المنبرالحر

المرأة في العراق القديم / حامد الحيدر

كان للمرأة دور رمزي كبير في المجتمع العراقي القديم، حيث كان ينظر اليها بكثير من الاحترام والتقدير. وهذه النظرة مستمدة بالأساس من بعض المعتقدات الدينية القديمة التي تعود الى فترة العصر الحجري الحديث (الالف الثامن ق.م) وذلك مع بداية تبلور الفكر الديني متمثلة بعبادة الالهة الأنثى، أذ أحيطت المرأة حينها بهالة من القدسية، باعتبارها العنصر الولود ورمز الخصب ومنبع الحياة، حيث تم العثور خلال التنقيبات في العديد من المواقع التي تعود إلى تلك الفترة في وادي الرافدين على دمى أنثوية بولغ في ابراز أثدائها وأعضائها التناسلية، عرفت باسم (الآلهة الأم)... ثم تطورت فكرة تقديس المرأة فيما بعد مع نضوج المعتقدات الدينية العراقية القديمة المرافقة للثورة الحضارية التي حدثت للمجتمع الرافديني عند منتصف الألف الرابع ق.م، لتتمثل المرأة باثنتين من أهم آلهة العراقيين وهما (اينانا أو عشتار) إلاهة الجنس والحرب و(أريشكيكًال) إلاهة العالم السفلي، وهذا يعني اعتقاد العراقيين القدماء أن المرأة امتلكت النقيضين الابديين (الحياة والموت)... كما صور الأدب الرافديني بعبرة بليغة المرأة بأنها كانت السبب في انتقال الحياة من مرحلة الهمجية والتوحش الى الحضارة والتمدن والرقي الانساني، وهذا تماماً ما سعت اليه ونجحت الفتاة (شمخة) مع (أنكيدو) في ملحمة (كًلكًامش) الخالدة. بالنسبة للطبقة الحاكمة في المجتمع العراقي القديم، كانت النساء دوماً داعمات ومساندات لأزواجهن من الامراء والملوك، وكنّ كثيراً ما يظهرن في المنحوتات الى جوارهم. وتذكر النصوص السومرية المبكرة (منتصف الالف الثالث ق.م) أسماء العديد من الاميرات اللواتي كان لهن دور بارز في حياة مدنهن اجتماعياً ودينياً، مثل الاميرات (أورنانا) زوجة الأمير (أورنانشة) مؤسس سلالة لكش الاولى، و(برانامترا) زوجة الامير (لوكَالندا) حيث كانت تناط بهن مهمة الاشراف على المعابد ومجريات الطقوس الدينية فيها. ويمكن الاستدلال أيضاً على أهمية المرأة عند السلالات السومرية الحاكمة في هذه الفترة، من خلال طرق الدفن والآثار النفيسة الموضوعة داخل قبور بعض الملكات والاميرات في مقبرة (أور) الملكية الشهيرة المكتشفة في عشرينات القرن المنصرم، منها قبور الاميرات (بوآبي) و (ننبندا)، اللتين قُبر الى جانبهما العديد من الخدم والحاشية... لتتوج علاقة المرأة مع الحكم خلال فترة العصر الاشوري الحديث، حين تولت العرش الاشوري الملكة الشهيرة (سميراميس)، التي يقرأ أسمها بالآشورية (سمورامات) ومعناه (حبيبة الحمام)، ذلك بعد مقتل زوجها الملك (شمشي أدد الخامس) 828_ 811 ق.م، لتتولى الحكم خمس سنوات وصايةً على أبنها القاصر الملك (أدد نراري الثالث) 810_783 ق.م، وكانت خلال مدة حكمها تلك واحدة من أقوى ملوك العراق القديم، أذ نسبت اليها العديد من الاعمال والمشاريع العمرانية والحضارية، وكذلك قيامها بالعديد من الحملات العسكرية في البلاد البعيدة من أجل ترسيخ وتوسيع كيان الدولة الآشورية. أما عن المرأة في عموم المجتمع فكان دورها كبيراً ومهماً في تسيير عجلة حياة، خاصة داخل الاسرة، حيث كانت مسؤوليتها كبيرة ورئيسة في إدارة شؤون البيت وتربية الاطفال، لتمنحها الأعراف والتقاليد السائدة آنذاك (بعد الزوج) سلطة مُطلقة وصارمة على أولادها خاصة الاناث، لذلك استوجب احترامها وطاعة إرادتها، ويتوضح ذلك جلياً من المثل السومري البليغ (أطع كلام أمك كأنه أمر إلاهي).. من جانب آخر فقد أباح لها المجتمع امتهان الكثير من الاعمال الاساسية الى جانب الرجل، حيث عملت بشكل فاعل في الحقول والمزارع، وهنا أوضحت العديد من المنحوتات الطينية السومرية من الألف الثالث ق.