المنبرالحر

هل تعالج السياسة الاقتصادية الجديدة أزمة الاقتصاد الريعي في كردستان؟ / د. كاوه محمود *

أعلنت حكومة إقليم كردستان في شهر ايار 2016 برنامجها للاصلاح بعنوان الاصلاح في الاقتصاد من أجل التنمية المشتركة وحماية المعدمين، على الرغم من أن الحكومة ومراكز القرار قد اعلنتا خلال السنوات السابقة برامج وخطط عديدة للاصلاح الاقتصادي والاصلاح الاداري والمالي ومواجهة الفساد تمخضت عنها أجهزة أو مؤسسات لم تستكمل أو تؤدي عملها بشكل انسيابي ولم تعط مردودا واضحا لعملية التغيير، ودون ان توضح لنا الحكومة مصير تلك البرامج والخطط.
يأتي البرنامج الجديد في اطار طلب الحكومة من البنك الدولي وعبر مؤسسة (Rand) لوضع هذا البرنامج الذي يتطابق مع وصفة البنك الدولي وتصوراته حول الاصلاح الاقتصادي. وعلى الرغم من ان البعض حاول تسويق البرنامج عبر كونه يفتح مجالا للاقتراض من البنك الدولي لمعالجة الازمة الاقتصادية الحالية في كردستان، وكونه يعتبر تواصلا مع مؤسسات دولية كبيرة، وبالتالي يفتح مجالا للانخراط في الاقتصاد العالمي، اضافة الى اعتبار بان هذه المؤسسة التي انبثقت عام 1945 وتسيطر الولايات المتحدة الامريكية على حوالي نسبة الربع من رصيدها، تمتلك امكانات وكوادر وطاقات تستطيع ان ترسم لنا خططا لمعالجة الازمات، الا ان جوهر وثيقة الاصلاح في الاقتصاد لا يمثل مجالا للاقتراض وغيرها من النقاط التي وردت في مجال تسويقها. فالوثيقة تمثل رسم سياسة اقتصادية مبنية على اساس وصفة البنك الدولي وهي وصفة تعتمد على تبني الليبرالية الجديدة وتعميمها على كافة الاقتصاديات العالمية وخاصة على البلدان النامية، واستخدام كافة المعطيات البيانية والاحصائيات لقولبة الواقع المجتمعي في تلك البلدان بكافة جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لتبرير تبني هذا النموذج دون النظر الى الواقع والخصوصيات، مما يعطي الانطباع الاولي الواضح بان معظم برامج وخطط البنك الدولي للاصلاح الاقتصادي في البلدان، تتطابق في السياسات والتوجهات وتختلف فقط في استخدام المعطيات والبيانات، وكأن الامر وصفة جاهزة، في وقت تشهد الاقتصاديات الرأسمالية الكبيرة في الوقت الحاضر وحتى في تجاربها السابقة لمواجهة الازمات ومنها أزمة الرأسمالية العالمية عام 2008 والتي سمتها بالازمة المالية، تخليا عن هذا النموذج وتبني الكينزية في الاقتصاد وتدخل الدولة وصرفها مليارات الدولارات من أموال الاحتياطي والتي تم جمعها من خلال ضرائب المواطنين، على الشركات الكبيرة والبنوك بغية حمايتها من الافلاس. وتزامن التخلي عن الليبرالية الجديدة مع ابتعاد نهج المحافظين الجدد عن رسم السياسات الداخلية والدولية، والتوجه إلى تبني سياسات تكييف لمواجهة الازمة.
توعز السياسة الاقتصادية الجديدة للحكومة والمرسومة من قبل البنك الدولي أساس الازمة الموجودة في كردستان الى قضية تدني اسعار النفط وحرب داعش ولجوء النازحين الى كردستان اضافة الى اشكالية العلاقة مع بغداد والتي نجم عنها قطع حصة الاقليم من الميزانية. وتشير الوثيقة المطروحة في هذا المجال الى بعض الجوانب منها قضية هيمنة القطاع العام على الاقتصاد معللا وجود الاعداد الكبيرة من الموظفين في مؤسسات الدولة بهيمنة القطاع العام دون ان يشخص بان توظيف هذا العدد الكبير جاء نتيجة سياسات خاطئة في مجال التعامل مع الطاقات البشرية في كردستان والعمل على توظيفها من منطلق الكسب الحزبي الضيق وكسب الولاءات، وعدم توجيهها الى مجالات الانتاج وبقائها في قطاع الخدمات، وتكدسها في اطار البطالة المقنعة. غير ان هذا التوجه لا يعني هيمنة القطاع العام الذي لا يملك أية مشاريع انتاجية أساسية في كردستان، اضافة الى عدم وجود أي اثر له في قطاع الخدمات الاساسية في مجال الاتصالات التي تدر حتى الان أموالا استفاد منها القطاع الخاص الطفيلي المشارك مع البرجوزاية البيروقراطية المهيمنة على ادارة الدولة.
