المنبرالحر

69 سنة على وثبة كانون.. انتفاضة الشعب الاكبر في العهد الملكي / د. حامد الحمداني

منذُ أن أقدم الإمبرياليون البريطانيون على احتلال العراق من جديد ،في أيار عام 1941، وإسقاط حكومة رشيد عالي الكيلاني، وتشكيل حكومة المدفعي بأمر من السفارة البريطانية، اصبح الشعب العراقي وحاكموه على طرفي نقيض، واتسعت الهوة بينهما إلى أبعد الحدود، وخصوصاً بعد الإجراءات الانتقامية التي قامت بها حكومتا المدفعي ونوري السعيد ضد كل من شارك أو ساند حركة الكيلاني والعقداء الأربعة، أو وقف ضد الاحتلال البريطاني..
لقد أدركت السلطة الحاكمة أن الأمور لا بُدّ وان تؤدي إلى الانفجار إذا ما سارت على ذلك المنوال، وبغية امتصاص الغضب الشعبي العارم، أقدم الوصي عبد الإله على تأليف وزارة توفيق السويدي، وأعلن في خطاب العرش عن عزم الحكومة على إعادة الأوضاع الطبيعية إلى البلاد، وإنهاء الأحكام العرفية، وإطلاق حرية الصحافة والسماح بتأليف الأحزاب السياسية.
وخلال فترة حكم تلك الوزارة تنفست الصحافة الصعداء، وظهرت العديد من الصحف الوطنية، وتمت إجازة خمسة أحزاب معارضة، وهكذا خلق توجه الحكومة انفراجا نسبيا في الاوضاع السياسية للبلاد، لكن هذا التوجه لم يرق للمحتلين وأعوانهم، وعلى رأسهم نوري السعيد وشلته، التي سعت بكل الوسائل والسبل إلى إسقاط وزارة السويدي، وتصفية كل مظاهر الديمقراطية، واضطهاد الصحافة والأحزاب، والعودة بالأمور من جديد..
فتش عن الاستعمار
لقد تم لنوري السعيد وأسياده المحتلين ما أرادوا، وسقطت وزارة السويدي، ليؤلف أرشد العمري وزارة جديدة، ادعى حين تأليفها أنها جاءت لإجراء الانتخابات النيابية، لكنها في حقيقة الأمر جاءت لتصفية الحياة الحزبية، وشل الصحافة، وقمع الشعب، ومصادرة حقوقه وحرياته العامة، وبدأت وزارة العمري تمارس سياسة القمع، مما دفع بالأوضاع نحو التدهور من جديد، وتصاعد التناقض بين الشعب وحاكميه..
وجاءت قضية فلسطين، وقرار اللجنة البريطانية ـ الأمريكية القاضي بتقسيم فلسطين بين العرب واليهود الصهاينة القادمين من مختلف أنحاء العالم، تنفيذا لوعد(بلفور) بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وقد أدى ذلك القرار إلى إثارة الغضب الشعبي العارم في كافة أنحاء العالم العربي، وقيام التظاهرات الجماهيرية الواسعة في بغداد وسائر المدن الأخرى ضد السياسة البريطانية والأمريكية وضد حكومة ارشد العمري الممالئة للإنكليز، وقد لعب الحزب الشيوعي دوراً طليعيا في تلك المظاهرات الكبرى، التي جرت في 28 حزيران والتي قابلتها الحكومة وأجهزتها القمعية بالرصاص، حيث استشهد العديد من المواطنين، وجرح أعداد كثيرة أخرى، وقامت الحكومة باعتقال المئات من المحتجين على سياستها..
ثم تلتها (مذبحة كاور باغي) التي نفذتها حكومة العمري ضد عمال شركة النفط في كركوك لتزيد الغليان الشعبي إلى درجة خطيرة وجاءت أزمة الحبوب وفقدان رغيف الخبز في مطلع عام 1947 لتصاعد من حدة التناقض بين الشعب وحاكميه، ولترفع من حرارة الغليان الشعبي..