م مشهد المرأة الفلاحة، حيث اظهرت احداها فلاحة سومرية بملابس لا تختلف كثيراً عن فلاحات جنوب العراق في وقتنا الحاضر بيدها (مرواح) لتذرية الحبوب، كما صورت في أخرى وهي حاملة المعول لحفر الارض.. أضافة إلى الأعمال الزراعية فقد عملت بصفة كاهنات لخدمة المعابد وإدارتها، وكذلك طاهيات وساقيات في القصور ومغنيات في الأفراح والمناسبات السعيدة، وندّابات للمآتم والأحزان وعازفات على مختلف الأدوات الموسيقية، كما امتهنت المرأة وبرعت في العديد من المهن والحرف مثل النسيج وخياطة الملابس، والصناعات الغذائية والبيتية وتحضير العطور، وأيضاً إدارة المحال والحوانيت التجارية والحانات، كما عملت أيضاً في مجال الطب، حيث أوردت النصوص الطبية والقانونية اشارات الى طبيبات كن مختصات بالقبالة وعمليات التوليد، وعلاج المشاكل الصحية النسائية ورعاية الاطفال، وأخريات أمتهن صناعة وتركيب الادوية وباقي المعدات والمستحضرات الطبية. ومع التطور الحضاري أفردت الفلسفة الدينية لأبناء العراق القديم إلهة خاصة للمعارف والعلوم والمدارس هي الإلهة (نيسابا)... إن لهذا الاختيار دلالة رمزية وفلسفية في غاية الأهمية، حيث منح دور رئيسا وجوهريا للمرأة في انتشار المعرفة وعملية التعليم، وبالتالي يعكس مدى الرقي الحضاري الذي وصل اليه المجتمع العراقي القديم من خلال نظرته الراقية إلى المرأة التي شقت طريقها منذ ذلك الزمن نحو كافة مجالات الحياة أسوة بالرجال.. لذلك فإن الفتيات التحقن بالمدارس أسوة بالفتيان (وأن كنّ بنسبة أقل)، ليتخرجن بصفة كاتبات مارسن دورهن المهني في المعابد والقصور والمدارس والمراكز التجارية ومراكز الأرشفة والتوثيق، وقد أشارت العديد من النصوص المسمارية في ذلك الى أسماء العديد من الكاتبات الممتازات اللواتي أشير اليهن بالبنان في عملهن... وبرمزية أخرى مهمة لا تقل أهمية عن الأولى، كان كتّاب العراق القديم شديدي التعلق بالآلهة (نيسابا) ليجعلوا منها ملهمة لفكرهم.. فاذا ما نجحوا في كتابة موضوع ما بشكل متكامل ومُرض وتوصلوا في خاتمته الى نتيجة منطقية، صحيحة فانهم يذيلون أسفل اللوح المسماري الذي كتبوه بعبارة (نيسابا زامي) وتعني في السومرية (الحمد للآلهة نيسابا)، أما عكس ذلك فكانوا يكتبون عبارة (نيسابا أنا بادا) وتعني (العلم عند الآلهة نيسابا).. ويضاهي ذلك قولنا اليوم، بلا تشبيه (الحمد لله) و(العلم عند الله). لقد منحت القوانين العراقية خلال الالفين الثاني والأول ق.م المرأة حقوقاً اضافية ومركزاً اجتماعياً متميزاً، حيث منعت بل حرّمت بشكل كامل العنف ضدها أو ضربها أو إهانتها من قبل الرجل أياً كان، لتعاقب بعض القوانين الرجل بصرامة على هذه الممارسات تصل بعضها الى درجة كسر اليد أو فقء العين.. كما حمت تلك القوانين المرأة من استهتار الزوج بكرامتها من خلال الزواج بامرأة أخرى أو تطليقها متى ما شاء أو أراد.. إذ نصت القوانين العراقية على أحادية الزواج بالنسبة للرجل، أي ليس له حق الزواج بامرأة ثانية إلا في حالات خاصة، أهمها عدم قدرة الزوجة على الانجاب أو لأصابتها بمرض لا يرجى شفاؤه.. ولنفس هذه الاسباب فقط مُنح الزوج حق طلاق زوجته، لكن أشترط عليه أن يدفع لطليقته مقداراً من المال يكفي لمعيشتها بكرامة، أو التكفل بإعالتها ما تبقى من حياتها.. وكان يحق للزوجة أيضاً وفي ظروف محددة أن تقيم دعوى ضد الزوج تطلب تطليقها منه، مثل.. ارتكابه الخيانة الزوجية، غيبته المتكررة عن البيت لفترات طويلة، التقصير في إعالة عائلته، تقليله من أهميتها وعدم التزامه بواجباته الزوجية اتجاهها... من جانب آخر منحت القوانين العراقية القديمة المرأة شخصيتها المالية المستقلة، إذ كان لها الحق في امتلاك الاموال والعقارات والعبيد، وأيضاً كان لها الحق في امتهان التجارة بكافة صنوفها واقراض الاموال، وتبني الأطفال حتى وإن لم تكن متزوجة.. ومن المهم ذكره كذلك أن القوانين نصت على أن شهادة المرأة أمام المحاكم كانت توازي شهادة الرجل ومعادلة لها.