الجدير بالذكر ان الوجهة الاساسية نحو الليبرالية الجديدة لم تبدأ بصياغة هذه السياسة الاقتصادية الجديدة. فقد تم تشريع قانون الاستثمار الاجنبي على اساس مواصفات ومتطلبات وجهة الليبرالية الجديدة، وتمت تصفية كافة المشاريع والمعامل الانتاجية التابعة للقطاع العام خلال السنوات الماضية، كما تمت صياغة القوانين والتعليمات المتعلقة بالمساطحة وايجار الاراضي، اضافة الى الاستثمار في مجال التعليم والصحة ضمن هذه الوجهة. وضمن هذه الممارسات السابقة والوجهة المتبعة في ظل الاقتصاد الريعي التي وجهت مجالات الاستثمار الى العقارات، في ظل فقدان مفردات الحكم الرشيد، تلازمت الازمة الاقتصادية مع مظاهر الفساد المستشري في المجالات العديدة في ادارة الاقتصاد الوطني وادارة الحكومة.
ان الاسباب الحقيقية للازمة الاقتصادية في كردستان تكمن في جانبها الداخلي في كونها ازمة ناتجة عن السياسات الاقتصادية المتبعة في السنوات السابقة والتي تبنت الليبرالية الجديدة. أما الجانب الاخر من الاسباب فتكمن في طبيعة الاقتصاد الريعي في ظل سياسة رأسمالية متخلفة وتابعة للمراكز الرأسمالية، وهذا يعني بأن الازمة الحالية التي تعصف بالاقتصاديات الريعية ذات الطبيعة الراسمالية المتخلفة تنعكس على وضع الاقتصاد الكردستاني. علما بان جزءا من اسباب ظهور أزمة هذه الرأسماليات تعود الى ان المراكز الرأسمالية المتطورة وبعد ان فشلت سياساتها التكييفية في تجاوز الكساد والازمة الحالية التي بدأت منذ عام 2008 ولا يزال مستمرا حتى الان، وتحاول معالجة أزمتها على حساب بدلدان الرأسماليات التابعة المتخلفة ذات الاقتصاد الريعي والتي تعتبر مصادر للطاقة، من خلال التدني في اسعار الطاقة وتأجيج الصراعات المسلحة وبؤر التوتر كما يحدث في الشرق الاوسط، وتكون النتيجة زيادة النفقات العسكرية وانتعاش الصناعة العسكرية الرأسمالية التي تمثل مجالا لتجاوز الازمة الحالية للرأسمالية المعاصرة.
ان المعالجات الاساسية للسياسة الاقتصادية الجديدة للحكومة تتمثل في تحرير التجارة وعدم وضع رسوم وكمارك على الواردات الزراعية وخاصة المواد الغذائية المستوردة، والتعامل مع شراء الحنطة من الفلاحين حسب سعر السوق، مما يؤدي الى رفع أي دعم سواء ما يتعلق بالمحاصيل الزراعية المحلية التي لا تستطيع منافسة الواردات من دول الجوار. كما ان السياسة الاقتصادية الجديدة تستمر في قضية اعفاء الاستثمار الاجنبي من الرسوم والضرائب واعفائه من الالزام بتشغيل العمالة الوطنية ولو في اطار نسبة محددة، في حين تؤكد هذه السياسة على قضية رفع نسبة الرسوم والضرائب الداخلية على المواطنين.
وفي المجال المالي فان هذه السياسة تشير بشكل عام الى معالجة السياسة المالية ووضع المصارف وتؤكد على قضية العودة الى البنك المركزي العراقي. ولو كان للاقليم سياسة نقدية وبنك مركزي لأكدت الوصفة الليبرالية الجديدة على خفض سعر العملة.
تؤكد وثيقة السياسة الاقتصادية الجديدة ومن خلال عنوانها على التنمية المشتركة وتهدف بذلك إلى تجنب مفهوم التنمية المستدامة التي تأخذ بنظر الاعتبار الانسان كمحور للتنمية اضافة الى طابع الاستدامة الذي يعني مراعاة وضع الاجيال القادمة في نظر الاعتبار عند وضع السياسة الاقتصادية.
