المنبرالحر

تركيا: الانقلاب والانقلاب المضاد / احمد عواد الخزاعي

لم يكن غريبا على الشارع التركي ما حصل يوم الخامس عشر من تموز 2016 فقد الفت الذاكرة الجمعية للشعب التركي حدوث الانقلابات العسكرية ، وأصبحت جزءا من دورة حياة سياسية، يعاد تدويرها من قبل العسكر كلما اقتضت الضرورة ذلك، العسكر الذين أوكل إليهم الدستور التركي مهمة الحفاظ على علمانية الدولة وارث مصطفى كمال اتاتورك ، تلك العلمانية التي ولدت من ركام إيديولوجية دينية متخلفة ، توشحت بجلباب الخلافة وهيمنت على جزء واسع من عالم ما قبل الحرب العالمية الأولى، حين أعلن الأزهر تنصيب السلطان سليم الأول خليفة على المسلمين عام 1517ميلادي، عندما جيء (بالمتوكل على الله) وهو آخر ما بقي من سلالة العباسين الهاربين من بغداد إلى مصر جراء الاحتلال المغولي لها، ليتنازل عن الخلافة إلى سليم الأول، وبمباركة أزهرية، وأعطي بعض من أثار رسول الله (ص) ، العصا والبردة وسلم مفاتيح الحرمين من قبل شريف مكة (محمد أبو نمي بركات) كرمز لخضوع واعتراف منه لسيادته على الأراضي المقدسة ، وبذلك استطاعت الدولة العثمانية مد نفوذها في العالم الإسلامي ، والسيطرة عليه تحت مظلة مقدسة ، شرعنتها لنفسها ، وتمكنت من احتواء الكثير من ثقافات الشعوب التي استعمرتها عبر عدة سياسات، ساهمت بشكل كبير في تغيير الصبغة الديموغرافية لهذه الشعوب هي ، القوة والبطش ، وسياسة التتريك بجعل اللغة التركية لغة رسمية للبلدان التي احتلتها ، وانتهاج سياسة الإقصاء والتهميش مع الأقليات التي تمثل جزء مهما من النسيج الاجتماعي في العالم الإسلامي، هذا الإرث الديني والاستعماري المثقل بصراعات عسكرية وأيدلوجية وأطماع اقتصادية ، انتهى به المطاف إلى هزيمة كبيرة في الحرب العالمية الأولى وانزواء هذه الإمبراطورية وانكفائها على نفسها، وتقاسم تركتها من قبل الدول المنتصرة ، لتسقط بعدها على يد العسكر، بقيادة العقيد مصطفى كمال اتاتورك وإعلان الجمهورية التركية الحديثة في أكتوبر عام 1923 ، لتنتقل تركيا إلى مرحلة جديدة لبست فيها ثوب العلمانية الغربية ، أطلت بها على القرن العشرين ، وفق نظرية ( التغريب ) التي انتهجها اتاتورك ، في محاولة منه لنقل المجتمع التركي من مجتمع شرقي إسلامي تقليدي إلى مجتمع غربي ، يستطيع مواكبة التطور الحاصل في دول الغرب، ليفتح بوابة الانقلابات العسكرية على مصراعيه، عبر صراع خفي بين القوى اليسارية والدينية التركية وبين المؤسسة العسكرية ذات النزعة العلمانية الموالية للولايات المتحدة الأمريكية .
حدث أول انقلاب عسكري عام 1960وقام به مجموعة من الضباط الذين تدربوا وتثقفوا في الولايات المتحدة الأمريكية على معاداة ومناهضة الشيوعية ، وقاد الانقلاب البار ارسلان الذي أذاع بنفسه بيان الانقلاب في الإذاعة التركية، تلاه انقلاب عام 1971 أو ما يطلق عليه ( الانقلاب المذكرة) حين أرسل رئيس هيئة الأركان في الجيش التركي الجنرال ممدوح تاجماك مذكرة تحذيرية إلى رئيس الوزراء آنذاك يطلب منه تشكيل حكومة جديدة تنقذ تركيا من حالة الفوضى التي عمتها نتيجة الركود الاقتصادي وتنامي سطوة النقابات والحركات اليسارية فيها ، وفي عام 1980 قام رئيس الأركان كنعان ايفرين بانقلاب آخر بدعوى حماية علمانية الدولة والحفاظ على المبادئ الاتاتوركية بعد تقدم التيار الإسلامي في نتائج الانتخابات التشريعية، ثم انقلاب 1993 الذي جاء على شكل مذكرة سرية تمنع حدوث تعارض بين المؤسسة العسكرية وأجهزة الاستخبارات لمكافحة حزب الله الكردي وعصابات الجريمة المنظمة، وفي عام 1997 قام الجيش بانقلاب على حكومة حزب الرفاه الإسلامي برئاسة نجم الدين اربكان ، وسمي هذا الانقلاب (ثورة ما بعد الحداثة) والسبب المعلن هو الحفاظ على علمانية الدولة التركية ، وهنا نلاحظ وجود نمطية يمكن وصفها