المنبرالحر

هادي العلوي اذا ما بُعِثَ حيّاً في زمن العوار: حيث الفساد "وجهة نظر" والفاسد "رجل دولة"! فخري كريم -2-

مات هادي العلوي "محظوظاً" إذ لم يواجه انهيار منظومة القيم التي تربّى وكرّس كل حياته العملية وكتاباته، لإشاعتها بين بني البشر. مات مع حلم انبعاث عراقٍ تتوارث أجياله الجديدة، توهجات الزمن "الهادي" الجميل، حلم العودة الى الاصول الممتدة في عمق الحضارة الإنسانية.
وكان من حظه ألاّ يرى خراب العراق الجديد، ولا يستظل بحكم أشباه الرجال، معطوبي الضمير.
ولو قُيّضَ له ان يعيش في هذا الزمن المعطوب الفاجع، غير القابل للترميم، على أيدي زعماء الصدفة البائسة، لمات كل يوم، وكل دقيقة، ولَتَيّبس في زاوية مظلمة في غرفة نومه، بلا حراك.
(٦)
كان هادي العلوي مثالاً للنزاهة والورع وصفاء السريرة. يكتوي وجدانه ويتوجع، من أي مشهد عرضي لما كان يرى فيه عقوقاً، ينتزع من الانسان بهاء كينونته، ويستخف بِرِفعَة مقامه، بوصفه "آية الله" في الأرض. ويتأوه بمرارة تغور في نسغ الألم الدفين، وتحت قيعانه المظلمة، كلما تنبّه لحالة عراقي يتضور جوعاً، ولا يتخلى عن عزّة نفسه وكرامته الإنسانية، ليبوح بإملاقه.
في تلك الأيام من مرحلة العمل للعودة إلى وطن يتعافى من دواعي الاستبداد، في العقدين السابقين لانهيار الدكتاتورية، كان حي السيدة زينب لوحده يغص بعشرات آلاف العراقيين، من المُهَجَّرين قسراً، والمهاجرين بحثاً عن ملاذٍ آمن. وفي وقت تعثرت أحوال الأغلبية منهم، وفاتتهم فرص الخروج من جحيم العوز والندامة، كانت قيادات الأحزاب الاسلامية، المتساكنة على مقربة منهم، تتشدّد وتستنفر قواها وعلاقاتها، لإجبارنا على تبني "البسملة" في ميثاق "لجنة العمل المشترك"، وإلا فدون ذلك الافتراق والتلاسن والتشظي!
سألني هادي العلوي، في لحظة استغراقٍ تصوّفي: هل أنت ضد الله؟
قلت له وانا في غاية الامتعاض، ألم تتابع عزيزي "أبا حسن" الحملة الإيمانية التي اطلقها "السرسري" (كما كان يصر على تسمية الدكتاتور)؟ ألا ترى أن جماعة "البسملة" والحملة الايمانية، خطان متوازيان يلتقيان، خلافاً للمنطق، في كرسي السلطة. وصفحات التاريخ الاسلامي تعج بالطغاة، من الخلفاء والسلاطين، الذين اتخذوا من اسم الله والاسلام باحة جور وتدنيس، للعبور فوق هامات أخيار الناس من المسلمين، فأيهم لم يستبح دماء العلماء والفقهاء والمثقفين، ويتكبر على خلق الله، وينهب خزائن دولة الخلافة في مختلف عصورها، وهو يحتمي بأسماء الله الحسنى: المنتصر بالله، المظفر بالله، والناصر بالله؟
ومثلما فعل أولئك، يتطلع هؤلاء منذ الآن، ليسدوا في وجوهنا باب الأمل، باسم الله، ولنؤخذ على حين غرّة، مخدوعين بما لا يمكن الاختلاف على "قدسية بسملته"، لنكتشف بعد فوات الأوان، سلوكاً ونهجاً وأسلوباً في الحكم، على مسافة اقرب ما تكون إلى الشيطان، وابعد ما تكون من ضفاف الرحمن وظله في الارض. حينها، سنكون قد ارتكبنا موبقتين، الافتئات على الله، وأخذ العراقيين بجريرة غفلتنا، بالتحايل عليهم!
