المنبرالحر

الشيوعيون ودروس الانقلاب العسكري الفاشي في تشيلي / رضي السمّاك

تمر في الشهر الجاري الذكرى الثالثة والاربعون لواحد من أخطر الانقلابات الفاشية العسكرية التي وقعت في عصرنا الحديث ، وتحديداً في الحادي عشر من سبتمبر / أيلول من سنة 1973 في تشيلي حينما قام الجنرال أوجستينو بينوشيه بإنقلابه الغادرالدموي على حكومة الوحدة الشعبية المنتخبة بزعامة الرئيس المُنتخب سيلفادور الليندي ، وكما هو ثابت تاريخياً فقد لعبت المخابرات المركزية الإمريكية ال CIA ووزير الخارجية الاميركي الشهير هنري كيسنجر في ذلك الوقت دوراً محورياً في التخطيط لهذا الانقلاب الأسود وتمويله والذي راح ضحيته في الأيام الأولى من الانقلاب وطوال سني حكمه الذي استمر ما يقرب من عقدين عشرات الآلاف من القتلى والجرحى المعوقين والسجناء والمغيبين والمشردين والمنفيين قسراً والمفصولين عن أعمالهم من الاشتراكيين والشيوعيين والديمقراطيين والشرفاء وسائر الأبرياء . ويفضح الانقلاب على نظام دستوري ديمقراطي مُنتخب الطابع الإجرامي المنافق للامبريالية الامريكية وزيف تشدق الولايات المتجدة بالدفاع عن حقوق الإنسان ونشر الديمقراطية في العالم ، فهي لا تتوانى فقط في الدفاع عن الانظمة الدكتاتورية والرجعية والتحالف معها لقمع القوى الديمقراطية المطالبة بالتغيير والإصلاح في بلدانها ، بل ولا تتورع أيضاً عن إسقاط الانظمة الدستورية الديمقراطية التعددية ذات الحكومات المُنتخبة وفق مبدأ "حق تداول السلطة" ، كما حدث في تشيلي عند الإطاحة بحكومة الليندي التي لم ترق سياساتها وتوجهاتها الإشتراكية لواشنطن ، وقد أماطت اللثام عن ضلوع امريكا في الإنقلاب " وكالة الأمن القومي " الأمريكية إثر كشفها عن وثائق مر عليها 25 عاماً طبقاً للقانون والتي كان من ضمنها الوثائق الخاصة بالتخطيط الامريكي المسبق لتدبير ذلك الانقلاب الدموي المشئوم ثم في تنفيذه ودعم الانقلابيين . وكانت حكومة الليندي خلال السنوات الثلاث القصيرة التي تولت خلالها السلطة في البلاد ( 1970 - 1973 ) قد أقدمت على تأميم الشركات الكبرى التي كان للولايات المتحدة فيها اليد الطولى في أسهمها وإدارتها والاستفراد بأرباحها الهائلة ، وعلى الأخص شركات النحاس ، والبنوك والمصارف الخاصة ، الأمر الذي أثار بشدة حنق الولايات المتحدة من حكومة الليندي ورأت فيه ما يعرّض مصالحها في هذا البلد للزوال ، ولم تقتنع حتى بالتعويضات التي عُرضت عليها من قِبل الرئيس الليندي .
لقد قاوم الرئيس الإشتراكي ببسالة الانقلابيين وقاد مقاومتهم من داخل قصره وخاطب الشعب منادياً إياهم بعدم الإستسلام ، لكنه حينما أدرك بوشوك وقوع القصر في أيدي زمرة بينوشيه الانقلابية الذين يحاصرون قصره ويمطرونه قصفاً أقدم على انهاء حياته بنفسه لكي لا يقع أسيراً في أيدي الانقلابيين ، ولما كانت رؤية الحلفاء في السلطة التشيلية المنتخبة المكونة من الشيوعيين والاشتراكيين وحلفائهم الآخرين من القوى التقدمية الديمقراطية الاخرى تختلف في تلك المرحلة التاريخية من ستينيات وأوائل سبعينيات القرن الماضي في وسائل الوصول إلى السلطة عن رؤىٰ قوى وفصائل اخرى في حركة التحرر العالمي ، ككوبا والصين ، فقد كانت القيادة الكوبية في سنوات فتوتها الأولى قبل أن تغتني بالنضج الثوري غير متفائلة بالطريق السلمي البرلماني الذي يسلكه الاشتراكيون والشيوعيون في تشيلي ودول اخرى في أمريكا اللاتينية للوصول إلى السلطة بدلاً من تبني حرب العصابات والكفاح المسلح ، على الرغم من أن هؤلاء اليساريون التشيليون فازوا وفق تشخيصهم الدقيق للنضال السلمي بالاغلبية في انتخابات 1970 ، وشكلوا حكومة وحدة وطنية ذات اغلبية بمفردهم وحلفائهم .
