المنبرالحر

زحمة يا دنيا زحمة / ابراهيم الخياط

كانت العرب تسمي الحصاة بنت الأرض، والكلمة بنت الشفة، والدمعة بنت العين، والمصيبة بنت الدهر. وفي المعنى الاخير قال المتنبي:

أبنتَ الدهر عندي كل بنتٍ   فكيف وصلتِ أنتِ من الزحام

وهنا يخاطب المصيبة ـ حاله حال أيّ عراقي سابقا ولاحقا ـ أن كيف استطعت يا مصيبة أن تصلي اليّ وسط زحام المصائب على بابي. ويعلمنا المتنبي أن الزحام ليس بالبشر فقط، كما جاء في المعاجم أن الزِّحام هو مصدر زَحَمَ وزاحَمَ أي تدافع الناس وغيرهم في مكان ضيق، ويوم الزِّحام هو يوم القيامة.
وقرأنا وسمعنا وشاهدنا الكثير عن الزحامات، ولكن لم نر مشهدا مثيرا للشفقة مثل الزحام على منصة المؤتمر الصحفي المشترك في 9 ايلول الحالي، لقراءة بيان الرئاسات وقادة الكتل المتنفذة، ففي أشد المناطق تخلفا وحين تذهب كاميرات القنوات لتصوير تحقيق تلفزيوني، لا يتزاحم حتى الاطفال مثلما تزاحم رجال السياسة في بازارنا على المنصة المذكورة. ولم يكن الزحام بشريا بل سياسي، انهم يبتلعون كرسي العراق مثلما الحوتة ابتلعت القمر.
ففي الساعة الثامنة والدقيقة الثالثة من مساء 8/11/1938 انخسف القمر في بغداد وراحت "الحوتة" تبتلعه تدريجيا، فضجت محلات العاصمة وسطوح دورها بضربات صاخبة من (التنكات والقدور والصواني والطبول والجفاجير) ليسمع صداها على بعد عشرة اميال، والكل يضرب ويراقب ويترقب ويردد: (ياحوته يامنحوتة.. هدي كمرنا العالي.. هذا كمرنا انريده.. هو علينا غالي.. وإن جان متهدينه.. اندك لج بصينية.. طاق طيق).
وتهدر الاصوات والضربات علّ الحوتة تخاف فتترك القمر وتهرب. وعلى رأس كل عكد وقف ابو طبل يضرب، وحوله صبيان يحملون الفوانيس ويتصايحون، و"الحوتة" لا تأبه لصياحهم، أما العجائز فقد اجتمعن في تلك الليلة المشؤومة فوق السطوح رافعات الأيادي بالدعاء: (ياقريب الفرج.. ياعالي بلا درج.. كمرنا طايح ابشدة.. ونطلب منك الفرج).
وعلى ضفاف دجلة ترى المرضعات والحبالى والمجبوسات (اللواتي لايحبلن) والخائفات من أن يتزوج عليهن أزواجهن، وقد وقفن صفوفا، وهن من الهول لا يفرقن بين الدعاء والصياح.
وبعد ثلاث ساعات ونصف الساعة، طلع القمر من جديد، فتصايح البغداديون من فوق السطوح وأعالي المنائر وبأيديهم الفوانيس واللمبات والشموع: (زاعته الحوتة!!.. خافت وزاعته!)، وعلت الهلاهل، وتبادل الناس التهاني، لأن الحوتة داخت و(انسطرت) من شدة الأصوات، فزاعت (أي تقيأت) القمر وهربت خائفة، وتنفست بغداد الصعداء .
وهذه الحيتان الطائفية لا تهدّ الكرسي مالم ندوخها ونسطرها بالهتافات والأهازيج والصراخ في التظاهرات السلمية، ثم نكتب نوتة التغيير يوم الانتخابات، يوم لاينفع (سانت ليغو معدل) ولا(هوندت) ولاجارة.