بعد أسابيع أبلغت صديقي الأثير، ان الصراع على البسملة انتهى إلى تسوية مشرفة، باعتماد نسختين من بيان العمل المشترك: واحدة تتصدرها البسملة وقع عليها الإسلاميون، والأخرى "حاف" ظلت بلا توقيع لتغيبي عن حضور مراسيم التوقيع، وحضور قيادي آخر كان أشدنا تطرفاً في الموقف من إكراهنا على البسملة في غير موردها!
لم يمتد العمر بأبي حسن ليرى بأم عينيه، ماذا يفعل أصحاب "البسملة" وهم يستمرئون ارتكاب الكبائر والافتئات على الدين، و"يتبسملون" بعد كل "واقعة" محارم، ونهب وتعدٍ واستباحة لكرامة المسلمين، بعد ان اصبحوا حكاماً يأمرون بمعروفٍ، وهم في لحظة "مُنكَر"!
(٧)
أخبرني وزير التجارة الأسبق، الذي اُجبر على الهرب لا لحماية من الملاحقة، بل لِسَتر المكشوف، أن قيادياً ميدانياً، حمل اليه رسالة توصية، طلب بموجبها إسناد احدى المديريات العامة في الوزارة لاحد اعضاء تنظيمه الإسلامي. يقول: لمّا أبديت استغرابي من الطلب، واخبرته بأن المديرية فيها مدير خبير متمكن. واجهني بسخرية متعابثة وهو يقول: مولانا، ليش منو منكم خبير ان شاء الله. وكم واحد شهادته ما صادرة من سوق مريدي، لو..؟
يضيف: صرفته راجياً ان يأتيني بقرار من السلطان، وازددت استغراباً، وهو يعود بـ"التوصية" الخطية، ومعها اتصال تلفوني مشفوع برجاء: خَلصنا..!
قال وزير التجارة، وهو صادق: رفضت الطلب، لانه كان سيوقعني في جُبٍّ لا قرار له. واغرب ما اشار اليه السيد الوزير، أن صاحب الشفاعة طلب في المرة الاولى، مديرية ميزانيتها اكثر من مليار دولار، وفي المرة الثانية، اراد مديرية ميزانيتها اكثر ببضعة ملايين من الدولارات، وحين اخبرته (والكلام للوزير) بأن هذا حمل ثقيل، اجاب صاحب الشفاعة: هذا حقنا مولانا..!
يستطرد الوزير وهو يسُرني بهمومه، ويجيب على استفساري، منكرا صحة ما يُقال عن دور شقيقه في الوزارة والصفقات: كدت اقع في فخ آخر مع صاحب الطلب. فبعد أن أوضحت له استحالة تعيين مرشحهم، أخرج لي مناقصة استيراد سكر، كانت قد رست عليهم ولم تُنفذ وفات تاريخ صلاحيتها، وكان يفترض تغريمهم ما تنص عليه المناقصة، لكنه طلب تجديدها. اخبرته ان هذا خارج الضوابط، وان المفروض الزامكم الغرامة. فأجابني بكل اريحية: مولانا أستر علينا، بعد الاحالة زاد السعر العالمي للسكر، والان والحمد لله رجع نقص، وهذا يرجع لنا حقوقنا باللي خسرنا!
- والحكومة..؟
- يا حكومة دخيلك..!
(٨)
أحد رجال دولة القانون، برّر لرئيس مجلس الوزراء اعتماده على عناصر تحوم حولها الشبهات، وبعضها لا تحتاج إلى براهين حول قذارة دورها وماضيها، بأن "الوضع شديد الحراجة" ومسؤوليات الدولة المتشعبة، تفوق الإمكانيات المتاحة، وطبيعة الظروف والمتطلبات تقتضي استخدام مثل هؤلاء، المعروفين بـ"وساختهم"!
لم يقل الرجل كفراً، فظروف اغتصاب الدولة وانتهاك حرماتها ونهب ثرواتها، ليس بالامكان التعايش تحت سقوفها الواطئة، الا بمثل هذه الاشكال التي لم يكن لبعضها حظ الاستخدام في ظل النظام السابق.
لقد شعرت للحظات وانا أتبادل الهَّم مع أحد رموز النظام، بالقنوط واليأس من إمكانية معافاة الوضع الذي ينحدر بالبلاد الى قاع الفساد والتردي، وهو يرد على ملاحظاتي: لا اختلف معك، لكن "الحال من بعضه"، ولا يجوز توجيه الادانة للمالكي وحده على ما يجري في البلاد، فالكل شركاء!
