المنبرالحر

أبطال حماية الإسلام في البحرين والعراق / رضي السماك

شاءت المصادفات التي لا تخلو من مغزى أن يخوض نوّاب من مغاوير التقوى والإيمان في برلماني البحرين والعراق في وقت متزامن تقريباً ملحمة جهادية بطولية من ملاحم " الجهاد " السياسي العظيم لحماية الإسلام والمسلمين في البلدين من إثنين من أشر أنواع الفساد اللذين يتربصان بهما ألا هما " الموسيقى والخمرة " . ففي العراق فإن مغاوير الغيرة على بيضة الإسلام الذين لا تأخذهم في الحق لومة لائم زفوا إلى شعبهم البشارة الكبرى التي طال ترقبه لها أكثر من ألف عام وتحديداً منذ زمن العباسيين ألا هي قرارهم بإدخال على قانون وارادات البلدية مادة تُحظر استيراد وتصنيع وبيع الخمور لكونها مُحرّمة إسلامياً .
وعلى الجبهة البحرانية وللتعبير عن دعمهم لنوّاب الإسلام السياسي الشيعي في العراق قام نواب الإسلام السياسي السني ( سلف ) قاموا بفتح جبهة جهادية موازية لمحاربة الموسيقى باعتبارها هي الاخرى مفسدة ورجساً من أعمال الشيطان وذلك إثر مقترح تقدموا به بتحريم الموسيقى برمتها جملةً وتفصيلاً، ومنع تدريسها في المدارس بالرغم من تعدد الاجتهادات بصددها ليس بين المذاهب فحسب بل وداخل المذهب الواحد .
ولعل أكثر ما يثير العجب والدهشة الشديدة فيما يتعلق بالعراق هو في هذا التوقيت بالذات والبلد من أقصاه إلى أدناه مشغول بأخطر قضية فساد يشهدها في تاريخه الحديث منذ نشوء الدولة الحديثة فيه ، سواء من حيث حجم الاموال التي استنزفت من خلالها ميزانية المال العام طول الحكومات المتعاقبة منذ عقد ونيّف من سقوط الطاغية صدام ، أم من حيث الاعداد المتورطة في الفضيحة والتي تشكل الغالبية العظمى من النواب والوزراء . فمن يصدّق أن قراراً كهذا يأتي في الوقت الذي ماتزال الإنقسامات الطائفية متفجرة على أشدها ، ومايزال أيضاً جزء من التراب الوطني مدنساً من الاحتلال التركي ، وأجزاء اخرى ما تزال تحت سيطرة عصابة " داعش " الإجرامية التي تقيم دويلتها "الإسلامية " المزعومة عليها ، وفي الوقت الذي أيضاً لا يكاد يمر إسبوع واحد يأمن الناس فيه العُزّل على أرواحهم من شرورها التفجيرية المباغتة التي تحصد أرواح المئات من الابرياء الآمنين من رجال ونساء وشيوخ وأطفال وعشرات الجرحى ، وفي الوقت الذي يأتي القرار قبل وضع حدٍ لمعاناة ملايين المواطنين من الخدمات الصحية والتعليمية المتردية ، وانقطاعات للكهرباء والمياه عن محافظات ومناطق عديدة مستمرة ، وفيما أيضاً ملايين الشعب المنكوب أنظارها مصوّبة على الموصل تترقب بلهفة شديدة مصير معركة تحريرها التي دقت ساعتها ، وفي الوقت الذي مازال المواطن العراقي يئن أيضاً من وطأة الغلاء وارتفاع نسبة البطالة وتدني الاجور . ولكن من أين صدر قرار حظر المشروب الروحي ؟ من العاصمة الحضارية التي ظلت تعرف تداول الخمرة دونما انقطاع على مدى اكثر من ألف عام ، بدءاً من حُكم الخلفاء الأمويين ، فحُكم الخلفاء العباسيين وليس انتهاء بحكم الخلفاء العُثمانيين ، فكل فكل حكّام تلك العهود عجزو بجيوشهم الجرارة وكبار فتاوى أئمتهم على مدى قرون طويلة أن يقتلعوا هذه "المفسدة " العظيمة حتى أنبرى لها النواب ، الأشاوس حراس الفضيلة والعامرة قلوبهم بالإيمان، ليزفوا إلى شعبهم تلك البشرى العظمى التي انتظرها طويلاً أكثر من ألف عام !
