المنبرالحر

بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي / سلام خماط

المجتمع المدني كان ولا يزال محور الفكر الانساني ،وان جميع الاديان والفلسفات والإيديولوجيات وضعت في تصوراتها عملية تنظيم المجتمع وقيادته ،فالإنسان اينما وجد لديه الاستعداد للانضمام الى اي شكل يمكن ان ينظم حياته سواء كان حزب او جمعية او مؤسسة شريطة ان يكون هذا الانضمام على اساس المشاركة والتشاور ، فالمجتمع المدني في الحضارة الاغريقية يعني " الجماعة المنظمة سياسيا " ، وقد اكد اغلب الفلاسفة على ان العدالة هي الاساس في الحياة البشرية لكن التنافس على السلطة والمجد شكل معضلة في تحقيق تلك العدالة ،عندما مات ارسطو اعلن عن موت دولة المدينة وألغيت فكرة ان البشر قادرون على حكم انفسهم عن طريق العمل المشترك، وحل محله فهم جديد مغاير لفكرة ارسطو ركز هذا الفهم الجديد على ان السعادة والاستقلال والمساواة والاستقامة الشخصية هي المفاهيم الصحيحة والفاعلة في خلق المجتمع المدني.
ثم جاء القرن الثامن عشر ليعلن ادم سميث عن طريق كتابه الجديد " ثروة الامم " هذا الكتاب الذي يعد نقطة فاصلة في تاريخ تطور الفكر الحديث عندما اعتبر الاقتصاد الشريان الحيوي للحياة المدنية المتحضرة.
وهكذا حصل العديد من التحولات التي ادت الى تغير شكل المجتمع مع كل تغيير ، ففي القرن العشرين عندما ظهر شكل الدولة الاشتراكية ظهر معها شكل جديد للمجتمع المدني فرض نوع من التنظيم الاجتماعي ، فالاشتراكية التي كانت تهدف الى الغاء الدولة في المجتمع الشيوعي نهجت الى تركيز سلطة الدولة ومؤسساتها والسبب في ذلك يرجع الى حجم وجسامة التحديات الداخلية والخارجية على حد السواء ،فالدولة الاشتراكية كما هو معروف للجميع تختلف عن الدولة الرأسمالية لكنها قيدت ميادين العمل المستقل وجعلت الاهمية لميدانها مما انتج علاقة غير متكافئة بينها وبين المجتمع ،الا ان ذلك التقييد مهما بلغ من درجة لا يعني ان المجتمع المدني في الاتحاد السوفيتي على سبيل المثال قد مات حتى في ذروة الحكم الإستاليني كما يرى بعض المنظرين الغربيين ،بل كانت هنالك العديد من الجمعيات المدنية التي لها فعلها الملموس والمستقل بعيدا عن سلطة الحزب والدولة السوفيتية ، وكذلك الامر بالنسبة لبولندا وجيكوسلوفاكيا حيث شكلت الجمعيات التطوعية الديمقراطية غير المرتبطة او التابعة لسلطة الدولة ومنها اتحاد نقابات التضامن على سبيل المثال.
وبعد ان دخل الدين على الخط حيث لم يكتف رجالاته بقيادة المجتمع قيادة روحية وسعوا الى قيادته سياسيا بعد ان تحالفوا مع الامبراطور حيث اوجدوا شكلا من اشكال التنظيم السياسي والذي عرف لاحقا ب(الحق الالهي ) الذي برر القسر واستخدام القوة ردعا لمنع الشرور التي تأتي عن طريق الهرطقات والحركات المناهضة للدين ، وبحجة محاربة الالحاد وفرض الديانة المسيحية عنوة على الناس وأوجدوا محاكم التفتيش سيئة الصيت ، خرج مارتن لوثر بحركته الاصلاحية التي وضع من خلالها خطوطا عامة لمعنى الدين والتدين وحدد علاقة الانسان بالكنيسة من جهة والدولة من جهة اخرى ،هذا التحديد الذي يعتبر بداية المناداة بفصل الدين عن الدولة ،حيث اعتبر الكنيسة مؤسسة روحية حدودها جدرانها ومجالها تعبدي طقوسي لا علاقة لها في الشأن العام.
في العراق وبعد التجربة البرلمانية الفاشلة وفشل نوع النظام الانتخابي المتمثل في القوائم المفتوحة والدوائر المتعددة ، ومطالبة عدد من الاحزاب الوطنية والعديد من الشخصيات الاعلامية والمجتمعية بنظام الدائرة الانتخابية الواحدة باعتبارها الخلاص الوحيد من نظام المحاصصة المقيتة التي كانت السبب وراء كل الانتكاسات التي رافقت العملية السياسية منذ تأسيس مجلس الحكم الذي بني على اساس طائفي وقومي ،ادخل من خلاله المكونات العراقية المختلفة في سدة الحكم بأمر من الحاكم الامريكي بول بريمير سيئ الصيت ، إلا ان الكتل الكبيرة في مجلس النواب لا زالت تصر على بقاء نظام الدوائر المتعددة، وان اغرب ما في الامر ان يطالب الناطق باسم المرجعية باعتماد هذا النظام كي يضفي شرعية عليه من على منابر خطب الجمعة متناسيا ان اغلب الذين وصلوا الى البرلمان قد ابتعدوا عن هموم المواطنين والناخبين على حد السواء.