قلت له: هذا صحيح الى حدٍ ما، فالساكت شيطان اخرس، والمتواطئ، شريك، ولكن هل يعني هذا أن نسكت على اللصوص وهم يتزاحمون علناً، ولم يعد احد منهم يخشى المساءلة!
طبعاً لا يخشون، ولكن لماذا تدفع الامور في هذا السياق من المبالغة. هل لك ان ترفع المسؤولية عن احد؟
لكنني ذكّرته بالحرام والحلال، ومآثر الائمة وتضحياتهم دفاعاً عن اعراض المسلمين واموالهم. فأجابني بمنتهى "المحبة": خليك غشيم وناضل، يا اخي الاتحاد السوفيتي انهار، وبعدك اتردد اقاويل "بايرة"، عليك ان تعرف ان لكل حالة جوابا من جعبة التفسير.
نعم، هذا صحيح، فالجدل يتحمل الخلاف، والامام علي قبل بالتحكيم ولو على كراهة منه، واحساس عميق بالخديعة التي لجأ اليها معاوية، وهو يرفع القرآن الكريم، وينادي: "إن الحكم الا لله"؟ وكانت لحظة اعتبار تأويل المقدس، والافتراء عليه، "وجهة نظر" قابلة للتحكيم!
(٩)
دون انتقاصٍ من أحد، كنا جميعاً، نعيش صعوبات حياتية متباينة التأثير في اساليب عيشنا. ولا عيب في ان حكامنا اليوم باستثناء قليل، انبعثوا بنحو مفاجئ وبمحض الصدفة، من شظف العيش الى بحبوحته، بسبب متطلبات النضال والعمل لإحقاق الحق، كما يقول إسلاميونا.
وما كان يجمعنا "احقاق الحق". ولكن ما الذي دهى هذا الحق، وما هذه اللعنة التي حلّت علينا، منذ اسلمنا القياد لهؤلاء الذين كانوا يتظاهرون في حواراتنا، بأنهم لن يحتكموا إلا لِلزوم كتاب الله، وشفاعة الائمة والاولياء؟
لا عيب في ان يعيش "أصحاب البسملة" ببحبوحة ويُسر. ولا ضَير في ان تتاح لهم ولذويهم فرص العمل، اكثر قليلاً من استحقاقهم، ولكن لماذا تزوير الشهادات، واعتماد خدمة الدين وأغراضه، والتسلح بمعرفة اصوله وشعائره، من وضوءٍ وتيمّم وجنابة وأسباب تحريم وبطلان صلاة، كشهادة عليا للتوظيف والتعدي على حقوق الآخرين؟
كيف يجوز شرعاً "من باب الإشاعة" أن يتولى نجل رئيس مجلس الوزراء، مهام رئاسية، ويتناقل الناس على اوسع نطاقٍ "مآثر" له في كل حول وصول، وتتعالى صيحات الغضب الحسيرة، ويبقى قادة الدعوة ودولة القانون وزعماء التحالف الوطني، في حالة صمت اهل الكهف، ويظل جواب ابي اسراء عند السؤال، واحداً لا يتغير: انه مجرد موظف صغير استفيد منه، ومدير مكتبي يشترط الإبقاء عليه لأنه نافع إلى ابعد الحدود. والحق يقال، انه "نافع إلى ابعد الحدود"، ومغفل من لا يعرف نفعه وفوائده.
ثم لماذا يظل احمد المالكي، هدفا، دون غيره من الأبناء؟
يا رب البسملة، انه حق بلا ادنى ريب، الكل سواسية في هذا الإناء الذي لا قاع له.
الابناء، والبنات، والاصهار، والمقربون من كل فخذٍ عامر، تتوزع في مؤسسات الدولة والسفارات والممثليات، افضال خبراتهم على شعبنا!
لننتقل الى مصاف آخر من اليسر بعد العسر، وشظف العيش.
بأي شرعٍ واسترجاعٍ من سلوك آل البيت، يتحصن رجالات دولتنا، في قصور عامرة آمنة، يتملكونها من الباطن بأسماء مموهة، ويشرد احد الابناء، عشرات العوائل من المنطقة الخضراء، بإغراء الشراء بثمن بخس، وباستخدام الوعيد والتهديد، واجبارهم على بيع ممتلكاتهم صاغرين ممتنين؟
ومتى كان الله، يُجيزُ لكل واحدٍ من هؤلاء تولى منصباً، الاحتفاظ بالعديد من السيارات والمصفحات امام بيته، وتحت تصرف ابناء اسرته وعشيرته، وله على الدولة بالاضافة، حق الوقود والصيانة، وتحديث الموديل أيضاً؟
(١٠)
لا اذكر ان احد رجالات دولتنا اللا دولة، حينما كنا في سوريا، استخدم سيارة ثمينة. قال لي احدهم ان من العيب أن نترفه، ونظهر أمام رعايانا، بحالة ميسورة وهم بالكاد يعيشون على كفاف مستور!