ان فلسفة الوثيقة الاقتصادية الجديدة التي تتحدث عن الاصلاح تحدد وظيفة الدولة في اطار الدولة الحارسة والحديث عن الاشراف والابتعاد عن مهام التنمية المستدامة بحجة ان الدولة لا تستطيع ادارة الاقتصاد الوطني وعليها ان تسلم قيادة هذه السياسة والادارة في كافة المجالات بما في ذلك الركائز الاساسية للأقتصاد الوطني والتي تمثل بنية تحتية للتنمية في القطاعات والمجالات الاخرى الى القطاع الخاص.
وبهذا الصدد من الضروري ان نميز بين مهام الدولة لوضع السياسة الاقتصادية ومتابعتها في اطار تحقيق التنمية المستدامة واعطاء دور رئيس للقطاع الخاص في هذه العملية على أساس الجدوى الاقتصادية، وبين التخلي عن هذه الوظيفة واعطاء قيادة الاقتصاد في وضع وصياغة برامج التنمية والسياسة الاقتصادية إلى القطاع الخاص وهذا يعني تبني الليبرالية الجديدة والخصخصة المفرطة مما يولد رأسمالية متوحشة تزداد تبعيتها إلى المراكز الرأسمالية الكبيرة التي تحدد حتى وظيفتها على الصعيد العالمي ولدينا أمثلة واضحة في هذا المجال في دول الاتحاد الاوروبي، وما اسباب الازمة الاقتصادية في اليونان وقبرص وبعض دول الاتحاد الاوروبي الا نتيجة هذا التوزيع الكامل للمهام والاختصاصات الاقتصادية على الصعيد الدولي وفق نموذج الليبرالية الجديدة.
ان البديل عن هذه السياسات الخاطئة والتي مورست خلال السنوات السابقة ويتم اليوم المبالغة في الولوج والاستمرا فيها، هو التخلي عن هذه السياسات والاعتماد على الكفاءات الوطنية الكردستانية في رسم السياسة الاقتصادية بالاعتماد على بيانات واحصائيات موثوقة وبالاستفادة من خبراء لا ينتمون سلفا الى مدرسة فكرية أو منحازين الى نموذج معين للسياسات الاقتصادية. ويتطلب الامر الاحتكام الى واقع الاقتصاد الكردستاني واشكالياته ودراسة واقع كل قطاع اقتصادي والوصول الى مشتركات تمثل تنسيقا ذا طابع ديمومي بين تلك القطاعات، واشراك الخبرات المحلية في دراسة ورسم هذه السياسة.
ان معالجة الازمة الاقتصادية تتم من خلال طرح البديل الذي يحقق التنمية المستدامة في الظروف الخاصة بكردستان حيث الطابع الاجتماعي والثقافي للقوى المنتجة والقوى البشرية بشكل عام، وربط تلك السياسية بتحقيق التمدن والتقدم الاجتماعي ومعالجة مظاهر التهميش الاجتماعي والفقر مما يتطلب اشراك المواطنين في تحقيق التنمية عبر نظام مدروس وواقعي للضرائب والرسوم بالتزامن مع توسيع شبكة التامينات الاجتماعية ومراجعة قانون الاستثمار الاجنبي وتشريع قانون العمل وقانون الضمان الاجتماعي، وتنظيم السياسة النفطية وايراداتها بشكل شفاف. ولا تتم هذه الوجهة حسب توجهنا الا بتبني فكرة الدولة المشاركة في التنمية ورسم السياسة الاقتصادية واعطاء مجال واسع للقطاع الخاص وتوفير مستلزمات النهوض بالقطاع المشترك وحماية الشغيلة وذوي الدخل المحدود. وضمن هذه الوجهة بالامكان تجاوز الاقتصاد الريعي والتوجه الى التنوع في مصادر الايرادات، وتقليل النفقات غير الموجبة التي تدخل في خانة الفساد الاداري والمالي، من دون أن نعني بذلك تقليل الخدمات الاجتماعية للمواطنين، وعدم تسليم مقاليد الامور إلى القطاع الخاص للتحكم فيه وخاصة في مجال الخدمات الضرورية المشار اليها كحقوق للافراد في دستاتير البلدان المتمدنة.
ـــــــــــــــــــــــ
* نائب سكرتير الحزب الشيوعي الكردستاني - العراق