المنبرالحر

منذ ربع قرن انهار الاتحاد السوفيتي ... فما هي النتيجة ؟ / عبدالله حبه

سيبقى في اذهان الجيل القديم من مواطني الاتحاد السوفيتي يوم 18 آب/أغسطس عام 1991، حين عُرض على شاشات التلفزيون فجأة تسجيل باليه " بحيرة البجع" بدلا من البرامج العادية، بإعتباره يوما حزينا وقع فيه حدث كان يجب ألا يقع، اذ ان الاصلاحات كانت ممكنة من دون انهيار دولة عظمى كان لها دور كبير في الاحداث العالمية. واقترن بذلك الحادث اعلان عدد من قادة الدولة عن تشكيل لجنة الطوارئ من أجل انقاذ البلاد من الأزمة التي قادها إليه ميخائيل غورباتنشوف. وقد بدأت أكبر "كارثة جيوسياسية" في القرن العشرين ،كما وصفها الرئيس بوتين ، حين طرح الرئيس السوفيتي ميخائيل غورباتشوف في اواسط الثمانينات ما عرف بـ "البيريسترويكا" وهدفها اصلاح النظام السوفيتي سياسيا واقتصاديا واداريا، والتي قادت فيما بعد الى انهيار الاتحاد السوفيتي. لكن فريق غورباتشوف ومنهم ياكوفليف وبوربوليس وشيفاردنادزه وكرافتشوك وغيرهم أظهروا آنذاك عجزهم عن تنفيذ الاصلاحات بسبب تقليدهم خبرات دول الغرب التي تختلف ظروفها كليا عن ظروف الاتحاد السوفيتي ، بالاضافة الى أنهم وضعوا برنامج الاصلاح السياسي قبل الاصلاح الاقتصادي وليس العكس. ولهذا أدى ذلك الى توتر الوضع في البلاد وقيام فريق من كبار رجال الدولة والحزب بخطوتهم في 19 آب 1991 في محاولة لإنقاذ نظام الدولة من الانهيار. لكن هذا الحادث بالذات قاد الى انهيار الاتحاد السوفيتي وظهور شخصية بوريس يلتسين الطامع في السلطة بصفته المناضل في سبيل الديمقراطية وحقوق الانسان، ووقفت وراءه القوى اللبرالية والعواصم الغربية. علما ان اجهزة الاعلام الغربية مارست دورا كبيرا في تأجيج حدة الصراع على السلطة بين غورباتشوف ويلتسين اللذين يعتبرهما الكثيرون في روسيا اليوم من المجرمين بحق الوطن.علما بأنه لم يكن مهما بالنسبة الى الغرب أية سلطة ستكون في البلاد، فالهدف هو إزالة الاتحاد السوفيتي من الوجود. وفي النهاية اجتمع يلتسين (ممثلا عن روسيا الاتحادية ) وكرافتشوك (ممثلا عن اوكرانيا ) وشوشكيفتش (ممثلا عن بيلاروسيا) في حمام الساونا في منتجع بيلوفيجيه البيلاروسي، فقصفوا واولموا، وقرروا تحت تأثير الفودكا الخروج من الاتحاد السوفيتي من دون الرجوع قبل هذا الى البرلمان الاتحادي او البرلمانات في الجمهوريات، وخلافا للدستور، وحتى في غياب زعماء الجمهوريات السوفيتية الأخرى.
ان فشل البيريسترويكا الغورباتشوفية، التي طبقت بنجاح بشكل آخر في الصين، قد أملته عوامل كثيرة تكمن في النظام السوفيتي نفسه الذي خرج عن الافكار الماركسية منذ بدء الصراعات على السلطة في الحزب والدولة بعد وفاة لينين في العشرينيات. وفرض يوسف ستالين سلطته المطلقة. حقا ان ستالين قد عمل، بعد التخلص من خصومه في قيادة الحزب واتهامهم بالعمالة لدول اجنبية او خيانة الماركسية – اللينينية، على بناء كيان دولة بيروقراطية قوية عسكريا واقتصاديا. واستطاع في خلال فترة قصيرة اعادة بناء مؤسسات الصناعة التي دمرت في اثناء الحرب الاهلية. لكن الحرب العالمية الثانية اعادت تدمير جميع المناطق المحتلة وتحولت بعض المدن مثل كييف ومينسك وسمولينسك الى انقاض. وبعد الحرب بدأت عملية البناء مجددا وتقوية الجيش وحتى تزويده بالسلاح الذري. ويقول الكثيرون في روسيا اليوم ان ستالين استلم بلادا يسودها الخراب ورحل عنها وقد اصبحت دولة عظمى. لكن الثمن كان غاليا جدا لكثرة الضحايا البشرية التي سقطت في الاتحاد السوفيتي خلال تلك الفترة. وبدا ان ديدن الزعيم السوفيتي الجورجي الأصل كان اقامة دولة قوية، ونسيت في عهده تقريبا فكرة الاشتراكية نفسها الرامية الى اقامة دولة العدالة الاجتماعية وحيث يكون"الانسان اثمن رأسمال". ان هذه الفكرة لم تتحقق عمليا في ظروف القمع والمعتقلات "الغولاك" والستار الحديدي.
