المنبرالحر

محي الدين زنكنه .. النورس المحلق / عبد الكريم جعفر الكشفي

اعتدت سنويا ان استذكر القاص والروائي الكبير محي الدين زنكنة في ذكرى وفاته في 21 آب 2010. الا انني في العام الماضي لم اقم بهذا الواجب بسبب تعرض قريتي الحبيبة الهويدر الخضراء، هويدر البرتقال، الى تفجير ارهابي ذهب ضحيته 63 شابا من خيرة شباب القرية نتيجة لعبة سياسية قذره لا ناقة لهم فيها لا جمل.
ولد الكاتب المسرحي والروائي محي الدين زنكنه في مدينة كركوك عام 1940 لعائلة متوسطة ومثقفة. وكان لانحدار محيي الدين زنكنه من عائلة ذات جذر كردي عريق، أثره الكبير في طبع حياته وتجربته بطابع خاص، أضفى نكهة مميزة على كل خطاباته الأدبية. وكان والده حميد محمد زنكنه، رجلاً ذا سطوة على أفراد عائلته، وكان له أثر كبير في صقل شخصيته وتفردها بين أبناء الأسرة الذكور.. وتعد كركوك بالنسبة إليه مدينته الام وضميره الحي والتي شهدت ولادته وولادة بداية نتاجه الادبي.
بدأ زنكنة الكتابة وهو في عمر اربعة عشر عاماً. وكان اول اعتقال له عام 1956 عندما خرج مع ابناء مدينة كركوك احتجاجاً على العدوان الثلاثي على مصر وتأييداً للشعب المصري. ومنذ ذلك الوقت لازمت القضايا الوطنية وهموم الشعب العراقي احساسه المرهف.
اكمل دراسته الابتدائية والثانوية في كركوك وتأثر بجماعة كركوك المدينة، ذات التطور المدني الواسع والتنوع الذي وسم كركوك بها وسميت (جماعة كركوك الادبية). وبرز اعضاؤها في المشهد الثقافي العراقي ابان ستينيات القرن المنصرم: جليل القيسي وسركون بولص وجان دمو ومحي الدين زه نكنة ويوسف الحيدري وانور الغساني وفاضل العزاوي والاب يوسف سعيد. هؤلاء المبدعون الذين واصلوا سعيهم الحثيث بغية الارتقاء بثقافات كركوك المتنوعة، وقد ساهم كل منهم بطريقته في طرح صيغ جديدة للإبداع. وواصلت هذه المجموعة الاماسي والندوات والملتقيات والمهرجانات الثقافية في هذه المدينة احتفاء بهذه القامات الادبية الذين تركوا بصماتهم في تاريخ الثقافة الكركوكية، فيما كانت كركوك فخورة بوجود هذه الرموز الادبية .
اكمل دراسته الجامعية في جامعة بغداد وتخرج من كلية الاداب/ قسم اللغة العربية وكان ناشطا في الاتحاد العام لطبة العراق. وبعد تخرجه من الجامعة اشتغل في التدريس في مدينة الحلة ناحية المدحتية، وفي هذه الفترة بالذات حدث انقلاب شباط الاسود عام 1963. واختفى زنكنة لانه كان من الرؤوس المطلوبة. حيث هرب الى خانقين في رحلة شاقة جدا اضطرته ان يمشي متخفيا حتى وصل الى خانقين. وبعد ان رحل اوغاد البعث المجرم في 18 تشرين 1963 رجع الى وظيفته مدرسا وتحديدا في بعقوبة التي استقر فيها وكانت محطته عدة مدارس اخرها الاعدادية المركزية في بعقوبة.
لقد احب ابو آزاد بعقوبة واحبته وقد شهدت ولادة اغلب قصصه ورواياته ومسرحياته. والكاتب نفسه كان قليلا ما يتحدث عنها، فهو قليل الكلام عن ذاته وكان يترفع عن المقابلات، واللقاءات الصحفية. ولما سألته مرة رد قائلاً: ان اغلب صحفيي اليوم هم مثل سياسيي الصدفة، يفتقدون المهنية ويحبون البهرجة والظهور امام الاضواء. وكانت علاقاته شحيحة الا مع النخبة ومن احبهم. وعزلته هذه هي عزلة مبدع لا يهمه سوى الإبداع، وتأكيد نزعته الإنسانية التي تتقصى مشكلات الحياة ومعاناة وهموم شعبنا بعيدا عن التهريج، والضجيج والإعلان؛ لهذا اكتنف سيرة حياته مزيد من الغموض. وتقوّل كثير من اصدقائه عن هذه العزلة ربما الاجبارية، وأخضعها قسم منهم إلى تأويلات شتى.. أما النجومية التي يستحقها بلا منازع فكانت لا مكان لها عنده.