وحسب الشهادة التي أدلى بها مراسل الإذاعة والتلفزيون السوفييتي في سانتياغو إبان الانقلاب ليونارد كوستيف إلى "قناة RT " الروسية فمن المفارقات الساخرة التي لا تخلو من دلالة أن بندقية الكلاشينكوف التي أنهىٰ بواسطتها الرئيس الليندي حياته سبق أن أهداها له الرئيس الكوبي فيدل كاسترو قبل سنوات من انتخابه رئيساً لتشيلي، وكتب عليها : " إلى صديقي الذي يسعى إلى ما نسعى إليه بطرق سلمية " ، كما وأهداه أيضاً رفيق دربه الثائر العالمي المعروف الشاب الشهيد تشي جيفارا كتاباً بعنوان " حرب العصابات " لإقناعه بعبثية النضال السلمي في بلاده وأمريكا اللاتينية ، ولا تخفي على اللبيب ما لهاتين الهديتين من رمزية لرغبة القيادة الكوبية بان ينتهج الحزب الاشتراكي بزعامة الليندي الكفاح المسلح طريقاً للتحرر والتغيير ونبذ التعويل على النضال السلمي . لكن الليندي كان معروفاً بأنه من الشخصيات اليسارية النادرة في أمريكا اللاتينية والعالم الثالث عامةً التي تُغلّب الخيارات السياسية والوسائل السلمية ، ومنها النضال البرلماني ، لتحقيق الاصلاحات الجذرية ، أو لإقامة حكومات اشتراكية مُنتخبة ، على خيارات النضال المسلح في بلدان امريكا اللاتينية دون دراسة الخصائص والظروف السياسية والجيوسياسية الملموسة في كل بلد مسبقاً . ولم تكن قناعات الرفيقان كاسترو جيفارا حينذاك تلتقي مع الليندي في هذا الشأن ، بيد ان هذا التباين في الرؤى النضالية لم يمنع من أن تربطهما صداقة رفاقية نضالية .
على أن تمكن الانقلابيين من الإطاحة بحكومة الليندي الاشتراكية المنتخبة لا يعني البتة عدم صحة الطريق السلمي للنضال الذي تبناه الاشتراكيون والشيوعيون ، بقدر ما يعني الاصرار على هذا الخط النضالي واستعادة الحقوق الديمقراطية مجدداً مهما بدا الطريق النضالي من أجل شاقاً وطويلاً ومعقداً فهو يبقى في نهاية المطاف الاكثر اختصاراً لآلام الشعب والاكثر ضمانة لمستقبل حقوق الشعب ، وبخاصة الطبقات الشعبية الفقيرة من العمال والفلاحين وسائر الكادحين من أجل انتزاع حقوقها الطبقية والإنسانية .
. ولقد كان الرئيس التشيلي المنتخب الليندي من انضج القيادات اليسارية في العالم الثالث التي كانت تدافع عن اقامة انظمة تعددية دستورية وترفض وصول اليسار للسلطة عن طريق الانقلابات العسكرية ، كما كان له موقف حازم مندداً بقوة بالتدخل العسكري السوفييتي في تشيكوسلوفاكيا عام 1968 فيما عُرف بربيع براغ . ولئن كان الليندي قد أخطأ بلجوئه إلى الانتحار درءاً من وقوعه أسيراً في أيدي أعدائه الفاشيين أثناء معارك الأحداث الدامية للانقلاب عليه ، إلا أنه ترك إرثا فكرياً من الدروس العملية السليمة التي ينبغي على كل الشيوعيين في العالم ، وبخاصة في عالمنا العربي ، استلهامها والاستفادة منها في أعقاب سقوط أول وأكبر تجربة اشتراكية في تاريخنا الحديث ممثلةً في الاتحاد السوفييتي . ولعل من أهم هذه الدروس في هذا الشأن التمسك بالخيار السليم بدراسة وتقييم الوسيلة النضالية المناسبة للوصول للسلطة ، بل وإدانة من ينحرف عن هذا الطريق من القوى الشيوعية واليسارية في العالم دفاعاً عن القيم الديمقراطية حتى لو كان ممن وصلوا إلى السلطة عن طريق انقلاب عسكري يحملون شعارات ثورية يسارية ، او من خلال حرب عصابات وعنف مسلح أفضى لإستلامهم السلطة في الوقت الذي لا الظروف الموضوعية ،أو حنى الذاتية ، ناضجة بما فيه الكفاية لتؤهلهم إستكمال مهام التحرر وبناء الاشتراكية ما دامت تجربتهم مُعرضة للانتكاسة والمآسي والاجهاز علي مكتسباتها من قِبل أعدائها . والدرس الآخر من دروس انقلاب بينوشيه المستفادة يتمثل في أهمية رد الاعتبارإلى الرئيس الليندي من قِبل معظم الأحزاب الشيوعية في العالم ، إن لم يكن كلها ، عبر إعادة النظر في موقفها الذي خذل الجناح الاصلاحي في الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي بقيادة الكسندر دوبتشيك الذي رفع شعار "اشتراكية ذات وجه إنساني " وتبنى حزمة إصلاحات ديمقراطية داخل الحزب والدولة ، لكن جُل تلك الأحزاب الشيوعية الحليفة للاتحاد السوفييتي وقفت مع تدخله العسكري في تشيكوسلوفاكيا ، بلا تحفظ ، بغية عزله دون مراعاة احترام استقلالية الحزب الحاكم في براغ ولا السيادة الوطنية للبلاد ، فهذا الحزب ، كما يُفترض، هو الأعلم من الشيوعيين السوڤييت بظروف وخصائص بناء الاشتراكية وتطويرها في بلاده حتى لو افترضنا عدم صحة اجراءاته الإصلاحية .
وبهذا فقد كان الرئيس التشيلي المغدور الراحل سلفادور الليندي وعدد من الاحزاب الشيوعية في اوروبا الغربية قد سبقوا الشيوعيين في العالم بتميزهم عنهم في الموقف من ذلك التدخل السوفييتي العسكري السافر في تشيكوسلوفاكيا والذي جرى تحت المواريث المزمنة لعقلية الكومنترن والنزعة الستالينية لإزاحة دوبتشيك من زعامة الحزب وقيادة الدولة بالقوة العسكرية حيث أدان الانقلاب في وقته ، على الرغم من امتعاض الحزب الشيوعي السوفييتي الحاكم من موقفه هذا .