اجراء تغييرات واسعة في قواعد اللعبة السياسية ، وأصبح النظام من حيث الجوهر إسلاموياً شعبوياً شمولياً بامتياز و" علمانياً " من حيث الشكل ، وأصبح رئيسه رجب طيب اردوغان سلطاناً عثمانيا متوجاً ببزة أفندية معاصرة بدون عمامة السلطان التقليدية.
الآن يكننا القول في ظل قراءة التداعيات المتوالية المتسارعة لفشل الانقلاب العسكري إن "العلمانية " و" الديمقراطية " الشكلانيتين للنظام القائم واللتين ارساهما أتاتورك منذ تأسيسه قبل 82 عاماً أضحتا بكل معنى العبارة في "مهب الريح " وهذا ما دفع اوساط ودول غربية نددت بالإنقلاب لابداء احتجاجاتها على حملات القمع والتطهير الواسعة النطاق غير المسبوقة في تركيا بحق قوى المعارضة داخل مؤسسات النظام وخارجها وفي عدادها كثرة من الابرياء الديمقراطيين والإعلاميين اللامنتمين المشكوك في ولائهم لرئيس الجمهورية والحزب الحاكم وكل ذلك تحت ذريعة مطاردة حليف اردوغان الاسلامي السابق فتح الله غولن الرابض في كنف الرعاية الأمريكية ، ولم يتورع أردوغان عن أبداء نهمه الشديد لإعادة العمل بعقوبة الإعدام التي ألغتها دول ديمقراطية عديدة في العالم الغربي الحر ودول نامية اخرى ، مما دفع الدول الغربية الديمقراطية والاتحاد الاوروبي ومنظمات حقوق الانسان الدولية للتنديد بتلك الحملة القمعية وابداء مخاوفها على مستقبل الديمقراطية في تركيا .
ما معنى كل ذلك ؟ ليس من معنى مستخلص من كل ذلك الآن سوى أن عصر "الأردوغانية " بطابعه الشمولي الشعبوي تحت مسمى نظام "علماني " اكثر شكلانية قد انبلج فجره ، ولا معنى لذلك أيضاً سوى ان " العلمانيين " الحقيقيين من يساريين وأتاتوركيبن وديمقراطيين إنما يدفعون الآن جميعاً فاتورة صيغة "العلمانية " التلفيقية التي ارساهما أتاتورك وخلفاؤه المؤسسون الاوائل ، وما حدث ويحدث ما هو إلا نتاج لاقصاء ممنهج ساد مرحلة تاريخية طويلة من عمر النظام الجمهوري التركي باقصاء القوى الديمقراطية واليسارية ، ولولا هذا الاقصاء لما تمكن الاسلام السياسي الشمولي من اختطاف دولة علمانية بأكملها عمرها زهاء قرن من الزمان . ولولا رعاية الغرب لهذه الدولة العلمانية المسخ وبخاصة بعد ضمانه انضمامها لحلفه " الناتو " وصمته الطويل عن تغييب الديمقراطية وقمعها للقوى اليسارية والريمقراطية وصولاً لرعايتها المنظمات الارهابية الاسلاموية ودعمها لما شهدنا الآن ولادة الشمولية في أبهى صورها التي تتظاهر الرأسمالية الآن فقط بالتنديد بها .
ولعل من أبرز الدروس المستفادة من غروب هذه الدولة "العلمانية " أن ثلاثة اشكال من الدولة العصرية لا يمكن ان تتحقق إلا بحد أدنى من النضج او الصورة الناجزة متمثلة في بنية اجتماعية متطورة : الأولى الرأسمالية فلا يمكن بناء رأسمالية مُنتجة متطورة الا ولها بنية اجتماعية رديفة تعكس هذا التطور ، والثانية الاشتراكية فلا يمكن أن تُبنى على أيدي شموليين لا يؤمنون بالتعددية او يناصرون الاشتراكيات الشمولية في عصرنا ، ولذك رأينا كيف فشلت الاشتراكية رغم ما قطعته من تطور مديد بعد تحايل منظروها الروس على قاعدتها العلمية التي تقول ان الاشتراكية لا تُبنى الا بلد في رأسمالي متطور ، فقالوا بأنه يُمكن أن تُبنى في الحلقة الأضعف من الرأسمالية في حين أنها شُيدت على بُنية أقرب إلى الاقطاعية ! والثالثة العلمانية فلا يمكن لبلد متخلف انجاز علمانية حقيقية بدون ديمقراطية ولا ديمقرطية حقيقية بلا علمانية ، وبالتالي فكل هذه الاشكال شروط قيامها واحدة ومتداخلة .