لكن أي " مخبل سياسي " عراقي هذا يا تُرى يجهل الغاية من ظهور هذا القرار وإشغال الناس به في هذا التوقيت بالذات ؟ وبالتالي فهل جانب الصواب الغالبية العظمى من المراقبين والمحللين السياسيين العراقيين والقوى السياسية على اختلاف انتماءاتها السياسية والدينية حينما شككوا بقوة في دوافع القرار وأكدوا بأن المشروع إنما للتغطية على فسادهم وسرقتهم المال العام للشعب المطحون ، حيث نجحوا في دغدغة المشاعر الدينية والفطرية لناخبيهم الفقراء بشعاراتهم السياسية " الاسلاموية " المخاتلة . ولنتساءل هنا : إذا كان الجوع كافراً ، كما يُنقل عن خليفة المسلمين الرابع علي بن أبي طالب ، فمن هو الأكثر كفراً في هذه اللحظة الراهنة ؟ الجوع أم "الخمرة " ؟ ألم يبطل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب حد قطع يد السارق في عام الرمادة ؟ واللافت أيضاً إن من أبرز من تحفظوا عن القرار من رجال الدين العراقيين الشيخ إبراهيم الجعفري الذي روىٰ حكاية من الواقع لبائع عقارات يعاقر الخمرة لكنه اشتهر بالتزامه الأمين في دفع الضرائب مهما علت صفقاته العقارية في البيع ، وتساءل الشيخ الجعفري : أيهما أفضل هذا الرجل "المُدمن " الذي قال ما معناه بأن ضميره يأبى أن يتحايل على الضريبة الحكومية التي تموّل خزينة المال العام ويسرق بذلك 30 مليون عراقي ؟ أم الرجل "الملتحي " الذي يمشي إلى كربلاء وهو يلطم في عاشوراء متظاهراً بورعه والتزامه الديني بينما هو في الخفاء يتعاطى مع الرشىٰ والعقود والإيصالات الوهمية المزورة للتحايل على مقدار الضريبة ؟ كما كان للنائب فائق الشيخ علي تصريح إعلامي صارم في تحدي فيه من يأتيه بتعميم منع الخمرة أو ضبط متعاطيها او صانعيها على المسيحيين واليهود منذ زمن الإمام علي ، كما يُراد من التشريع الأخير !
كذلك فإن توقيت مطالبة نوّاب الإسلام السياسي السني في البرلمان البحراني بمنع الموسيقى لا يخلو هو الآخر من مغزى لافت مشابه للعراق في ظروفه وان بدرجة أقل حدةً ، لأنه يأتي بينما المواطن البحراني مازال يئن من وطأة الغلاء الفاحش ، وبخاصة في السلع الاساسية كاللحوم والأسماك والدجاج والارز والسكر والخضروات ومشتقات الوقود وزيادة أسعار الكهرباء والماء وتوقف الزيادات العامة في رواتب القطاعين العام والخاص منذ سنوات طويلة ، وإرتفاع الرسوم أو الضرائب العامة واستحداث الجديد منها ، وفيما لاتزال البطالة متفشية في اوساط الشباب ، ولا سيما الخريجيين منهم ، ناهيك عن الأزمة الإسكانية الخانقة ، وعدم إنفراج الازمة السياسية الخانقة وما يتكبده "الحل الأمني" من إنفاق عسكري وأمني غير مسبوق يستنزف الموازنة العامة استنزافاً شديداً ، وتصاعد معدلات التجنيس السياسي المذهبي الممنهج بصورة جنونية بغية تغيير هُوية التركيبة السكانية مذهبياً، وكل ذلك جاء على إثر الأزمة التي تفجرت إثر أحداث الربيع البحراني في أوائل عام 2011 المعروفة ب " ثورة اللؤلؤة " المطالبة بالمساواة والعدالة والحرية وادخال إصلاحات سياسية واقتصادية حقيقية وحيث انطلقت من ذلك الاعتصام الجماهيري الحاشد من دوّار اللؤلؤة في 14 شباط / فبراير من ذلك العام مظاهرات ومسيرات في العاصمة هي الأكبر في بلدان الربيع العربي في الحجم قياساً بحجم السكان وتصل نسبة المشاركين ءلى نحو ال 60% من عدد البحرانيين ) ، وتفاقم الانقسامات الطائفية على خلفية وسائل قمع تلك الانتفاضة فيما النواب في المجلس الحالي الذي قاطعته كل قوى المعارضة الإسلامية واليسارية بلا استثناء عاجزون في ان يكون لهم أدنى دور ملموس في حلحلة هذه الاوضاع المزرية التي تقصم ظهور جُل المواطنين في الوقت الذي كان يُنتظر الشعب منهم يبشرونه بتقليص امتيازاتهم الهائلة ولو إسوة بما طبقته الحكومة من تقليص في امتيازات بعض المستويات العليا في جهازها التنفيذي .