لقد كانت تربطني به علاقة صداقة واخوة حميمية وطالما اصطحبته الى شارع المتنبي في تسعينات القرن الماضي بصحبة صديقيه خالد عبد الرزاق الربيعي، ابو الوليد، وصادق عباس الدر، ابو احمد، حيث كانت ثقافة الاستنساخ في اوج عظمتها. ولطالما زودته ببعض الكتب المستنسخة مباشرة او بواسطة صديقه الحميم القارئ النهم المثقف صلاح وهابي، الذي كان محله واستوديو احسان الذي يديره المبدع الكبير صباح الانباري صالونه الادبي .
وفي عامي 2004 و2005 ايام الارهاب الاعمى الدموي الذي طال مدينة بعقوبة وحرق الاخضرو اليابس، وحينما كنت مديرا لتربية محافظة ديالى، كان يزورني بين الفينة والفينة ويشكو لي همومه ومداهمة مرض السكري اللعين، وان هذا المرض يحتاج مزيدا من المشي والتجوال. وهو الحبيس في البيت.
لقد دفعته الحالة المزرية التي عاشها في بعقوبة ايام الارهاب الظلامي الى مغادرة بعقوبة التي عشقها وعشق مثقفيها وناسها الطيبين الى السليمانية في حدود 2006 وعلى مضض وبذلك فقدت بعقوبة كاتبا المعيا قل نظيره.
في احد ايام القيظ القاسي في بعقوبة وتحديدا في 21/ 7/ 2011 اذا بهاتفي يرن واذا برسالة من صديقنا الحميم الشاعر ابراهيم الخياط يعلمني برحيل (ابو آزاد) محي الدين زنكنة الى دار الخلود فاصابني الحزن والوجوم. وفي اليوم الثاني شددنا الرحال انا وثلة من اصدقاء فقيدنا الغالي ابو آزاد الى السليمانية لحضور مجلس العزاء.
عمل ابو آزاد شطرا من حياته في مجال الصحافة، وكان له العديد من المقالات في المجلات والصحف المحلية والعربية. ويعده النقاد افضل كاتب مسرحي معاصر في العراق. وهو من بين الكتاب العراقيين الذين أفردت لهم الموسوعات الأدبية تعريفاً وتنويهاً, وقد جاءت سيرته الذاتية في موسوعة الأدباء العراقيين التي كتبها ياسين النصير. وهو يكتب باللغتين العربية والكردية، ومن أكثر كتاب المسرح فصاحة في الاسلوب وفي اللغة، فهو لا يكتب مسرحياته بالعامية كما اعتاد كثيرون من كتاب المسرح، بل يكتبها باللغة الفصحى المقبولة مسرحيا وادائيا. وله ميزة مهمة في كتابة النص المسرحي وهي أنه يسرد وقائع كثيرة تمر على شخصياته الفنية كما لو أنه يفتح لها سجلا خاصا.
والكل يعرف ان لمحي الدين زنكنة ثلاث مدن مهمة في حياته ومؤثرة في تكوينه الابداعي وهي كركوك وبعقوبة والسليمانية، ولربما لو طال به العمر لبحث عن مدينة رابعة تكون البديل عن مدن عشقه الثلاث ، او تكون البديل بشكل محدد عن بعقوبة، مدينة عشقه الازلي ومولد نتاجاته المهمة. لقد ظل يتنقل من احضان البرتقال ونكهة السندي والليمون والرطب البرحي الى جبال الثلج، حيث تتلون حدقات العيون بزرقة السماء وتلك الخضرة الرائعة التي تنث رذاذ سحرها من اشجار السرو واليوكالبتوس والجنار والصنوبر.