لقد هلل اللبراليون في روسيا وخارجها لسقوط الاتحاد السوفيتي واعادة الرأسمالية الى البلاد. واصبح في روسيا في غمضة عين اصحاب مليارات وملايين يشترون الابراج واليخوت والطائرات ولديهم مئات من آبار النفط كما في امريكا، ويعيشون في بريطانيا وامريكا وسويسرا. وانقسم المجتمع فجأة الى اغنياء وفقراء. لكن الاقتصاد الذي بناه ستالين والزعماء الآخرون قد دُمّر، ولم يهتم يلتسين واعوانه ببناء أي شئ. إن الانسان البسيط في روسيا الآن يفكر بحنين فى الماضي حين كان يحصل على العمل ويمنح السكن المجاني ويرتاد اطفاله رياض الاطفال مجانا ويستجم على البحر بأذونات تقدمها له النقابات المهنية. كما ان رجال العلم والثقافة كانوا طبقة متميزة فلديهم مؤسسات ودور نشر واندية واماكن ابداع واستجمام . وبلغ العلم درجة تقدم عالية جعلت الاتحاد السوفيتي أول دولة تطلق انسانا الى الفضاء. تضاف الى ذلك عروض الباليه وروائع الثقافة. زد على ذلك ان حركات التحرر الوطني في جميع انحاء العالم - في العالم العربي وآسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية، وجدت في الاتحاد السوفيتي السند الوحيد لها في الاوساط الدولية. كما حارب المناضلون الجزائريون والكوبيون والانغوليون والفيتناميون وغيرهم بالسلاح السوفيتي. ان الانسان العادي الروسي الآن يتذكر هذا كله لكنه لا يريد عودة النظام السوفيتي. فلماذا ؟ لأن البيروقراطية الحزبية التي ترسخت في الاتحاد السوفيتي بعد وفاة لينين قضت على جميع الحريات والمبادرات الشعبية في كافة المجالات واصبح الانسان ليس مواطنا حرا بل كالقن في العهد القيصري، لكن مع توفير بعض الامتيازات الآنفة الذكر. ان احتكار الدولة للقطاع الاقتصادي والتجاري واعتماده على تصدير النفط والغاز قد أعطيا نتائج سلبية كان الواجب تلافيها فورا بمنح القطاع الخاص دورا في انعاش الاقتصاد، كما فعل ذلك لينين حين اعلن في مطلع العشرينيات السياسة الاقتصادية الجديدة " نيب". طبعا ان التطور الاقتصادي مستحيل بدون وجود قاعدة قانونية ذات توجه اجتماعي ينعكس في وجود البرلمان المنتخب بصورة ديمقراطية حقا وحرية الصحافة واستقلالية القضاء وهلمجرا.
ولا يمكن التقليل من أهمية دور التدخل الخارجي في انهيار الاتحاد السوفيتي، والمقصود به البرنامج الامريكي " لتدمير الشيوعية " الذي أعد في أيام ريجان واعتمد له الكونغرس الامريكي مبلغ عشرة مليارات دولار. وقد طرح كيسي رئيس وكالة المخابرات الامريكية آنذاك هذا البرنامج واطلعت عليه الاستخبارات السوفيتية بواسطة عملائها في عام 1983. وكان هدف البرنامج الخيالي الذي اعده العلماء الامريكيون هو السيطرة على اراضي الاتحاد السوفيتي المترامية الاطراف لاستخدامها لاحقا لسكنى الامريكيين اذا ما وقعت كوارث طبيعية في امريكا حسب تقديرات العلماء الامريكيين. علما ان هتلر وضع في خطة " بارباروس" لاحتلال الاتحاد السوفيتي ايضا هدف اخلاء الاراضي السوفيتية من أهلها واسكان الالمان هناك مع الابقاء على نسبة ضئيلة من الروس للقيام باعمال الخدمات للالمان، واستغلال الثروات الطبيعية الضخمة فيها. طبعا يمكن تغيير النظام في روسيا لكن احتلال البلاد يعتبر من باب المستحيلات لإتساع اراضيها. فقد فشل نابليون وهتلر في احتلال حتى الجزء الاوروبي من روسيا بالرغم من زج جحافل جيوشهما الجرارة في الحرب ضدها.
