المنبرالحر

استراتيجية اسرائيل ازاء العراق (2) / فارس كريم فارس

كما يسعى المخطط الإسرائيلي الصهيوني في العراق إلى خلق قناعات بعدم جدوى الاعتماد على الجهود العربية سواء في اطار الدعم أو الحوار، وتشكيل اسس جديدة للتعامل المحلي والاقليمي والدولي ليؤدي ذلك إلى انشاء علاقات مع اعداء سابقين ومنهم اسرائيل، واحكام السيطرة بدعم امريكي على بلد شكل دائما عنصر تهديد مستقبلي في المنظور الإسرائيلي.
كما يقوم مخطط التفتيت على جعل دول الخليج العربي والمملكة العربية السعودية تحت الوصاية الاميركية المباشرة. "وشبه الجزيرة العربية بأكمله مرشح طبيعي للتجزئة نتيجة الضغوط الداخلية والخارجية وخاصة العربية السعودية، وبغض النظر عما اذا كانت قوتها الاقتصادية القائمة على النفط ستظل على حالها لا تمس أو ان هذه القوة ستتقلص على المدى البعيد فان الانشقاقات الداخلية تطور واضح وطبيعي في ضوء البنية السياسية الحالية. و"عزل مصر عزلاً كاملاً عن المشرق والخليج العربي من النواحي الاقتصادية والامنية وابقاء علاقاتها السياسية والثقافية بحدها الادنى في السودان وليبيا, واذا ما تجزأت مصر فان بلاداً مثل ليبيا والسودان بل وحتى الدول الاكثر بعداً عنها لن يكتب لها البقاء على صورتها الحالية وستلحق بمصر عند سقوطها وانحلالها. الا ان ثورة 30 يونيو 2013م التي ساند الجيش رفض الشعب المصري لحكم الاخوان المسلمين, قد اسقطت هذا الحلم الصهيوني الامريكي ازاء مصر.
وبغض النظر عن تفاصيل المخطط المذكور أو غيره من المخططات المعلنة وغير المعلنة، فإنها تعبر عن مراحل وحلقات متلاحقة، فلكل طرف دوره المحدد بما يتناسب والظروف والمتغيرات الدولية والاقليمية لتصب نتائجها في الاطار العام للاستراتيجية الإسرائيلية المستقبلية, فيعد مخطط تجزئة التجزئة أي التفتيت الاستراتيجي، من المرتكزات الاساسية للاستراتيجية الإسرائيلية، فان من المنطقي ان يكون صمام الأمان السعي إلى تفتيت هذه الأمة, فأصبح التفتيت استراتيجية شاملة في التفكير الاستراتيجي الإسرائيلي لما يوفره من استمرارية في تحقيق المخططات الصهيونية وضمان أمن كيانها القائم.
وفي العقد الاخير من القرن العشرين ظهرت مدرستان داخل اسرائيل لكل منهما رؤيتها الخاصة في تحقيق المشروع الصهيوني، والاختلاف في الرؤى يكون في الوسيلة وليس في الهدف وهما كالاتي:
المدرسة الأولى: تعتمد ايديولوجية قادة الفكر الصهيوني في التركيز على الجغرافيا من خلال اقامة الامبراطورية الصهيونية من الفرات إلى النيل، وعبر عن ذلك الخطيين المرسومين على العلم الإسرائيلي ليشيرا إلى نهري النيل والفرات. وتدعو هذه المدرسة إلى اقامة الامبراطورية الصهيونية بقوة السلاح من خلال افراغ الارض من سكانها العرب وبناء ترسانة نووية رادعة، والعمل على جلب اليهود من انحاء العالم كله. ويمثل هذه المدرسة الاحزاب الدينية كافة والحركات الصهيونية المتطرفة.
وجاء المشروع الصهيوني لإسرائيل الكبرى بما يسمى خطة شارون عام (1981)م عندما كان وزيراً للدفاع، وتركز هذه الخطة على ابتلاع الوطن العربي والدول الاسلامية للحفاظ على الامن، واشار المخطط الإسرائيلي عوديد بينون إلى مشروع اسرائيل الكبرى من خلال تدمير النظام العربي الحالي على اسس طائفية ودينية وقبلية وتحويل دوله إلى دولٍ تدور في الفلك الإسرائيلي، ومنع العرب من امتلاك اسباب النمو والتطور والسيطرة على منابع النفط. فنشر عوديد بينون هذه النظرية في كتاب بعنوان " خطـة اسرائيـل في الثمانينيات " عام (1982)م.
المدرسة الاخرى: بدأت تتبلور في العقدين الاخيرين من القرن الماضي، وظهرت نظريتها في كتاب (شمعون بيريز) عام 1993م بعنوان "الشرق الأوسط الجديد". ترى هذه المدرسة ان تحقيق الامبراطورية الجغرافية من النيل إلى الفرات بقوة السلاح ضرب من الخيال، فتطرح اقامتها على اسس الامبراطورية الصهيونية الاقتصادية. اذ ان اقامة السلام مع العرب يرتبط بالتنسيق الاقتصادي معهم، مما يجعل اسرائيل قوة اقتصادية كبرى من خلال قيادتها لاقتصاد المنطقة العربية وتسخير قدراتها البشرية. فتبنت المدرسة مشاريع التسوية لتوفير الاستثمارات المالية وبناء اقتصاد عصري وفتح الافاق لتنمية الزراعة والصناعة والسياحة والتعليم والمياه والطاقة، وتحت قيادة اسرائيلية. وأكد ذلك شمعون بيريز بقوله: "ان جمال عبد الناصر قادكم زمناً، والسعوديين زمناً، فاتركونا نقودكم زمناً لنثبت لكـم اننا قادرون على انهاء مشاكلكـم الاقتصاديـة والاجتماعية والثقافية".