متى كانت البداية؟
وقد اختلف الكتاب حول بداية الكتابة عند محي الدين زنكنه. فصباح الانباري يقول ان البداية كانت بتاريخ 27/6/1958، وهذا يعني ان ذلك كان قبل ثورة تموز بأيام قليلة، وانه كتب قصة " اللحن الاخير " ويقول آخرون ان اولى بداياته كانت مسرحية " احتفال في نيسان " التي كتبها ونشرها في بغداد عام 1959 وهو احد طلبة كلية الآداب في جامعة بغداد.
لقد اتكأ محي الدين زنكنة منذ بداياته على المسرح ، الذي وجد فيه مجاله الخصب ومكانه الاكثر دفئا، بين الاصناف الابداعية الاخرى التي لم تنل حظوتها عند قلمه الساحر الانيق، ومخيلته الأخاذة النافذة الى اعماق الحدث في تاريخ حركة الانسان ووجوده. هذا باستثناء القليل المتيسر ، كما هو شأن اعماله القصصية التي اصدرها في مجموعتين ، الاولى حملت عنوان ( كتابات تطمح ان تكون قصصا) وصدرت بطبعتين الاولى عام 1984 في بيروت والثانية عام 1986 في بغداد. اما المجموعة الثانية فقد حملت عنوان (الجبل والسهل) التي اختصر فيها كل ما يبغي ان يقوله عن العراقيين على امتداد السهل وقمم وسفوح الجبال والمعاناة العتيدة.
الجانب الروائي لمحي الدين زنكنة جاء محدودا ايضا مقارنة بالجانب المسرحي، حيث اصدر في عام 1975 روايته الاولى (هم او يبقى الحب علامة) وبعدها روايته الثانية عام 1977 بعنوان (ئاسوس) ثم الرواية الثالثة (بحثا عن مدينة اخرى) واخيرا روايته الرابعة (الموت سداسيا) عام 1977.
يتناول الهم العراقي من خلال أبطال شعبيين وجد في حياتهم صورة للمواطن الذي يحمل هموما أكبر من قدراته الذاتية. ويتعامل مع موضوعاته تعامل من يعيشها ويعشقها، ومن يراقبها ويطل من خلالها على واقع عراقي مرير . لذلك تتحول أعماله بعد دراستها إلى مدارات ثقافية مهمة.
يقول الكاتب المبدع صباح الانباري: "وجدت الكاتب يزين عنوانات القصص بأشكال جميلة تمثل طيور البطريق، والبلابل، وهذا يؤكد نزعته الرومانسية التي بدأ فيها الكتابة. إن الحفر في مدونات محيي الدين زنكنه الأولى يعطي انطباعا واضحا عن بواكيره التي تتميز بقدرة واضحة على كتابة نص قصصي اقترن بموهبة أدبية ليس من السهولة إنكارها... بواكير محيي الدين زنكنه حلم شاب حاول إن يؤكد ذاته، وان ينفتح على عالمه فكان له ما أراد".
يمتاز محيي الدين زنكنة بأنه كاتب ملتزم بقضايا الإنسان في كل مكان. فقد أضفى انتماؤه الكردي على شخصياته نوعا من كشف الظلم الذي يتعرض له شعبنا الكردي من جانب الحكومات الشوفينية، مما دفعه الى البحث عن الحرية والسلام والانخراط في صفوف الحركة الوطنية العراقية. فسجن ولوحق وحورب وكان ذلك عاملا مهما من عوامل البنية الفكرية التقدمية لنتاجه الادبي الثر، والتي لا زمت أعماله ولقيت استحساناً من قبل المخرجين العراقيين والعرب في أنحاء الوطن العربي.
يعد محي الدين زنكنة من أكثر الكتاب العراقيين انتشارا في مسارح الوطن العربي ، فقد مثل العديد من مسرحياته باللغتين العربية والكردية في القاهرة ودمشق وبيروت وتونس والامارات والكويت وفلسطين والأردن والمغرب والجزائر، وحتى خارج الوطن العربي. وكان من بينها "الجراد" و"السر" و"تكلم يا حجر" و"السؤال والاجازة". وغيرها.