صاحبي هذا وكل مجايليه، واولاده، بعد ان اصبحوا اليوم في السلطة، يتفاخرون بالسيارات التي يتنقلون بها في بلدان الغير. ليس لاحدهم ان يتنقل دون ان يرافقه عديدٌ من المساعدين. لن يقبل اي مسؤول سابق ان يصل الى مطار دولة أجنبية، دون ان يكون في استقباله السفير وطاقم السفارة، ويواكبه ويحميه سرب من السيارات.
كتب لي صديق من المهجر، ان مسؤولاً امنياً رفيعا في دولتنا اللا دولة، دفع ملايين الدولارات للضريبة، بعد اكتشاف تحويل مالي له الى بلده الثاني "الأم في واقع الحال" كما أوردت ذلك الصحف المحلية. وذكرت الصحف، انه كان وأسرته يداومون على استلام رواتب اللجوء. انا لا اصدق، قلت للصديق وعاتبته، ونصحته ان لا يلتقط مثل هذا الشائعات المغرضة. وقمت بلفت انتباهه الى ان هذه الاقاويل، تقصد الاساءة الينا، نحن محبي الإمام علي والحسين الشهيد، وابي ذر العظيم.
في دولتنا، اليوم اكبر نسبة من مزوري الشهادات، واكبر عددٍ من اصحاب السوابق، ممن اجريت لهم جراحات تحويلية تجميلية.
وفي دولتنا المتحولة هي الأخرى، اكبر نسبة من الفاسدين اللصوص، والمرتشين والمتلاعبين بصناديق الرعاية الاجتماعية، والمتشاركين من الباطن مع اسر المسؤولين، بالمقاولات والعقود والتجارة البينية، والاستيلاء على فوائد التحويلات الداخلية والخارجية، عبر التحايل على فرق الوقت وسعر العملة، واكبر نسبة من المخبرين السريين، واكبر نسبة من الكبائر.
وبقدرة قادر، في دولتنا أيضاً، اعلى نسبة من المتدينين في النهار، واشدهم ورعاً من تحولوا من فدائيي صدام، ومسؤولين أمنيين في وزارات النظام السابق، الى مفتشين ملتحين، في جباههم وشم الوجاهة والتقوى.
في دولتنا اللا دولة، وبفضل الولاية الثانية، فساد لا مثيل له ولا شبيه في كل انحاء العالم: فساد حسب الطلب، وفساد للتصدير بإعلان المنشأ، او بتزويره.
في دولتنا التقية، المصانة بدعاء حكامها المتقين، هناك "وجهة نظر" لتكييف كل حالة.
بإمكان دولتنا، فتح دورات تتفوق على اعلى المعاهد الاميركية والاوربية، للتدريب على صناعة الفساد واشاعته، باعتماد وسائل الاقناع، لا القسر، باعتباره مجرد "وجهة نظر"!
ليس هذا فقط، لقد امكن التدريب على مفهوم جديد للقتل على الهوية، واعتبارها مصادفات هامشية، وتنافس على المنافع. والتعامل مع القتل اليومي، وتسلل الإرهابيين الى مخادعنا، باعتبارهما تضحياتٍ من الشعب، دفاعاً عن كرسي السلطان، ودورة ثالثة.
واهم من ذلك كله ان دولتنا تستطيع بكفاءة نادرة، ان تحول الفشل في كل مجال لا يرقى اليه الشك، نجاحاً باهراً وتفوقا على كل عدوٍ متربص من وراء الحدود.
لقد فاقت دولتُنا الدولَ العظمى، بعد ان تجاوز عدد اللصوص والفاسدين، معدلات الاغنياء في الولايات المتحدة ودول الخليج وربما العالم، وصار بإمكانها ان تدرب باكثر الوسائل كفاءة، التستر على الفاسد وعمليات الفساد، واستحالة الوصول الى ملفات الفاسدين، والعثور عليها خارج مخابئ ومكاتب "السلطان الرجيم".