فإذا كان التحالف الكوردستاني قد طرح مبادرة الدائرة الانتخابية الواحدة لغاية في نفس يعقوب كي يلجا عند عدم الاخذ بها الى الخيار الثاني ( المقاعد التعويضية ) فإننا نؤكد على اعتماد نظام الدائرة الانتخابية الواحدة ورفض فكرة المقاعد التعويضية وندعو مؤسسات المجتمع المدني والقوى الوطنية كافة الى المطالبة باعتماد الدائرة الواحدة كي يكون النائب ممثلا حقيقيا لكل الشعب العراقي وليس ممثلا لطائفة او دين او قومية او حزب.
ان السلطة السياسية تتجسد في الدولة ومؤسساتها القضائية والتنفيذية والتشريعية فيما يتجسد المجتمع المدني في الجمعيات والنوادي والمنظمات والروابط والمنتديات وما تحمله من مبادرات ونشاطات والذي يلعب الاعلام دور في نشرها وعرضها على الراي العام ،وقد يسأل سائل الم تكن الاحزاب تشكل مساحة من مساحات المجتمع المدني ؟ والجواب على ذلك نقول ان غاية الاحزاب تندرج ضمن المجتمع السياسي وليس المدني والدليل على ذلك ان هدف الاحزاب هو تسلم السلطة بينما لا تهدف منظمات المجتمع المدني لاستلام السلطة وانما تهدف الى مراقبة السلطة او العمل كوسيط بين المجتمع والسلطة ،فعندما نقول ان الاحزاب تهدف للوصول الى السلطة فان ذلك لا ينقص من قيمتها لأنها تنظر الى مصالحها من خلال تحقيق المصلحة العامة او تتناغم معها اما منظمات المجتمع المدني فأنها منظمات تطوعية غير ربحية ليس لها هدف غير المصلحة العامة وهذا الامر لا يعلي من شانها لأنها قد تخطى الطريق الى المصلحة العامة وتتحول الى منظمات تعتاش على اموال المنظمات المانحة ، من هنا يمكن القول ان الحيز الاكبر هو المجتمع المدني وهو الذي تنبثق منه كل المؤسسات بما فيها المجتمع السياسي السلطة العامة). )
اما منظمات المجتمع المدني فيشكل الحيز الوسيط بين المجمعيين السياسي والمدني ،وبما ان الانسان ومنذ القدم ميلا الى الانضمام الى أي شكل من اشكال التنظيم الذي ينظم حياته حزب كان او منظمة او نقابة او اتحاد او رابطة وغير من التنظيمات الاخرى ولكن شريطة ان يكون مساهما فيها وشريكا في رسم السياسات العامة او ممارسة نقد الدول ومراقبة السلطة ،والعمل على ارساء مفاهيم الديمقراطية من خلال تحويل السلطة الى افق عقلنتها وتوجيهها والتأثير فيها بما يتلاءم مع تطلعات المواطنين ومطالبهم ،وبهذا تكون منظمات المجتمع المدني شرطا رئيسيا لصناعة الراي العام من خلال اعضائها او من خلال نشاطاتها بالتعاون مع الصحافة والاعلام ،فالإعلام يظهر دوره ودور المثقفين في تنوير المواطنين ورفع مستوى الوعي لديهم من اجل ان يكون الرأي العام طاقة اضافية للتأثير على السياسي من جهة وعلى السلوك الانتخابي للمواطن من جهة اخرى ،وهنا تكمن اهمية منظمات المجتمع المدني ،من هنا لا تكون السلطة السياسية وما تتخذه من قرارات وفق الدستور والنظام الديمقراطي سلطة شرعية اذا لم تكن مسنودة من قبل المجتمع المدني ،واذا لم تحقق تلك القرارات المطالب التي يرفعها المجتمع عبر التظاهرات السلمية او الاعتصامات المدنية ،أي بمعنى اخر ان السلطة السياسية سوف تفقد شرعيتها التي اكتسبتها من خلال الانتخابات بمجرد اغفالها لمطالب المتظاهرين او تسويف هذه المطالب ،كون الشرعية التي تأتي عن طريق الشارع ( التظاهر) اكبر من الشرعية التي تأتي عن طريق صندوق الانتخاب وهذا ما حصل بالضبط في مصر حيث الغى الشارع المصري شرعية الرئيس محمد مرسي المنتخب.
ان سلطة تحدد نفسها عن طريق القانون بوصفها سلطة سياسية مؤسسية تنـزع إلى الأمر والفرض والقيد والهيمنة. وهذه السمات التي تتصف بها هذه الدول تزول حتى في الأنظمة الديمقراطية العريقة، حيث تستند مشروعية السلطات كلها إلى السيادة الشعبية المعبر عنها بالاقتراع العام.
أما السلطة المدنية فإنها تأتي عن التواصل الذي ينسجه المواطنون فيما بينهم بخصوص القضايا والمشاكل التي تتصل بالشأن العام وهذا هو معنى العقد الاجتماعي الذي استند عليه اغلب الفلاسفة في بناء المجتمع المدني.