في خدمة الإقطاع
فبسبب سياسة الحكومة الاقتصادية الرعناء، بسماحها بتصدير كميات كبيرة من الحبوب، إرضاءً لكبار الإقطاعيين والملاكين الزراعيين، على الرغم من سوء الموسم الزراعي ذلك العام بسبب شحة الأمطار، ورغم كل التحذيرات التي وُجهت إلى الحكومة من خطورة الوضع، وضرورة منع التصدير ذلك العام، إلا أن الحكومة أغمضت عيونها عن تلك التحذيرات، واستمرت في سياستها المتعارضة ومصالح الشعب وحياته المعيشية، مما سبب فقدان الحبوب في الأسواق، وارتفاع أسعارها، وقد لاقى الشعب صعوبات بالغة في الحصول على رغيف الخبز الذي اشتهر في تلك الأيام بـ (الخبز الأسود) لكثرة ما خلط فيه من مواد غريبة، وكانت صفوف المنتظرين أمام المخابز تثير الأسى والحزن على ما يلاقيه الناس للحصول على الخبز
كانت أزمة الخبز أحد الأسباب الرئيسة لقيام وثبة كانون الثاني المجيدة في مطلع عام 1948، فقد بلغ السيل الزبى ـ كما يقول المثل ـ وكانت الأوضاع تنتظر من يشعل الشرارة لتنفجر ثورة عارمة ضد نظام الحكم القائم..
التمهيد لفرض معاهدة بورتسموث
وجاء تسرب أنباء عن وصول وفد بريطاني بصورة سرية لإجراء مفاوضات مع حكومة صالح جبر لوضع مسودة معاهدة جديدة تحل محل معاهدة 1930، وتبين أن المفاوضات بين الطرفين كانت قد بدأت في 8 أيار واستمرت حتى 17 منه
وتم إجراء المفاوضات في قصر الرحاب، تحت إشراف الوصي عبد الإله الشخصي. كما سافر عبد الإله إلى لندن في 15تموز، وأجرى مباحثات مع المستر (بيفن) استكمالاً للمحادثات التي بدأت في بغداد، وبعد عودة الوصي إلى العراق استأنفت المباحثات بين الطرفين في 22 تشرين الثاني، واستمرت حتى 4 كانون الأول، وكان الجانب البريطاني يتقدم بمسودات متعددة للمعاهدة الجديدة، وسافر نوري السعيد وفاضل الجمالي وزير الخارجية إلى لندن، وأجريا لقاءات متعددة في وزارة الخارجية البريطانية، حيث قدم لهما مساعد وزير الخارجية مسودة جديدة للمعاهدة، وقد اتصل نوري السعيد برئيس الوزراء (صالح جبر) داعيا إياه إلى الحضور إلى لندن لاستكمال المباحثات حول مسودة المعاهدة، وقد لبى صالح جبر الدعوة، وغادر إلى لندن وبصحبته وزير الدفاع (شاكر الوادي) و(توفيق السويدي) بعد الاجتماعين الذين تمم عقدهما في قصر الرحاب، برئاسة عبد الإله، وكان الاجتماع الأول في 28 كانون الأول، وضم ذلك الاجتماع 7 رؤساء وزارات سابقين، و12 وزيراً بالإضافة إلى رئيس الديوان الملكي أحمد مختار بابان، ثم تلاه الاجتماع الثاني في 3 كانون الثاني حيث نوقشت فيه النقاط الأساسية التي سيتم التفاوض بشأنها.
ويقول السيد توفيق السويدي في مذكراته أن صالح جبر كان قد وزع على الحاضرين مسودة المعاهدة باللغة الإنكليزية، وعندما طالبته بنسخة عربية أجابني أنه لم يتسن لنا ترجمتها إلى العربية، ويضيف السويدي قائلا بأنه لم يجد ما يستوجب الاعتراض من الجانب السياسي، ولكن وجدت الجانب العسكري عليه الكثير من الاعتراضات، وقد رد عليّ صالح جبر بان هذا الأمر مدروس من قَبلْ، ومتفق عليه بهذا الشكل، وليس فيه ما يستوجب الاعتراض، الأمر الذي دل بوضوح على أن المعاهدة قد وضعت، واتُفق على موادها سلفاً، وإن الوصي أراد إضفاء الشرعية عليها، وفي نهاية الاجتماع تم تخويل الوفد العراقي برئاسة(صالح جبر) صلاحية التوقيع على المعاهدة. (2)
القوى الوطنية تستنكر
وعندما سرت أنباء اجتماعات قصر الرحاب، سارعت الأحزاب الوطنية الى الاحتجاج عليها بسبب استبعاد الشخصيات الوطنية منها، وأصدرت بيانات تندد بالحكومة وتستنكر سعيها إلى ربط العراق بمعاهدة جديدة اشد وطأة، وتمتهن سيادة واستقلال البلاد، مستهترة بإرادة الشعب وحقوقه المشروعة، وظهرت تلك البيانات في الصحف في اليوم التالي..