كانت دمشق هي البلد الذي فتح لمحي الدين زنكنه مجالات النشر قبل العراق . وفي القاهرة نال جائزة أفضل كاتب مسرحي، كما نالت أعماله في قرطاج تكريما من قبل اللجنة المنظمة. وقد ترجم معظم مسرحياته ورواياته إلى اللغة الكردية وهو من بين الكتاب العراقيين الذين أفردت لهم الموسوعات الأدبية تعريفا وتنويها، وقد نال جوائز تقديراً لمسرحياته وكتاباته ومنها:
1- جائزة الكتاب العراقي في المربد سنة 1970، وجوائز احسن نصوص عراقية لعدة مواسم من سبعينات وثمانينات القرن الماضي وجائزة المؤلف المتميز، وجائزة لجنة المسرح وجائزة الدولة للإبداع، وآخرها الجائزة الاولى لمسابقة وزارة الثقافة سنة 2005.
وطبع كتابه الموسوم (مساء السلامة أيها الزنوج البيض) 1985 وضم ثلاث مسرحيات: الأولى (مساء السلامة أيها الزنوج البيض) وهي مونودراما من فصل واحد اتخذ زنكنه فيها من النشاز الفني الدال أساسا في عنونتها. وقد قدمت في المغرب - الدار البيضاء 1991 وقدمتها أيضا لجنة المسرح العراقي في منتدى المسرح ببغداد، ترجمت إلى اللغة الكردية وقدمت في معهد الفنون الجميلة السليمانية.
الثانية: (لمن الزهور) مسرحية اختلف المناقشون اختلافات بينة في تحديد إطارها العام عندما نوقشت في الجلسة الرابعة لمهرجان بغداد. فمنهم من قال إنها مسرحية ذات إطار رمزي، ومنهم من قال إنها صيغت في إطار فكري، وآخر نفسي اعتمد عقدة أوديب أساسا في بنائها. بينما نفى آخر كل ذلك واعتبرها مسرحية لا تتحدث الا عن علاقات اجتماعية اتخذت صيغة الرمز. وقد قدمها في مهرجان بغداد الأول للمسرح العربي المخرج عزيز خيون، وقدمها بالترجمة الكردية معهد الفنون الجميلة في السليمانية، كما قدمتها فرقة منتدى المسرح في بغداد.
وحصد زنكنة شهادات تقديرية وتكريمات كثيرة، يحتاج تعدادها الى مجال واسع.
سيبقى محي الدين زنكنه الغائب الحاضر قامة كبيرة في حواضر الثقافة والأدب العراقي والعربي ، ورمزا من رموزها الاصلاء. فقد أفنى جل حياته في مجال الكتابة ذات البعد الانساني الخلاق والملتزم بالواقعية، وقد صور في كتاباته معاناة شعبنا الابي في السنين العجاف.
لقد امتاز قلمه بالتوقد الفكري والسياسي التحريضي الذي يصب في صالح مراحل التغيير الأصيل داخل الجسد المجتمعي. وهو بذات الثبات المعرفي الواعي ، عَدَ عملية الكتابة للمسرح مجالاً يفضي إلى تلك المساحات الخصبة، وملاذا مرهفا لتحقيق أحلامه التي كان يرنو اليها بعيون ثاقبة.
لقد استطاع محيي الدين زنكنة بمهارة درامية فنية غنية ، وملكة لغوية فائقة ، وأدوات بنائية عالية الطراز، ان يرفد المسرح العراقي والعربي ، بنصوص مسرحية جادة ، ذات قيم إنسانية وفكرية متوهجة تنم عن فكر وقاد.
واخيرا يا أيها الفارس الذي تحدى الموت بشجاعة العاشق لشعبه ووطنه , أيها الفقيد الغالي يا من جمعتنا معه وشائج حميمة وروابط من الوفاء والمحبة لهذا الوطن ولشعبنا هي أسمى من كل روابط الحياة. أيها الانسان الذي جعل من خلال كتاباته الاثيرة الفداء والتضحية بالنفس من اجل الوطن جسرا الى قلب كل شريف في هذا الوطن الجليل، ووضع رهبة الموت تحت أقدامه من اجل أن يصنع سفرا خالدا لمستقبل القادم من الايام، والتي سيتذكرها الاجيال والتاريخ ولا تنساها. حيث يمنح المبدعون والاوفياء والخيرون من ابناء شعبنا خلودا وشرفا عظيما لمواقفهم البطولية.
سلام عليك كاتبا ألمعيا يحمل كل معاني الانسانية.. وسلام عليك راحلا – باقيا على الدوام..