المنبرالحر

رحلة حلم نهار لواقع عراقي / لينا النهر

في نادي الرياضة، في مدينة مالمو السويدية اركض على التيار السائر للركض، واستمع الى الموسيقى العربية، العراقية بالذات. بعض الأغاني القديمة التي كنت استمع اليها في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات. للبعض منها كلمات جميلة، واُخرى بدون معنى، لكنها ترطب بموسيقاها الراقصة او العذبة منها. تربطني بها ذكريات كثيرة.
وانا اركض على السيار، اشاهد نفسي في مرآة امامي، وارى كل من خلفي من سمر وشقر، فتيات وشباب منهم من يجتهد في حركاته الرياضية وآخر يزيد من الثرثرة لكل من مر حوله. مازلت أضع رجل بعد اخرى. وبعد لحظات تأخذني الموسيقى بعيدا، مازلت اركض، مازال جسدي هنا. واراه هناك في نفس الوقت. يغمرني الفرح واترك نفسي لحلم النهار، لأرى نفسي اركض في البستان. بستاننا في كربلاء، من الدار الى النهر الذي ينتهي به البستان- الهنيدية.
ضفائري مربوطة بشرائط بيضاء وأرتدي بجامة ونعال صيفي. ابتداء بالانطلاق من عتبة الدار. اركض في مسار يشق اول قطعة فيها، قطعة الأعشاب. وأشم رائحة الخضار، رائحة الريحان بالأخص، لونه اخضر غامق ويفتح اللون كلما وصل أطراف النبتة، ترف الملمس، له وردة صغيرة جدا في الأعلى.
تحوط هذه القطعة الكبيرة نبتات البامية العالية، خضراء بورق اخضر كبير خافت اللون، كونه بياضا خفيفا جدا كالطحين يغطيه في طبيعته، ان لمسته أصابتك حرقة في الجلد. في الطرف الاخر ارى نخلتي الصغيرة المفضلة. مازلت أستطيع صعودها دون حاجه لما يعين، نخلة تحمل تمر البربن الأحمر، طعمه لذيذ وشكله رائع.
أصل الى ممشى اخر عرضي يصل بالقطعة الثانية للبستان. على جانب الممشى في الطرفين أشجار ليمون تنشر رائحتها المنعشة لتجدد النشاط، تفصل هذه الشجيرات القسم الاخر المليء بأشجار الرمان، وبعض النخل، وشجرتان من الموز. الرمان في ثلاثة انواع، الحلو الأبيض ( المعروف بالحلو من أمه)الأحمر الحامض والحامض حلو باللون يميل الى الوردي الغامق. اعرفه شجرة شجرة وكيف يكون طعمها. اركض لأرى في الرؤيا نفسي تحت شجرة الرمان، اجلس تحتها وفي حضني رمان كثير، أتذوق كل ان أنواعه، ليترك على فستاني بقع بكل الاوان.
استمر في الركض في طريق صغير اخر يفصل بيننا وبينا بستان جارنا سيد علي. ارى شجرة التوت الأحمر.بستان سيد على هي البستان الوحيد التي فيها شجرة مثلها. ارى نفسي بعمر اخر تحتها، ومعي من اهلي بعض الكبار والصغار في ظهيرة صيف، تحت ظل الشجرة البارد وأيادينا مليئة بالتوت واللون الأحمر، نضحك ونتطلع للطريق على ان لايكشفنا سيد علي، مع انه طيب ويسمح لنا من قطف ثمارها، ولكن ليس ان هبت عائله كاملة لايتركوها الا فارغة، هذا يأكل وهذه تضحك وهذا يحرس الطريق.
اتركهم وأكمل الركض متجهه الى القسم الثالث والأخير من البستان. الظلال يكثر بكثرة الأشجار وارتفاعها. القسم الثالث هو قسم الحمضيات. طرفي الممشى الصغير مزينة بأشجار اليوسفي وفي اخر طرف الطريق ورد الشمعدان كما تسميها جدتي ام حامد وهي من أحب الورود اليها.
في هذا القسم الكثير من أشجار البرتقال، تعليها أشجار النخيل الشامخة. ينتهي هذا القسم بأشجار التين كسور بين البستان والنهر الصغير. وتحت أشجار التين أعشاب النعناع. نعناع ام حامد الذي يضرب به المثل. أراها هناك تجلس جنبه، اركض اليها واسحب نفس كبير وعميق لاشبع نفسي من رائحتها والنعناع بين يديها، وهي مثله قوية، طيبة، زكيه، رائعه، مستمرة العطاء رغم الظروف. اسحب نفس بعد اخر واشعر بالحنان والمحبة والامان.
التفت لأرى مكينة المياه التي تسحب الماء من نهر الهنيدية لتفرغه في حوض متوسط كانت جدتي واخواتها ونحن الصغار وجدي بعض المرات معنا ايضا نتمتع بمياهه البارد في مساء صيف حار. اراهم هناك، جميعهم، ارى وجوههم وبسمتهم رغم الصعاب. الناس الطيبة البسيطة بتكوينها تحب الفرح والبسمة.
ابتسم لهم، وأبدا اركض مع الماء المتجه لروي البستان. اركض لاتسابق معه. اتتبعه، كيف يروي الارض، كيف يشق طريقه، كيف يبل التراب الذي يمر عليه، أشم رائحته- رائحة التراب المبلول، التي ليس لها وصف. اتتبع قوة تدفقه، كيف يكسر بعض الحواجز لمجاري اخرى، يخترق كل شي. واستمر بالركض حتى أصل عتبة الدار مرة اخرى.
اتمتع برحلتي الصغيرة هذه، انهي التمارين، أَطْفِئ سيار الركض وأحس بمتعة حقيقة، وامتنان لما عشت يوما، وأماني ان يكون لأطفالي وغيرهم مثل هذه الذكريات والمحبة رغم كل ما حولهم اليوم.