لكن الحكومة مضت في خططها لإتمام الصفقة مع المحتلين البريطانيين متحدية إرادة الشعب، حيث أعلن عن سفر الوفد العراقي إلى لندن في 5 كانون الثاني 1948.
وجاءت تصريحات وزير الخارجية فاضل الجمالي، والتي أشاد فيها بالمعاهدة العراقية البريطانية الموقعة في حزيران 1930، وبجهود الحكومة لعقد معاهدة جديدة مع الحليفة بريطانيا، وأهمية وضرورة عقدها، لتشعل أول شرارات الوثبة، فقد كانت تصريحات الجمالي استفزازية وقحة دفعت طلاب الكليات إلى الخروج في تظاهرات صاخبة تستنكر سعي الحكومة إلى عقد المعاهدة الجديدة، وقام طلاب كلية الحقوق بدور بارز في تلك التظاهرات، لكن الحكومة سارعت إلى دفع قوات الشرطة للتصدي للتظاهرات، مستخدمة أساليبها القمعية المعروفة لتفريقها، وقد أصيب عدد من الطلاب في الصدام، واعتقل البعض الآخر، وأقدمت الحكومة على تعطيل الدراسة في كلية الحقوق، في 5 كانون الثاني، وقد احتج أساتذة الكلية على إجراءت الحكومة وأساليبها القمعية في تعاملها مع الطلاب المتظاهرين، لكن الحكومة ردت باعتقال عدد من أساتذة الكليات والطلاب، واتهمتهم بحمل المبادئ الهدامة..
ونتيجة لسلوك الحكومة هذا إزاء الطلاب وأساتذة الكليات أعلن طلاب الكليات والمعاهد العالية إضرابهم عن الدراسة، وخرجوا في تظاهرات صاخبة سارت حتى بناية مجلس النواب للاحتجاج على الحكومة..
وبسبب تسارع الأحداث وتطورها، حاول وكيل رئيس الوزراء (جمال بابان) تهدئة الأوضاع فأمر بإعادة فتح كلية الحقوق، وإطلاق سراح الطلاب وأساتذتهم المعتقلين.
غضب شعبي عارم
على أثر إعلان نص المعاهدة التي وقعها (صالح جبر) مع (ارنست بيفن) وزير الخارجية البريطاني اجتاحت البلاد موجة من الغضب الشعبي العارم، ونشرت الأحزاب الوطنية في 18 كانون الثاني البيانات المنددة بالحكومة والمعاهدة، وطالبت البيانات باستقالة حكومة صالح جبر ورفض المعاهدة التي جاءت أقسى من معاهدة 1930 وأشد وطأة منها.
وسارع طلاب الكليات والمعاهد العالية إلى إعلان الإضراب العام، وتشكيل (لجنة التعاون الطلابي) التي ضمت مختلف الاتجاهات السياسية والحزبية، وقامت التظاهرات الصاخبة في بغداد، ثم ما لبثت أن امتدت إلى مختلف المدن العراقية في 18 كانون الثاني، وتصاعدت موجة التظاهرات في اليوم التالي عندما انضم إليها العمال والكادحون من سكان الصرائف المحيطة ببغداد، والكسبة والمدرسون والمحامون وسائر طلاب المدارس الثانوية والمتوسطة، واتجهت التظاهرات الى بناية مجلس النواب، وكانت الجماهير تنظم إليها خلال مسيرتها، والكل يهتفون بسقوط الحكومة وحل المجلس النيابي، ورفض المعاهدة..
سارعت الحكومة إلى إصدار بيان أذيع من دار الإذاعة، هددت فيه بقمع التظاهرات بكل الوسائل والسبل، وقد شكل البيان استفزازاً كبيراً لجماهير الشعب دفعهم إلى تحدي السلطة، وأعلن طلاب المدارس كافة تضامنهم مع جماهير الشعب وتحدي البيان..
