المنبرالحر

رسالة الى الشعب العراقي: انتبهوا.. القطار قادم !(1-2) / ياس خضير الشمخاوي

ثمة حماقات لا يسع الدكتاتوريات والأنظمة الرجعية أن تنتجها ما لم يتخلَّ المفكر والمثقف عن مسؤولياته التاريخية والأخلاقيّة تجاه الشعوب.
الجهل؛ المعول الذي يهدم المجتمع من جهة ويؤسس لإمبراطوريّة الوهم والرعب والتخلف والفقر من جهة أخرى.
وأصعب ما يواجه المستبد والمستعمر والتيارات المتطرّفة من ترسانة تفوق إمكاناتهم العسكرية وأجهزتهم القمعيّة، تلك الأفكار الحُرّة والحركات التنويريّة التي تذيب وجودهم.
وتبقى الشعوب المنتجة للفكر، الهاجس الذي يُقلق عروش الظالمين، ويُفشل مخططاتهم ويميت وحي الخرافة والسَفه الذي يُنعش تجارة الطفيليين والإنتهازيين.
تجيير المؤسسات الثقافية والتربوية لحساب السلطات الإستبدادية والجهات المنتفعة، المشكلة التي تعاني منها الحركات الإصلاحية والنهضات الفكرية الباعثة على توعية الجماهير.
ومن حيث يبدأ تغييب الوعي ومصادرة الحُريات تبدأ القطيعة بين الطبقات الحاكمة والشعوب المستضعفة، حينئذ ينشط الصدام بين القوى التقدمية، والتيارات الراديكالية التي تسعى بكل ثقلها الى تسخيف المجتمعات وتحجير عقولهم.
والمسرح كان واحدا من أهم القيم المعرفية والنتاجات الأدبية الى جانب الخطابة والشعر والفلسفة، في إنارة الفكر الإنساني وإشعال شرارة الثورات الشعبية ضد التسلط والجهل، مذ أن عرفه الإغريق كلون أدبي فاعل في توجيه مشاعر الناس وتطوير قدراتهم الفكرية لمواجهة الخرافات والأساطير الميثولوجية.
لذا كانت الجهات الحاكمة والطبقات الأرستقراطية والبرجوازية تحرص حرصا شديدا على تحييد المسرح إنْ لم تستطع قتله أو ضمّه تحت جناحيها لتحكم قبضتها على الكرسي وتزيد من سيطرتها على استغلال القوى العاملة والطبقات الفقيرة.
كما أن ذلك كان واحدا من أساليب السياسة الميكيافيليّة والرأسمالية البشعة في سلب السلاح المعرفي من المفكرين والقادة الثوريين، خصوصا بعد ان تدرّجت مكانة المسرح وأهميته في تربية وصناعة المجتمع.
وبعد ان بلغ المسرح ما بلغ من النضج في عصر شكسبير وموليير مرورا بغوته وأوسكار وليس انتهاء عند برنارد شو وبرتولت بريخت، أصبح المسرح مرآة المجتمع والعمود الفقري للفنون والآداب.
حيث أثرى الساحة الثقافية والأدبية والسياسية بألوان من المعـارف والتطلعات الحقيقية، وذلك لتنوّعه وملامسته قضايا وهموم الناس وقدرته على ترجمة أحاسيسهم وشعورهم إزاء الأحداث. فضلا عن توظيف طاقاتهم وصقل عواطفهم وشحذ عقولهم وتعبئتها، لجعلهم مجتمعا رساليا قائدا لا مقودا بالمعنى التقليدي والأعمى الساذج كسابق عهده عندما كان ملتصقا بالمؤسسة الدينية الحاكمة.
المسرح أضاف الكثير للعلوم الإنسانية والسيسيولوجية وترجم الكثير من الفلسفات والنظريات الاجتماعية والسياسية المعقدة، حيث جعلها بشكل أقرب ما تكون لإستعدادات المتلقي، نازلا بها الى ذهنية المستوى العام بعد أن كانت حكرا على نخبة معينة، فأضاف رصيد ثقافي آخر لمخزونهم المعرفي.
لا مبالغة اذن في مقولة المفكر والمؤلف المسرحي الألماني بريخت: (اعطني خبزا ومسرحا أعطيك شعبا مثقفا).
وما يهمنا من هذه التوطئة، إنّ المسرح في العالم العربي بشكل عام والعراق بشكل خاص رغم غزارته لم يبلغ النجومية العالمية، ولم تصل رسالته الفنية والوطنية الى مستوى طموح المثقف والناقد العراقي والعربي.
