المنبرالحر

صفحات مضيئة من تاريخ كربلاء السياسي / رضي السماك

في تسعينيات القرن الماضي كانت تصلني بريدياً بانتظام من لندن على عنواني السكني بالبحرين نسخة من مجلة " رسالة العراق " الشهرية التي يصدرها إعلام الحزب الشيوعي العراقي في الخارج ، وفي أحد أعدادها أتذكر جيداً إن الرفيق عبد الرزاق الصافي ، أطال الله في عمره ، كتب مقالاً تطرق فيه إلى ما كانت تلعبه المواكب الحسينية من أدوار نضالية مهمة في تاريخ كربلاء والعراق بوجه عام منذ الاحتلال الانجليزي ،ومروراً بالأنظمة الاستبدادية المتعاقبة ، ونشر عدداً من القصائد الشعبية الحُسينية أو " الردات " ، كما تُعرف لدينا في اللهجتين البحرانية والعراقية ، والتي ترددها تلك المواكب والمطعمة بشعارات حسينية - سياسية لا تخلو من الاتتقادات المُبطنة أو الصريحة ضد استبداد حكام العراق الطغاة ، ووجّه نداءً طلب فيه من كل من تحفظ ذاكراته شيئاً من تلك الردات أن يوافيه بها أو المجلة ، وبالفعل أتذكر تجاوب عدد من القراء مع ندائه ونُشرت "الردات " التي أرسلوها إليه أو إلى المجلة في الأعداد اللاحقة .
ولعل الباحث الكربلائي طه خضير الربيعي ممن التقطوا خيط الفكرة ليقوم بتطويرها تطويراً تخصصياً علمياً عبر توثيق وتأريخ فعاليات وأنشطة المواكب الحسينية في مدينته "كربلاء المُقدسة " وبوجه خاص موكب محلته السكنية التي وُلد وترعرع فيها والمعروفة " محلة العباسية " وذلك من خلال كتابه الموسوم " هدير الحُسين في موكب ومحلة العباسية " الطبع والنشر والتوزيع مكتبة الحكمة - كربلاء ، الطبعة الأولى 2010 . وحينما تبحر في صفحات هذا الكتاب الكبير ( أكثر من 350 صفحة ) فإنك لا تشعر بمدى الجهد الضخم الذي بذله المؤلف في جمع المواد المتعلقة بالمواكب الحسينية والردات والأحداث السياسية المرتبطة بها فحسب ، بل ويستحضر بين يديك تاريخاً عريقاً ينبض بالحياة لا يوثّق لنضال حارته الشعبية السكنية " محلة العباسية " فحسب ، وجلهم من المهمشين والفقراء والعمال الكادحين ، بل ويدوّن شذرات سريعة وصفحات مضيئة من التاريخ النضالي لمدينته وشعبه العراقي بكل شرائح نسيجه الاجتماعي ، كما لا يخلو الكتاب من معلومات جغرافية وتراثية مفيدة تتعلق بالمدينة.
يتكون كتاب الربيعي من مقدمة ، وتمهيد يشتمل على كيفية نشوء "كربلاء " وأصل تسميتها ، وثلاثة فصول : الأول يتعلق بتاريخ العزاء الحسيني ، وقد ظهر أول موكب عزائي العام 1650م بإشراف الشيخ محمد جواد بلاغي ، والفصل الثاني يستعرض فيه المؤلف الأماكن التي سُميت بالعباسية في عدد من الأقطار العربية ، ومنها مصر حيث الحي الشعبي الكبير المعروف بهذا الإسم في القاهرة والذي يعج أيضاً بالفقراء والمهمشين ، وأخير الفصل الثالث وهو أكبر فصول الكتاب ويدرج في سياقه 36 عنواناً فرعياً لمواضيع شتى من نحو : تكوينات عزاء العباسية ، التكية ، الهودج ، الأعلام ( الرايات ) ، هيئة شباب فلسطين ، شعراء العباسية ، صورة رأس الحسين وقصتها ، الردات السياسية لعزاء العباسية ... إلخ ، ويختتم الكتاب بملحق صور خاص بعدد من مشاهير الشعراء والرواديد ، والمواكب أثناء مسيراتها ،وبعض الأمكنة .