وفي 20 كانون الثاني انطلقت التظاهرات الواسعة يتقدمها طلاب كلية الشريعة بجببهم وعمائمهم البيضاء هاتفين بسقوط حكومة صالح جبر والمعاهدة، وجابهتهم قوات كبيرة من الشرطة مطلقة الرصاص على المتظاهرين مما أوقع العديد من الشهداء والجرحى الذين نقلوا إلى المعهد الطبي والمستشفى التعليمي بجوار كليتي الطب والصيدلة، وقد أدى ذلك الصدام إلى انتشار لهيب الوثبة في بغداد وسائر المدن الأخرى.
الجماهير تتظاهر مستنكرة
وتصاعدت موجات التظاهرات التي اشتركت فيها جميع فئات الشعب من الطلاب والعمال والمثقفين والكسبة والكادحين من سكان الصرائف، واشتبكوا مع قوات الشرطة التي لم تستطع مجابهة المتظاهرين وولت هاربة رغم السلاح الذي كانت تحمله في أيديها، وما زلت أذكر تلك الأيام المجيدة من تاريخ كفاح الشعب العراقي بدقائقها، حيث كنت أحد الطلاب المشاركين فيها وشاهدت شرطة النظام وهي تولي هاربة من غضب الجماهير الشعبية وأسفرت تظاهرات يوم الثلاثاء 20 كانون الثاني في بغداد عن استشهاد أربعة من الطلاب والمواطنين إضافة إلى أعداد كبيرة من الجرحى.
لكن تلك التضحيات كانت حافزاً قوياً دفع جماهير الشعب إلى مواصلة الكفاح حتى تحقيق أهدافها في إسقاط الوزارة والمعاهدة معاً، وفي يوم الأربعاء 21كانون الثاني توجهت جماهير الشعب نحو المستشفى التعليمي لاستلام جثث الضحايا، لكن الشرطة فاجأتهم بوابل من الرصاص، وحاولت الجماهير الاحتماء ببناية كليتي الطب والصيدلة، وبناية المستشفى، ولاحقتهم الشرطة داخل البنايات المذكورة وقتلت اثنين منهم، كان أحدهم طالبا في كلية الصيدلة مما أشعل الموقف، ودفع عميدي كليتي الطب والصيدلة وأساتذة الكليتين إلى الاستقالة احتجاجا على انتهاك حرمة الكليتين، واحتجت الجمعية الطبية العراقية ببيان شديد اللهجة على تصرف الحكومة..
الحكام المرعوبون يتراجعون
وتدهور الوضع في بغداد والمدن الأخرى بسرعة أرعبت الحكومة والوصي (عبد الاله) الذي سارع إلى دعوة أعضاء الحكومة، وعدد من رؤساء الوزارات السابقين، وممثلي الأحزاب السياسية الوطنية، إلى عقد اجتماع في قصر الرحاب في 21كانون الثاني، لتدارس الوضع، والخروج من المأزق الذي وضعت الحكومة نفسها فيه، وكان من بين الحاضرين الشيخ (محمد الصدر) و(جميل المدفعي) و(حكمت سليمان) و(حمدي الباجه جي) و(ارشد العمري) و(نصرت الفارسي) و(جعفر حمندي) و(محمد رضا الشبيبي) و(ومحمد مهدي كبه) زعيم حزب الاستقلال و(كامل الجادرجي) زعيم الحزب الوطني الديمقراطي و(وعلي ممتاز الدفتري)ممثلا لحزب الأحرار، و(عبد العزيز القصاب) و(صادق البصام) ونقيب المحامين (نجيب الراوي).
وجرت في الاجتماع نقاشات حامية حول تطور الأوضاع بين الموالين للسلطة والمعارضين لها، وقد اتهم الوزير (عبد المهدي) المتظاهرين بأنهم عناصر شيوعية هدامة، ورد عليه السيد كامل الجادرجي بقوله (إن المتظاهرين هم عناصر وطنية وقومية عربية صرفة).
شعر الوصي عبد الإله بخطورة الموقف، وعدم استطاعة الحكومة مجابهة الشعب، وبعد مداولات دامت أكثر من خمس ساعات أصدر الوصي بياناً إلى الشعب يعلن فيه تراجع الحكومة عن المعاهدة ومما جاء في بيانه قوله { إذا كان الشعب لا يريد هذه المعاهدة فنحن لا نريدها أيضا}.