في عام 1991 تم فعليا انهيار الاتحاد السوفيتي الشيوعي و"الكافر"، واعلنت في جمهورياته التي اصبحت مستقلة الانظمة الرأسمالية وما يسمى "الديمقراطية". لكن الغريب في الأمر ان الغرب واصل اعتبار روسيا العدو الرئيسي له حتى بعد تخليها عن الشيوعية وعن حلف وارشو وسحب قواتها من اوروبا الشرقية التي اصبحت كلها تحت سيطرة الناتو. كما انسحبت القوات السوفيتية من افغانستان بطلب من الغرب وسيطر عليها رجال طالبان اي تنظيم " القاعدة". وبعد ذلك بدأت في الجمهوريات السوفيتية السابقة "الثورات الملونة" وكانت اهدافها جميعا الخروج من تحت النفوذ الروسي للانتقال الى نفوذ الناتو الذي بدأ يزحف تدريجيا نحو الشرق . وحدث الانقلاب في جورجيا والاضطرابات في مولدافيا وبيلاروسيا واخيرا وقع الانقلاب في اوكرانيا الذي أدى الى مجئ القوميين الاوكرانيين الى السلطة. والطريف انهم جميعا مثل القوميين من زعماء جمهوريات البلطيق لا يعتبرون الغزو الهتلري للاتحاد السوفيتي في عام 1941 احتلالا لأنهم تحالفوا آنذاك مع قوات هتلر ضد الجيش الاحمر. ولهذا جرت أزالة كل ما له علاقة بمعارك الجيش الاحمر ضد الجحافل النازية في اوكرانيا وجمهوريات البلطيق فور انهيار الاتحاد السوفيتي ودمرت حتى مقابر الجنود السوفييت.
لقد صرح السياسي الامريكي المخضرم هنري كيسنجر مؤخرا قائلا: " ان أمن روسيا سيكون له دوما بعد جيوسياسي وقانوني". وهذا حق، ففي فترة "أفول اوروبا" – الذي تحدث عنه الكاتب الالماني شبنجلر- وانحسار دورها في السياسة العالمية تدريجيا ظهرت كتلة اوراسيا ( ممثلة بروسيا والصين) كقوة مؤثرة في الاقتصاد والسياسة على النطاق الدولي. ويبدو ان العالم بالرغم من العقوبات والضغوط على روسيا – التي لم تعد شيوعية - على أبواب عهد جيوسياسي جديد سيكون لروسيا دور كبير فيه.
صفوة القول، ان إنهيار الاتحاد السوفيتي لم يغير شيئا في الوضع الجيوسياسي في العالم . لأن روسيا وريثة تلك الدولة العظمى اثبتت قدرتها على النهوض مجددا كأحد الاقطاب على الساحة الدولية. وعبثا أن يحاول الغرب ترويضها لكي تغدو مثل الدول الاوربية تابعة للأوامر الآتية من وراء المحيط .
إن سبب انهيار النظام السوفيتي يكمن في اسلوب تشيكل الاتحاد السوفيتي بصورة قسرية بعد ثورة اكتوبر 1917، حيث تم تجاهل الظروف الاجتماعية والاقتصادية في مختلف مناطق البلاد واختلاف اسلوب تفكير وتقاليد الشعوب القاطنة فيها. لقد كان البلاشفة مثاليون واعتقدوا ان جميع الناس أخيار ولا يوجد جشع وطمع وحب السلطة والقسوة لدى أحد وهم على استعداد لقبول الانظمة والقواعد المفروضة عليهم من قبل الحزب الحاكم الوحيد. ومارست جميع هذه العوامل السلبية دورها في هدم النظام. إن الشيوعيين الروس ما زالوا يؤكدون ان نظام السوفيتات الذي استحدث ابان ثورة عام 1905 يجسد السلطة الشعبية الحقيقية ولم يبتكره لينين او ستالين، وكان هدفه تحقيق العدالة الاجتماعية. لكن هذا النظام ارتكب الكثير من الاخطاء وحتى الجرائم بحق الشعب ولهذا سقط. فالاشتراكية الحقيقية لا يمكن ان تطبق بدون وجود شعار " الانسان أثمن رأسمال".
16/8/2016