كما يستعرض المؤلف في كتابه نماذج من "الردات " الخاصة بموكب محلة العباسية سواء التي ظهرت في مواسم عاشوراء خلال سني العقد الماضي بعد سقوط نظام الدكتاتور صدام حسين أو خلال مواسم من عقود القرن الآفل . وفي ظل مصادرة الحريات العامة طوال حكم الأنظمة الشمولية المتعاقبة ، ولا سيما حق التظاهر السلمي ، ليس غريباً أن تستغل قوى المعارضة الوطنية على اختلاف ألوانها الفعاليات والمناسبات الجماهيرية الدينية للتعبير عن المطالب والاحتجاجات الشعبية ضد القمع والفساد لما تتمتع به تلك المناسبات من حصانة دينية تحمي المشاركين فيها . وإن كانت هذه الحصانة لم يقم لها الطاغية الدكتاتور المقبور أي اعتبار إذ حظر موكب العباسية طوال عهده كما تم سجن وتعذيب وقتل ونفي أعداد من القائمين عليه ، هو الذي لم يتورع عن تفجير الحضرة الحسينية خلال الانتفاضة الشعبانية . ومن المعروف ان موكب " العباسية " في سني تنامي الحركة الوطنية وعلى الأخص اليسار ممثلاً بالحزب الشيوعي هو الأطول والأضخم على الإطلاق بين سائر المواكب .
على ان هذا الموكب العريق تاريخياً في تأسيسه ( 1888 م ) لم تقتصر اهتمامات رداته على الشأن الوطني المحلي فحسب ، بل وعبّرت كذلك عن خلجات تفاعل الشعب العراقي مع القضايا العربية والعالمية العادلة . إذ كانت محلة العباسية بمثابة الدينامو أو قلب المدينة النابض في إشعال الانتفاضات والمظاهرات الجماهيرية السياسية ، فمنها انطلقت المظاهرة التي عمت كل شوارع وأزقة كربلاء ضد وزارة نوري السعيد العام 1931 ، كما لعبت دوراً مهماً في انتفاضة تشرين الثاني 1952 الشعبية ، فضلاً عن الاحتجاجات الشعبية العارمة التي انطلقت من "المحلة " ذاتها وعمت المدينة ضد العدوان الثلاثي على مصر العام 1956، ناهيك عن محاولتها الشجاعة لصد الانقلاب البعثي الدموي في 8 شباط 1963 على الحكم الوطني لثورة 14 تموز الوطنية .
ومن المناسبات التاريخية التي شهدتها المدينة والتي أوردها المؤلف زيارة المناضل القيادي الجزائري عباس فرحات لكربلاء سنة 1958 على رأس وفد كبير إبان الكفاح المسلح لشعبه ضد الاستعمار الفرنسي وحيث زار أيضاً مرقدي الحسين والعباس وسط حفاوة شعبية وسياسية كبيرة ، فأينما حلوا تنطلق هتافات التأييد للثورة الجزائرية والتنديد بجرائم الاحتلال الفرنسي في الجزائر . كما كانت لمحلة العباسية بطولات مشهودة في الانتفاضة الشعبانية التي اندلعت في آذار 1991 على إثر هزيمة الغزو الصدامي للكويت .
ومنذ إنطلاقته الجديدة بُعيد سقوط نظام الدكتاتور مازال موكب "محلة العباسية " بمثابة الصوت الحر الشجاع المُعبّر عن آلام وآمال الشعب العراقي بكل مكوناته القومية والدينية والعرقية في الخلاص من الارهاب " الداعشي " وفساد السلطتين التشريعية والتنفيذية ونيل حقوقه المعيشية والديمقراطية الحقيقية الكاملة بلا تدليس أو تملق ومتاجرة بمشاعره الدينية ، ومن رداته في فضح النواب الفاسدين : " دمك أيسيل بالانفجارات / والبرلمان يريد دوم امتيازات " ، وثانية جاء فيها : " وين حامي الحرب على المفسدين / ما شفنا حكم عل المجرمين / رقابهم محد لواها / لا قضاء ولا نزاهة " .
ونظراً لأهمية الكتاب التوثيقية والتاريخية فإنه بحاجة إلى إعادة طباعته طبعةً مُنقحةً جديدة تتلافى الأخطاء المطبعية والاملائية والنحوية العديدة التي حفلت بها الطبعة الأولى وإعادة ترتيب تبويبه وفق منهجية علمية بحثية أكثر إحكاماً ، ولربما من الأفضل لو يستعين المؤلف بمدقق لغوي لضبط سلامته اللغوية ، ولا يقلل ذلك بطبيعة الحال بالقيمة العلمية الساسية والتاريخية والتوثيقية لكتابه الهام وما بذله من جهود مضنية لتأليفه وإصداره .