لقد أراد الوصي أن يمتص ببيانه هذا، الغضب الجماهيري العارم، الذي بات يهدد النظام، وهو في حقيقة الأمر كان مرغماً على تلك الخطوة وهذا ما أكده وكيل رئيس الوزراء (جمال بابان) نفسه للسيد عبد الرزاق الحسني، بعد قيام ثورة 14 تموز 1958 من أن الوصي عبد الإله أصّر في بادئ الأمر على استخدام الشدة والعنف مع المتظاهرين، وحصدهم حصداً !!، وبرر سكوته عن ذلك طيلة تلك المدة إرضاء للوصي وتستراً على موقفه من قصة رفض الشعب للمعاهدة التي عقدت بمعرفته وبتوجيهاته.
أدى بيان الوصي عبد الإله إلى حدوث انشقاق في صفوف الأحزاب الوطنية، فقد انشق حزب الاستقلال داعياً جماهير حزبه إلى التوقف عن التظاهر بعد بيان الوصي، فيما أصرت بقية القوى الوطنية على مواصلة الكفاح حتى سقوط حكومة صالح جير، وقيام حكومة حيادية تأخذ على عاتقها إجراء انتخابات حرة ونزيهة، وتطلق سراح كافة المعتقلين السياسي..
فزاعة الشيوعية
وفي الوقت الذي كان فيه الوصي يسعى بكل جهده إلى تهدئة الوضع، طلع علينا صالح جبر ـ رئيس الوزراء ـ بتصريح في لندن، في 22 كانون الثاني، يتهم المتظاهرين بأنهم عناصر هدامة من الشيوعيين والنازيين الذين اعتقلهم عام 1941 بعد إسقاط حكومة الكيلاني على يد جيش الاحتلال البريطاني، وتوعد في تصريحه بالعودة إلى بغداد لسحق رؤوس العناصر الفوضوية !!!، وكان صالح جبر بتصريحه هذا قد صب الزيت على النار، فانطلقت تظاهرات عارمة ضد الحكومة.
وفي 25 منه أعدت الحكومة البريطانية طائرة خاصة لنقل صالح جبر وبقية أعضاء الوفد إلى بغداد لمعالجة الوضع، وكبح جماح المعارضة الوطنية، لكن الطائرة لم تستطع الهبوط في مطار بغداد الذي طوقته الجماهير، واضطرت إلى الهبوط في القاعدة الجوية البريطانية في الحبانية، وتم نقله والوفد المرافق له بواسطة المصفحات والمدرعات، إلى قصر الرحاب خفية، حيث التقى بالوصي بحضور نوري السعيد، وتوفيق السويدي، وقد اتهم صالح جبر وكيله جمال بابان بالتهاون في قمع التظاهرات، وطلب من الوصي منحه الصلاحيات اللازمة للقضاء على الثورة الشعبية خلال 24 ساعة..
لكن جمال بابان أكد استحالة إنهاء التظاهرات دون استقالة الحكومة، وأيده في موقفه جميل عبد الوهاب ـ وزير الشؤون الاجتماعية ـ، فيما وقف نوري السعيد الى جانب صالح جبر داعياً إلى استخدام أقسى أساليب العنف ضد المتظاهرين، فما كان من جمال بابان إلا أن قدم استقالته من الحكومة احتجاجاً على انتقادات صالح جبر..
وفي ليلة 26 / 27 كانون الثاني، أصدر صالح جير بياناً يحذر فيه أبناء الشعب من التظاهر ويتوعدهم بإنزال العقاب الصارم بهم، وخول متصرفي الألوية (المحافظين) وأمين العاصمة ومدراء الشرطة صلاحية استخدام السلاح لتفريق التظاهرات، وإنزال قوات كبيرة من الشرطة لتحتل المراكز الحساسة في العاصمة وبقية المدن الأخرى.
الجموع الثائرة تتحدى..