بالنزعة التطهيرية وشحت الانقلابات العسكرية التي حدثت في تركيا ، من خلال قيام الانقلابيين بإعدام العشرات وفصل واعتقال الآلاف وفرض قيود على الصحافة ووسائل الإعلام والحريات الخاصة ، وقيامهم بعمليات تطهير في المؤسستين القضائية والتعليمية ، وهذا قد يبرر الانقلاب المضاد الذي قام به الرئيس التركي اوردوغان بعد الانقلاب الأخير والذي أثار الكثير من علامات الاستفهام في الأوساط الدولية، وقيامه باعتقال وفصل أكثر من سبعة عشر ألف من أفراد المؤسسة العسكرية والأمنية بما فيهم قادة كبار، وثلاثة وأربعون ألف من قطاع التعليم وإغلاق أكثر من ستمائة مدرسة ومؤسسة تعليمية، وفصل واعتقال أكثر من ثلاثة آلاف قاض وموظف في المؤسسة القضائية ، وإعفاء ثلاثون حاكم ولاية وإغلاق عشرون مؤسسة إعلامية بين محطة تلفزيونية وصحف ومجلات، كل هذا الكم الكبير من عمليات التطهير تمت بوقت قياسي لا يتعدى بعضه الساعات بعد فشل الانقلاب ، مما جعل الكثيرين يظنون إن هذه القوائم كانت معدة مسبقا من قبل الحكومة التركية كأنقلاب مضاد لتطهير مؤسسات الدولة والشارع التركي بصورة عامة من سطوة ونفوذ الحليف السابق لحزب العدالة والتنمية الداعية فتح الله كولن الذي يقيم في منفاه الولايات المتحدة الأمريكية منذ عام 1999، بعد أن غادر إليها مضطرا بسبب الخلافات الحادة التي نشبت بينه وبين الحكومة آنذاك والتي تقف ورائها عدة أسباب منها ، اتهام بعض مؤسسات الدولة بالفساد ، وزادت حدة الخلافات حين أعلن في تسجيل مصور انه يسعى لتغيير شكل النظام في تركيا من علماني إلى إسلامي، مما جعل أصابع الاتهام تشير نحوه واتهامه بتدبير الانقلاب الأخير والإشراف على تنفيذه، إذا ما علمنا إن اغلب الذين تم فصلهم واعتقالهم هم من أتباعه وان المؤسسات التعليمية والإعلامية التي تم غلقها تابعة له ، وبغض النظر عما حدث مؤخرا في تركيا تبقى الكثير من التساؤلات والاستنتاجات محض فرضيات وتكهنات تبحث لها عن إجابات حقيقية حول دوافع هذا الانقلاب ومن قام به وأسباب فشله ، وهل كان انقلابا حقيقيا أم مفتعلا الغرض منه تثبيت سلطان حزب العدالة والتنمية وفرض هيمنته على جميع مؤسسات الدولة بما فيها المؤسسة العسكرية التي ظلت تتمتع بشيء من الاستقلالية طيلة السنوات الطويلة الماضية من عمر الجمهورية التركية الحديثة، لكن في المحصلة إن ما حدث لا يمكن فصله أو اجتزائه عما يحدث في العالم والمنطقة من تجاذبات سياسية وعسكرية من شبه جزيرة القرم إلى سوريا والعراق ، وان صراع الإرادات والنفوذ بين القوى المهيمنة على الساحة الدولية (الولايات المتحدة الامريكية وروسيا) ، ستظل تبحث لها عن ساحات لنزالاتها الغير مباشرة وقد يكون انقلاب 15 تموز هو جزء من هذا الصراع الجيو سياسي، فالطائرات التي شاركت في الانقلاب انطلق اغلبها من قاعدة انجرليك التي تعد من أهم قواعد حلف شمال الأطلسي في المنطقة وتشرف عليها الولايات المتحدة بصورة مباشرة ، التي ظل موقفها ضبابيا عائما في الساعات الأولى من هذا الانقلاب ، من خلال تصريح وزير خارجيتها ، بأن ما يحدث في تركيا هو شأن داخلي ومن ثم تغيير الموقف فجأة لتعلن أمريكا رفضها لهذا الانقلاب وتأييدها للحكومة التركية المنتخبة، إضافة إلى إن هذا الانقلاب قد حدث بعد فترة وجيزة من تقديم الرئيس التركي اعتذاره إلى روسيا عن إسقاط طائرتها الحربية في سوريا، وسعيه إلى التقارب معها وبالأخص في ما يتعلق بالملف السوري الشائك.
العالم مازال ينظر بعين الريبة والشك مما حصل ، ويراقب عن كثب تطورات الأحداث في تركيا، التي قد تنحى منحى تصعيديا آخر إذا ما أقدمت تركيا إلى تفعيل عقوبة الإعدام مرة أخرى والتي توقفت منذ عام 1984وتطبيقها بحق الانقلابيين ، والذي سيؤثر هذا القرار بشكل خطير على علاقتها بالاتحاد الأوربي التي ظلت تعيش لعقود على حلم الانضمام إليه.