المنبرالحر

الحراك المدني ممارسة نضالية وتربوية / محمد موزان الجعيفري

اهتم علماء النفس والاجتماع السياسي بتحليل اسباب وغايات الاحتجاج الجمعي وصنفوها الى نوعين: (تمرد غوغائي) للمحرومين الذين يقعون في اسفل الهرم الاقتصادي للمجتمع، واحتجاج سياسي لافراد من طبقات وفئات متنوعة تشعر بالمظلومية وعدم العدالة الاجتماعية. وكان العالم (لوبن) من اوائل الذين درسوا هذا السلوك في كتابه (دراسة في الفعل الشعبي) توصل فيها الى ان الانسان الفذ قد يكون مثقفا ومتحضرا ولكنه وسط الجميع قد يصبح بربريا، واستنتج ان سلوك الجميع هو استجابة لاعقلانية لاغراءات الموقف الذي تجد الجماعة نفسها فيه .
وقد توصلت الصين ودول اخرى في ستينيات القرن الماضي الى ان السبب الرئيس لقيام الناس بالاحتجاج السياسي ناجم عن الشعور بالحيف والحرمان والمظلومية وهدر كرامة الانسان والاحساس باللامعنى والاغتراب والشعور باليأس من اصلاح حال كانوا قد طالبوا بتغييره من قبل وعدم استجابة الجهة المعنية لمطالبهم، كما حصل في العراق الديمقراطي حيث دخل المتظاهرون عامهم الخامس ولاحياة لمن تنادي .
والمشكلة في هذه الظاهرة ان ثقافتنا توجهنا الى ان نتعامل مع احتجاج جماعة او جماعات بعواطفنا، ونصدر على هذا السلوك احكاما انفعالية سلبية او ايجابية، مع انه يتطلب تحليلا علميا وسايكولوجيا لاسبابه ونتائجه.
يعني الاحتجاج في مصطلحات علم النفس والاجتماع السياسي شكوى او اعتراضاً واظهار عدم قبول شخص أو مؤسسة مارست سلوكا سبب الحرمان، او شعورا بالحيف او ظلماً وهذا التصريح بالاعتراض او الامتعاض وعدم الموافقة يصدر اما من شخص او جماعة او منظمة او حشد كبير، يهدف الى رفع الظلم عن الشخص القائم او القائمين بالاحتجاج، ويفسر السلوك الاحتجاجي بوصفه ناجماً عن نظام اجتماعي وعدم العدالة الاقتصادية التي ادت الى قهر وضغوط نفسية تجاوزت حدود القدرة على تحملها، وانه يحدث نتيجة لتوافر الفرص السياسية
فالعراقيون لم يمارسوا الاحتجاج السياسي زمن النظام الدكتاتوري، لانه كان يعتبر من يحتج عليه متحديا له حتى لو كان المحتج قد لحق به ظلم بالغ ونتذكر ان الذي يقتله النظام ويكتشف فيما بعد ان القتيل كان بريئا ، يأتي إلى عائلته من يمثل البعث ليقدم اعتذاره مع تعويض مادي معين، وان الذي يقتله ويثبت انه مجرم بمفهوم النظام يؤخذ من عائلته ثمن الرصاصات التي صوبت الى صدره، وبسبب ذلك ايضا ، وماحدث من نهب لممتلكات الدولة في نيسان 2003 وماشاب سلوك العراقيين في الاحتجاج من انتهاكات جرى تشذيبها في تظاهرات 2015 لكننا لم نصل بعد الى ثقافة تجعلنا نفهم ان الاحتجاج السياسي سلوك مشروع يخص كل الاطراف ( المتظاهرين والسلطة والقوى الامنية) وعليها ان تتعامل باسلوب حضاري وثقافة جديدة. فيما يخص المتظاهرين فان عليهم ان يدركوا ان سايكولوجية الاحتجاج اثناء التظاهرة تزيد من الانفعال بعلاقة طردية مع حجم المحتجين ويؤدي احيانا الى فقدان بعض المتظاهرين حماسهم المشروع وانفلات السلوك او استفزاز المسؤول عن حفظ النظام الذي يفسر حتى الاشارة غير المقصودة بانها اهانة، وفيما يخص السلطة فانها أرسلت أحد مسؤوليها ليعطي الاوامر من على سطح العمارة المطلة على ساحة التحرير بقمع المتظاهرين في شباط عام 2011 وكان واجبها ان تستوعب مطالب المتظاهرين وتعمل معهم بجدية وتكون صريحة معهم وتنفذ ما يمكن تنفيذه واقناعهم بما لا يمكن تحقيقه، وان تتجنب الاهمال والتسويف والمماطلة وعدم الاكتراث بمطالب المتظاهرين لان ذلك يعد استخفافا بهم وعدم احترام لكرامتهم، مما يؤدي بالنتيجة الى تصعيد يلحق الضرر بالطرفين.
اما الطرف الثالث فهو القوى الامنية، والملاحظ انها لاتزال تحمل فهما خاطئا لمهماتها، فتاريخها في العراق علمها ان تكون اداة بيد السلطة، وانها مأمورة، ولم تفهم بعد ان الاحتجاج ليس تمردا على السلطة ولايهدف الى اسقاطها او النيل منها، وان هذا السلوك يحصل حتى في المجتمعات الاوربية المتحضرة لذلك ينبغي ان تتحول ثقافتها في الزمن الديمقراطي الى حماية المحتجين والحفاظ على سلامتهم ورصد المندسين والمجرمين الذين يستغلون الفرصة لنهب ممتلكات المواطنين ومؤسسات الدولة، ومع الاسف فان ما قامت به من تصرفات ومنها في 17 تشرين الثاني 2015 بالاعتداء على المتظاهرين بالضرب والكلام البذيء واعتقال اكثر من 25 ناشطا منهم لم يسيئوا الى احد وطلبت منهم التوقيع على تعهد بعدم المشاركة في التظاهرات مما يؤشر بان السلطة ايضا لم تتخلص من ثقافة الاستبداد بخصوص سلوك الاحتجاج السياسي، وان عليها ان تستبدلها بثقافة الزمن الديمقراطي، سيما وان تعامل القوى الامنية مع المحتجين يعد مؤشرا محليا ودوليا على ديمقراطية النظام وسلوك حكومته
وتبقى مسالة في غاية الاهمية لا يدركها كثيرون هي ان سلوك الاحتجاج يؤدي الى توعية الناس بثقافة جديدة، فالحراك المدني هذا يعد ممارسة نضالية وتربوية توحد الناس في التعامل ضد الظلم وتدفعهم الى ايجاد معنى لوجودهم في الحياة وتشيع في السلطة وفي القوى الامنية والعراقيين عموما ثقافة سلوك الاحتجاج الجمعي باعتباره ظاهرة ايجابية تؤدي الى التغيير الاجتماعي وتعيد احياء قيم اخلاقية وانسانية تفضي في النهاية الى اشاعة السلام في الوطن والمحبة بين الناس.