وتحدت الجماهير الشعبية صالح جبر ونوري السعيد، واجتاحت شوارع بغداد وسائر المدن الأخرى تظاهرات هادرة، منددة بالحكومة، ومطالبة بسقوطها وسقوط المعاهدة، وبات الوضع خطيراً جداً في تلك الليلة، حيث كانت الاستعدادات تجري على قدم وساق من قبل الشعب من جهة، والحكومة وقواها القمعية من جهة أخرى، انتظاراً لصباح اليوم التالي 27 كانون الثاني. فلما حلّ ذلك الصباح تحولت شوارع بغداد والمدن الأخرى إلى ساحات حرب حقيقية، فقد نشرت الحكومة قوات كبيرة من الشرطة المزودة بالمصفحات في الشوارع الرئيسة، فيما نصبت الرشاشات الثقيلة فوق أسطح العمارات العالية ومنارات الجوامع، استعداداً للمعركة الفاصلة.
وفي الساعة التاسعة صباحاً بدأت الجماهير الشعبية في الأعظمية والكاظمية، وفي جانبي الكرخ، والرصافة تتجمع في الساحات العامة، ثم انطلقت في مسيرتها للالتقاء ببعضها، وقابلتها قوات الشرطة بوابل من رشقات الرصاص، استشهد على أثرها أربعة من المتظاهرين، ووقع العديد من الجرحى، مما زاد في اندفاع الجموع الهادرة واندفاعها، وإصرارها على التصدي لقوات القمع، وتقدمت تظاهرتان من جهة الأعظمية، ومن جوار وزارة الدفاع لتطويق قوات الشرطة التي حاولت الانسحاب إلى شارع (الملك غازي) سابقا، والكفاح حالياً، ولاحقتها جموع المتظاهرين مشعلة النيران بسياراتها ومصفحاتها، واستولت الجماهير على مركز شرطة (العبه خانة)، وتوجهت إلى ساحة (الأمين)، (الرصافي حالياً) في طريقها إلى الالتحام بجماهير الكرخ عبر جسر المأمون (الشهداء حالياً)..
كانت قوات الشرطة قد استعدت عند مدخل الجسر، حيث نصبت رشاشاتها فوق أسطح العمارات، ومنارات الجوامع، عند طرفي الجسر في جانبي الكرخ والرصافة لمنع مرور المتظاهرين عبر الجسر، ومعهم أمر بإطلاق النار على المتظاهرين المندفعين نحو الجسر، واستطاعت قوات الشرطة إيقاف زحف الجماهير نحو الجسر من جانب الرصافة في بادئ الأمر، مما دفع بجماهير الكرخ إلى الاندفاع نحو الجسر بغية عبوره، والالتحام بجماهير الرصافة المتواجدة في ساحة الأمين.
رصاص البغي يحصد الأرواح
وعند منتصف الجسر جابهتهم قوات الشرطة بنيران رشاشاتها المنصوبة فوق منارة جامعي (الوزير) و(الآصفية) في جانب الرصافة ومنارة جامع (حنان) في جانب الكرخ ومن المدرعات الواقفة في مدخل الجسر، وقد استشهد ما يزيد على 40 مواطنا، وجرح اكثر من 130 آخرين وتناثرت جثث الضحايا فوق الجسر..
اشتد ضغط الجماهير في ساحة الأمين على قوات القمع مما أجبرها على الانسحاب نحو الجسر، وتقدم المتظاهرون عبر الجسر، ومرة أخرى أنهمر عليهم الرصاص واستشهد عدد آخر وجرح الكثيرون، لكن الجموع ازدادت بأساً واندفاعاً أوقع الهلع في صفوف قوات القمع التي خافت أن تقع في أيدي الجماهير الغاضبة فولت هاربة تاركة ساحة المعركة تملؤها جثث الشهداء والجرحى..
حاول عبد الإله استخدام الجيش ضد الشعب، وأجرى اتصالا تلفونياً مع رئيس أركان الجيش الفريق (صالح صائب الجبوري) في 27 كانون الثاني، حوالي الساعة الثالثة والنصف عصراً، طالباً منه إدخال عدد من قطعات الجيش إلى شوارع بغداد، لكن الجبوري حذر الوصي من مغبة إدخال الجيش في شوارع بغداد، ولاسيما وانه لا يزال يعاني مرارة الاحتلال البريطاني عام 1941، وأكد الجبوري للوصي عدم ضمان وقوف الجيش ضد الشعب، واقتنع الوصي برأي الجبوري، وطلب منه البقاء على اتصال دائم بالقصر حتى ينجلي الوقف.