ما فات على نوّاب الإسلام السياسي بشقيه السني في البحرين والشيعي في العراق بشقيه والذين لطالما برعوا في فن تمزيق الوحدة الوطنية و النسيج الاجتماعي لشعوبهم بإسم الإسلام أن يفكروا بدايةً عما إذا يمكن أسلمة مجتمع بلد ما وجهازه الحكومي في ظل تعقيدات عصرنا دفعة واحدة في بلد متعددالثقافات والتيارات السياسية والطوائف الدينية ،وبضمنها غير الإسلامية ، من خلال العمل البرلماني؟ وهل وهم يرون المظاهر المنافية للإسلام في بلديهما التي لا تُعد ولا تحصى (حسب وجهة نظرهم ) قد خلا هذان البلدان من كل المظاهر المنافية للإسلام ولم يتبقَ سوى مشكلتي الخمور والموسيقى ؟ وإذا كانت كلتاهما ، الخمرة والموسيقى ، من المفاسد فهل التعجيل بحظرهما يشكل أولوية تعلو على الفساد المالي والإداري وتفاقم الأحوال المعيشية والجوع والمشكلة الإسكانية . إلخ ؟ ام هذه يا تُرى هذه الأزمات ليست مظاهر منافية لروح الإسلام ؟ ثم ما قيمة تباهي النواب العراقيين ' وتحديد الإسلامويين ، وتباكيهم على محنة الايزيديين والمسيحيين على أيدي "الدواعش " أمام العالم وتفاخرهم بوجود ممثلين للمذاهب والقوميات والديانات الاخرى المنتهكة من "داعش " في الوقت الذي لا يجدون فيه أية غضاضة من أصدار قرار بمنع الخمور و جعله إلزامياً على الجميع من اتباع تلك الديانات والمذاهب والقوميات الاخرى دون مراعاة لخصوصياتها الدينية وأهمية ان نجد معها ولو في الظروف العصيبة الراهنة القواسم الآنية المشتركة الاكثر إلحاحاً .
يبدو لي ان واحداً من أبرز الأخطاء الجسيمة التي مابرح نوّاب الإسلام السياسي في برلمانات الدول العربية يقعون فيها رغم تجربتهم المديدة في العمل البرلماني غياب ترتيب الأولويات الأكثر إلحاحاً عند سعيهم "الجهادي " لتحقيق أفكارهم وشعاراتهم الايديولوجية ، ومن ثم عدم التفريق بين الاهداف البعيدة المدى والاهداف القصيرة المدى الأكثر إلحاحاً ، فنجدهم يقتحمون أجندات ومطالب يمكن تأجيلها مرحلياً على حساب قضايا آنية أكثد خطورةً وإلحاحاً ، وكأنهم بذلك في برلمان يتبع نظام إسلامي تحكمه أحزابهم وحركاتهم أشبه بالنظامين " الإسلاميين " السعودي والإيراني ، ومفصّل بالكامل على مقاس ايديولوجيات أحزابهم وجركاتهم الخاصة ، وليسوا في برلمان تعددي يمثل شعبا متعدد المشارب والافكار والثقافات والاديان والطوائف والقوميات .
ومن عجبٍ أن شخصيتين إسلاميتين كبيرتين أدركتا التعقيدات الموضوعية التاريخية لهذه الإشكالية في المرحلة الراهنة وكلتاهما تحظيان بإعجاب منقطع النظير من قوى وحركات إسلامية عديدة في عالمنا العربي ، وبخاصة "الإخوان المسلمين " ، ألا هما التونسي راشدالغنوشي والرئيس التركي رجب طيّب أردوغان الذي بعد وصوله للحكم أدى اليمين الدستوري باحترام نظام الدولة العلماني ، دون ان يثير ذلك حفيظة تلك القوى الإسلامية في عالمنا العربي ، ومن المستغرب ألا يستفيد برلمانيونا العرب الاسلاميين العرب من مثل هذه "العقلانية " النسبية لديهما في كيفية تطبيق شعارات الاسلام السياسي السياسية في عصرنا وإيمانهم بأنها لا تُحل إلا عبر تدرج مرحلي تاريخي ، وهو النهج الصحيح المفترض أن تعيه كل التيارات المعارضة اوالتي لها تمثيل كبير في حكومات مُنتخبة ،كالعراق ، على المدى البعيد رؤية مبادئه الايديولوجية مُطبقة على أرض الواقع . علماً بأن الغالبية العظمى من المراحع الدينية الكبيرة العراقية قد نأت نفسها عن هذه الأزمة المفتعلة في الظروف الراهنة المصيرية الغاية في الخطورة تاريخياً !