فكان هناك هدفان متلازمان للمشروع الصهيوني الأول اقامة الدولة والاخر الهيمنة على المنطقة، وانتقل هذا الهدف من اطار الطرح النظري إلى دائرة التطبيق العملي بعد الحرب على العراق لتحتل اسرائيل موقعها المركزي على الصعيد السياسي والاقتصادي والامني. فأدى احتلال العراق إلى تحقيق عدد من المكاسب لإسرائيل في هذه المرحلة اهمها الاتي:
• زوال التهديد النووي العراقي بعد التأكد من عجزه عن الاستمرار في برنامجه النووي واضعاف العراق كدولة وشطبه من معادلة المواجهة لفترة طويلة من الزمن.
• تهيئة العراق ليكون ساحة للصراعات وتصفية الحسابات بين القوى الاقليمية (ايران, السعودية, تركيا) من خلال استخدام ادواتها او امتداداتها المذهبية والقومية الداخلية, وقيام قوات الاحتلال بتشجيع نظام المكونات والمحاصصة الطائفية والعرقية ودعم واسناد قوى الاسلام السياسي الطائفية والقوى المتطرفة لإنجاز هذه المهمة (تفتيت واضعاف الدولة العراقية لأقصى مدة ممكنة) وهو ما حصل ويحصل للوقت الراهن.
• انهاء فكرة الجبهة الشرقية وهي الفكرة التي راهنت عليها سوريا للتغلب على موازين القوى بينها وبين اسرائيل.
• وضع النظام السوري تحت ضغط واحتمال تعرضه للمصير ذاته الذي واجهه النظام في العراق.
• اظهار ضعف فكرة الامن القومي الواحد الذي يروج له انصار الايديولوجية القومية العربية وفشل انظمتهم السياسية في تحقيق أي شعار من الشعارات التي وعدوا الشعوب بها.
تعتمد الاستراتيجية الإسرائيلية في تحقيق اهدافها على الوجود والتأثير الاميركي الفعال في العالم والمنطقة, ان العلاقة بين الولايات المتحدة الاميركية واسرائيل علاقة من نوع خاص، فالولايات المتحدة الاميركية تتخذ من اسرائيل أداة توظفها لتحقيق استراتيجيتها في الشرق الأوسط، وإسرائيل واجهة لعلاقة سيطرة تمارسها القوى الصهيونية العالمية على الولايات المتحدة الاميركية، من خلال ضغط المؤسسات المالية والاقتصادية والثقافية التابعة لها في الولايات المتحدة الاميركية المتغلغلة في اجهزة صنع السياسات العامة بشكل منظم لتحقيق اغراضها.
مع الاشارة، إلى ان اسرائيل ليست مجرد موقع جغرافي أو تابع ينفذ ما يؤمر به وهي ليست حليفاً، لأنها تبدو في أحيان اكثر من مجرد حليف لتمتعها بقدرٍ كبيرٍ من الاستقلالية، وفي الوقت نفسه لا يمكن تصور الولايات المتحدة الاميركية كقوة مسلوبة الارادة أمام اسرائيل أيا كان حجم الضغوط عليها، فوصف العلاقة بين الطرفين بالعلاقة الفريدة من قبل الرئيس الاميركي الاسبق ريتشارد نيكسون عام 1974م هو اقرب إلى الواقع.
فيعد احتلال العراق مصلحة اميركية – اسرائيلية مشتركة، اذ ركزت معاهد الدراسات ومراكز الابحاث الخاصة بالتخطيط الاستراتيجي على رسم خريطة جديدة لمستقبل المنطقة واسقاط النظم العربية المعادية لإسرائيل وإضعافها ومحاصرتها وتقسيم المنطقة إلى دويلات طائفية وعرقية لتسهيل اقامة اسرائيل العظمى والحفاظ على امنها, وأعلن (انتوني زيني) العسكري والدبلوماسي الاميركي المتخصص في الاستراتيجية الاميركية في الشرق الأوسط في حوار له مع (CBS) في 20 ايار/ مايو عام (2004)م، ان الولايات المتحدة الاميركية شنت الحرب دفاعاً عن مصالح اسرائيل كأحد الاهداف الاساسية لها، وبناءً على دعوة مجموعة من المحافظين الجدد داخل الادارة الاميركية للدفاع عن مصالح اسرائيل.
وعموماً يمكن القول، ان احد اهم اسباب التفوق الإسرائيلي على محيطه العربي والإسلامي هو توظيف اسرائيل للقدرات كلها التي تؤمن لها الاستمرارية، ومن ابرزها الفكر الاستراتيجي المستقبلي أو بمعنى اخر التخطيط المستقبلي لدراسة المعطيات المحلية والاقليمية، ومتابعة ما ينطوي عليها من نتائج لتكريس وجودها المدعوم من القوى الكبرى.
فيا ترى هل يسعى حكامنا الحاليين الى توظيف القدرات الهائلة البشرية والمادية لبلداننا لتامين التخطيط المستقبلي الاستراتيجي للنهوض والتقدم ام لسرقتها وتوظيفها لمصالحهم الانانية الخاصة؟ سؤال نطلب من الحكام انفسهم الاجابة عليه.
انتهى