وفي الوقت الذي كانت الأزمة تتصاعد، قدم 20 نائبا في البرلمان استقالتهم، احتجاجا على الأساليب القمعية للحكومة ضد أبناء الشعب، بالإضافة الى استقالة وزير المالية (يوسف غنيمة) ووزير الشؤون الاجتماعية (جميل عبد الوهاب)
وفي الوقت نفسه كان عبد الإله مجتمعا في قصر الرحاب مع الشيخ (محمد الصدر) و(نوري السعيد) لبحث الموقف وسبل الخروج من الأزمة..
شأفة القمع تنكسر
كان نوري السعيد يلح على الوصي بقمع الحركة الشعبية، وطالب بإعلان الأحكام العرفية ومنع التجول، لاحتواء التظاهرات، فيما نصح الشيخ محمد الصدر الوصي بإقالة الوزارة لتهدئة الأوضاع، ولاسيما وأن التظاهرات قد امتدت إلى جميع المدن العراقية، وفقدت الشرطة سيطرتها على الموقف، وأشعل المتظاهرون النار في مكاتب الإرشاد البريطانية، في السليمانية، وكركوك والموصل، وأخذ الوصي برأي الشيخ الصدر على مضض، رغم كونه كان في الواقع يسعى إلى قمع الحركة الشعبية، وأوعز إلى رئيس الديوان الملكي (أحمد مختار بابان) للاتصال بصالح جبر والطلب منه تقديم استقالة حكومته، في 27 كانون الثاني 1948 الذي شهد أشد المعارك بين الشعب وقوات الحكومة، وقدم صالح جبر استقالته التي تم قبولها فوراً، وتوجه الوصي بخطاب إلى الشعب من دار الإذاعة، أعلن فيه استقالة الحكومة داعيا الشعب إلى الهدوء !!.
حقق الشعب في وثبته هدفين، فقد اسقط المعاهدة، واسقط الحكومة، لكن الوثبة لم تستطع حسم الصراع مع السلطة الموالية للمحتلين البريطانيين، على الرغم من هروب نوري السعيد وصالح جبر إلى خارج العراق ريثما تهدأ الأوضاع، فقد كانت حياتهم مهددة بخطر حقيقي لو تسنى للجماهير الوصول إليهما.
حاول الوصي عبد الإله تكليف الشيخ محمد الصدر بتأليف الوزارة الجديدة، نظراُ لتمتعه بمركز ديني كبير، إضافة إلى كونه من الطائفة الشيعية، حيث وجد أن الشيخ الصدر هو خير من يستطيع تهدئة الأوضاع..
لكن الصدر اعتذر عن المهمة رغم إلحاح الوصي، مما اضطره إلى تكليف أرشد العمري، وقد حاول العمري بالفعل القيام بهذه المهمة لكنه جوبه بمعارضة شديدة من قبل الأحزاب الوطنية التي مازالت تذكر الأعمال التي قام بها عند تشكيل وزارته السابقة، فهو بالنسبة للأحزاب الوطنية والشعب، غير مرغوب فيه، وهكذا فشل العمري في مهمته..
وفي الوقت نفسه أصدرت الأحزاب الوطنية (الوطني الديمقراطي والاستقلال والأحرار) بيانا إلى الشعب عن تلك الأحداث التي عصفت بالحكومة، وتضمن البيان ستة مطالب من الحكومة القادمة وهي :.
1 ـ الإعلان الرسمي عن بطلان معاهدة بورتسموث..
2 ـ إجراء تحقيق دقيق عن مسؤولية إطلاق النار على أبناء الشعب.
3 ـ حل المجلس النيابي، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة..
4 ـ احترام الحريات الدستورية..
5 ـ إفساح المجال للنشاط الحزبي..
6 ـ حل مشكلة الغذاء، بشكل يوفر للشعب قوته..
كما قام زعماء الأحزاب الثلاثة بالاتصال بالشيخ الصدر طالبين منه الرجوع عن موقفه، والقبول بتأليف الوزارة، ونزولاً عند رغبتهم قبل الصدر المهمة رسمياً في 29 كانون الثاني.1948.