اذ لم يكن دوره يرتقي وإرثه الحضاري على الرغم من وجود منجزات عظيمة على صعيد التأليف والأداء والإخراج، لكنها أشبه بالجزر الصغيرة وسط محيط كبير، كما عبّر عنها المخرج والناقد العراقي الدكتور صلاح القصب أحد كبار روّاد مسرح الصورة.
وقد عزا ذلك الى أنّ الثقافة والفنون تحوّلت الى وظيفة يومية، وبالتالي أماتت الأبداع، كما إنّ الممثل والمخرج المسرحي عندنا لم يزل محلياً في أدائه على حد قوله، مما جعل فاصلا زمنيا كبيرا بيننا وبين التجارب المسرحية في العالم.
لا شك أن تلكؤ حركة المسرح في العراق رغم تميّزه عربيا له دواعيه وأسبابه الكثيرة، ومنها ما هو خارج عن إرادته لوقوعه تحت أسر سلطة الدكتاتوريين.
لكن بودّي أن اُسلط الضوء على نقطة مهمة أشار لها الدكتور القصب، ألا وهي تعثر مبدعينا من الإستفادة من تجارب المسرح العالمي والخبرات الأجنبية في الفنون المسرحية، وما يتعلق بها من علوم وتقنيات حديثة تخدم تطور المسارح فنيا وجماليا.
اذ أن تلاقح الآراء وإمتزاج الخبرات وحتى فهم الأضداد واتجاهات المدارس المغايرة، غاية في الأهميّة لتنضيج الأعمال والأفكار.
لم يكن أرسطو معبأ بشكل تقليدي أو مقتصرا على دروس أكاديمية أستاذه أفلاطون، لذلك لم تأتِ نتاجاته مستنسخة أو مكررة، وتلك المشكلة قد عانى منها المسرح العربي والعراقي على حد سواء.
فما كان لأرسطو أيضا أن يضع أولى لبنات نظريات الدراما العالمية، ويؤسس لهذا العلم تأسيسا اكاديميّا له بصمته الفنية الظاهرة حتى هذه اللحظة، لولا دراسته لأعمال ومسرحيات من سبقوه وعاصروه أمثال إسخيلوس، سوفوكليس وأريستوفان وغيرهم. وحتى السوفسطائيين الذين كان يختلف معهم منهجيا وفلسفيا وفكريا، كان لهم دور في بروز المذهب المسرحي الأرسطي على الساحة الفنية من خلال الجدل الفلسفـي والمعرفي.
لم يكن المسرح العراقي وأكاديميات الفنون العراقية عقيمة عاجزة عن انتاج الممثل والكاتب والمخرج والناقد والمُعِد، بل لدينا قامات مهمة وأرقام مميزة يصعب حصرها، أمثال حقي الشبلي، أسعد عبد الرزاق، قاسم محمد، سامي عبد الحميد، يوسف العاني، صلاح القصب، يوسف الصائغ، عوني كرومي، محي الدين زنكنة، أبراهيم جلال، شفيق المهدي، عقيل مهدي، عبد الخالق المختار، فاضل خليل، محسن النصار، ناهدة الرماح، عواطف نعيم، جعفر السعدي، أديب القليه جي، بدري حسون فريد، خليل شوقي، ياسين النصير، رشيد ياسين, علي مزاحم، صباح الأنباري، باسم الأعسم، حمودي الحارثي، أمل طه، فوزية الشندي، سهام السبتي وغيرهم كثيرون ممن سطع نجمهم في سماء الفنون المسرحية.
ولكن مشكلتنا تكمن امّا بعدم إستثمار خبرات الرعيل الأول بشكل جيد، وإما نقع في خطأ استنساخ التجارب السابقة الذي يقتل التجديد ويميت الأبداع.
ورغم كل المعوقات برزت طاقات شابة جديدة نزلت الى الساحة بثقة عالية إستطاعت أن تُثبت جدارتها على خشبة المسرح، وأن تُمتِع المتلقي بنتاجاتها وتبهر الناقد بأعمالها الأدبية والفنية.
ومع ذلك نقول: ما زالت تلك الطاقات بحاجة الى الإحتضان والرعاية وتوفير أسباب الصعود ماديا ومعنويا وكسر الحصار الثقافي عنها وعدم التعالي عليها كي تواكب المسيرة.