في العراق الجديد ابتكرت العبقرية الشعبية، بعد ان تجاوز ضيمها كل حد واقتنعت بما انحدرت اليه، الاهزوجة التالية:
بالروح، بالدم، نفديك ياهو الجان!
لكن من استكان الى مغزى الاهزوجة المبطن واهم وعلى ضلال، فالشعب المستضام، لا ينام على الخيانة حين تصبح هي الاخرى مع الفساد، وجهة نظر!
(١١)
رفض هادي العلوي ان يسكن بيتاً فيه اكثر من غرفة نوم. وامتنع عن تناول مآكل، يتعذر على الفقير تناولها. فوجباته كانت عبارة عن رز ومرق. كان نباتياً، مؤمناً يترفع عن استباحة روح الحيوانات والطيور، حتى الكاسرة. وفي مروءة مبالغ فيها، لم يكن يقبل أخذ مكافأة على كتاباته، حتى انني خفت ان يبحث يوما عن حجة كي يدفع هو لقاء نشرها. وطوال سنوات المنفى، ترفع عن استلام اي مساعدة او دعم او هبة، سواء من دولة او مؤسسات او افراد.
وفي جهد استغرق نقاشا ممتدا، اقتنع بان حقوق نشر الكتاب، عمل تجاري يدر ربحاً على الناشر، وأن التنازل عنه ضربٌ من الإفساد. قناعته ظلت منقوصة ومشروطة باستلام حقوقه مثلما يرى ويحدد وعلى قدر الكفاية!
كان يختفي بين فترة وأخرى، وحين كنت اسأل عنه، او منه، كان يقال انه في جولة على بيوت المحتاجين في السيدة زينب، وبيوت العراقيين في مناطق أخرى، يوزع عليهم ما جمعه من ارزاق وتبرعات. أعلمته يوماً باستعداد رجل اعمال عراقي بالتبرع لجمعيته. فسأل عن مجال تجارته، ولم يكن فيه عيب او خلل كما كنت اقدر، لكنه تعفف قائلاً: قد يكون في تجارته ما تثار عليه الشبهة.
ومطلع كل عام، مع موسم رز العنبر، كان صديق عزيز من الشامية، يُرسل لي عدة أكياس، كنت أتقاسمها مع اصدقاء، وللعزيز هادي حصة أثيرة لأنه لا يأكل في وجباته، كنباتي، غير التمن. ثم فوجئت يوما بشقيقتي التي لم تلدها أمي، زوجته ام حسن، تقول لي امامه: ارجوك، قل لهادي ان يبقي لنا حصة تكفي ولو لطبختين من الرز!
يومها امتعض هادي، قائلاً: لن آكل رزاً "عنبر" لا يتوفر في الأسواق لغيري.
(١٢)
حكامنا الحاليون كانوا يومذاك يتنافسون على ولاية حسينيات السيدة. كان البعض منهم لا يتردد، ربما حتى اليوم، عن التعريض بإيمان هادي العلوي. وتجاسر بعضهم، في احدى المرات، هامساً بضرورة إصدار فتوى بإهدار دمه، وبالمرة دمي أيضاً.
لم يكن مفكرنا الكبير يشرب الكحول او يشجع عليه.
كانت خلواته الصوفية، وتحريمه المنكر، صلاة دائمة، وتقرباً من المطلق.
وفي الحرام والحلال، كانت القيم الانسانية مرفأه، ومنارته، وفناره.
ظل في حالة اندماج لا فكاك منها، بين تلك القيم والمفاهيم والمبادئ، والكينونة الانسانية الممتدة في رحم الأكوان المترامية التي تتمدد في اللانهاية.
في آخر محاولة لتأمين علاجه، أقنعته بقبول الذهاب إلى الاتحاد السوفيتي. وبعد ايام من سفره، وصلت موسكو، وسارعت الى زيارته. ولم يتأخر في أن يقول لي: كنت انتظر وصولك على احر من الجمر، لأعود من حيث أتيت!
- لماذا، ارجوك صديقي العزيز، أنت بحاجة لمتابعة علاجية؟
بكل بساطة قال: انني بوجودي هنا، أتجاوز على فرصة رفيق محتاج.
وغادر..
نم قرير العين ايها المترهب بأصول الإسلام، في زمن الأفاقين الذين صارت خيانة الأمانة والفساد حسب ما هم فيه من رذائل، "وجهة نظر".