إجراءات لتهدئة الشعب
وجاءت وزارة الصدر من نفس الفئة الحاكمة، باستثناء محمد مهدي كبه، ومن العناصر المعروفة بولائها للمحتلين البريطانيين، ممن لا يرتاح إليهم الشعب، ولاشك أن للسفارة البريطانية دوراً في اختيار الوزراء، وكانت وزارة الصدر، وزارة تهدئة بعد تلك الوثبة الجبارة التي أوشكت أن تطيح بالنظام، واستطاعت إسقاط حكومة صالح جبر وإسقاط المعاهدة، ومن أجل تهدئة الأوضاع أقدم الصدر على تنفيذ الإجراءات التالية :.
1 ـ أتخذ مجلس الوزراء في جلسته المنعقدة في 31 كانون الثاني قراراً بإلغاء معاهدة بورتسموث وإبلاغ الحكومة البريطانية برغبة العراق بعقد معاهدة جديدة تحقق طموحات الشعب العراقي في الحرية والاستقلال الناجزين، وقد عارض القرار الوزير عمر نظمي الذي قدم استقالته من الحكومة احتجاجا على القرار!.
2 ـ قررت الحكومة في 2 شباط تأجيل جلسات مجلس النواب لمدة 50 يوماً، لامتصاص غضب الجماهير، لكن الحملة اشتدت على المجلس من قبل الأحزاب الوطنية والصحافة والاحتجاجات الشعبية مطالبين بحل المجلس وإجراء انتخابات حرة ونزيهة، ولم ترَ الوزارة بد اً من النزول عند الضغط الشعبي وضغط الأحزاب الوطنية والصحافة، واضطرت إلى اتخاذ قرار بالطلب من الوصي بإصدار الإرادة الملكية بحل المجلس النيابي في 22 شباط، تمهيداً لإجراء انتخابات جديدة..
3 ـ كانت حكومة صالح جير قد اتخذت العديد من الإجراءات ضد الصحف، فأحالت العديد من محرريها ومدرائها المسؤولين إلى المحاكم، وأصدرت الأحكام الجائرة بحقهم، بسبب مواقفهم المناهضة لمعاهدة بورتسموث، وقد اتخذ مجلس الوزراء قراراً بعودة الصحف المعطلة إلى الصدور من جديد، وإطلاق سراح الصحفيين المعتقلين، والذين صدرت بحقهم الأحكام بالسجن، كما جرى إطلاق سراح معظم الطلاب الذين اعتقلوا خلال أحداث الوثبة، وإعادتهم إلى مدارسهم وكلياتهم.
4 ـ قرر مجلس الوزراء فسح المجال للنشاط الحزبي، بعد أن كانت الحكومة السابقة قد ضيقت عليها بكل الوسائل والسبل، بسبب مناهضتها معاهدة بورتسموث..
5 ـ تم سحب البعثة العسكرية البريطانية من الجيش العراقي في 22 آذار 1948، والتي كانت المهيمن الحقيقي على الجيش..
6 ـ سعت الحكومة إلى الاتصال بمجلس الطعام الدولي لغرض الحصول على 30 ألف طن من الحنطة بشكل عاجل، لمعالجة أزمة الخبز التي سببتها حكومة أرشد العمري..
7 ـ وافقت وزارة الداخلية على جمع مبلغ 50 ألف دينار لغرض توزيعها على عوائل الشهداء والجرحى، الذين سقطوا خلال الوثبة الوطنية.
بغداد لا تستكين
ورغم كل هذه الإجراءات، استمرت التظاهرات تجوب شوارع بغداد احتجاجاً على عدم إطلاق سراح المعتقلين والسجناء الشيوعيين، وعلى رأسهم مؤسس الحزب (يوسف سلمان) فهد، ورفيقيه(زكي بسيم) و(حسين محمد الشبيبي)، أعضاء المكتب السياسي، وكذلك المطالبة بفسح المجال لحزب الشعب، وحزب التحرر الوطني الذين ألغت حكومة العمري إجازتيهما، للعمل الحزبي من جديد، ومطالبة الحكومة باتخاذ سياسة أكثر حزماً تجاه الهيمنة البريطانية على العراق، وتجاه القضية الفلسطينية، التي يعتبرها العرب قضيتهم الأساسية، والوقوف ضد المخطط الإمبريالي الأنكلوـ أمريكي الهادف إلى إقامة كيان سياسي لليهود في فلسطين.